الحرب الأهلية في إثيوبيا ودوافعها الحقيقية
بقلم خالد موسى دفع الله
مع قرب نهاية المهلة التي أعلن عنها رئيس الوزراء آبي أحمد لمهاجمة مكالي عاصمة إقليم التيغراي في المرحلة الثانية من خطته للحرب، يتخذ الصراع أبعاداً جديدة أكثر تعقيداً، وأصبحت البلاد على حافة الانحدار لحرب أهلية لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمآلاتها النهائية.
أثبتت الخطة التي كشفت عنها الحكومة الإثيوبية أن الحرب لإخضاع الإقليم مرة أخرى لسلطة الدولة تتكون من ثلاث مراحل، وأنه تم إنجاز المرحلتين الأولى والثانية بنجاح، وأن المرحلة الثالثة هي مهاجمة عاصمة الإقليم وتحريرها من جبهة تحرير التيغراي، والقبض على قادتها ومحاكمتهم بتهم الخيانة العظمى، والتمرد على الدولة وخرق الدستور.
في المقابل تتمسك جبهة تحرير التيغراي بقيادة دبرستين قبريميشل بمواصلة الحرب عبر أربع جبهات، مع توفر ترسانة عسكرية بعد هجومها على القاعدة الشمالية للجيش، والاستيلاء على العتاد العسكري بما في ذلك منظومة مدفعية لها القدرة على ضرب أهداف بعيدة المدى مثل الضربة الصاروخية التي وجهت إلى مطار أسمرة ومطار بحر دار داخل إثيوبيا مؤخراً.
وقالت الجبهة في تعميم صحفي إن جيش جبهة تحرير التيغراي يقاتل في أربع جبهات، ونحت باللائمة على إريتريا التي أحدث جيشها اختراقات في الجبهة الشمالية الشرقية للأقاليم وتوغل إلى الداخل.
لكن يبدو أن جبهة تحرير التيغراي تعاني أكثر من الحصار الاقتصادي الذي فرضته الحكومة بتوقف البنوك، وقطع الاتصالات، وانعدام العون الإنساني، وشح الغذاء والدواء مع تساقط مزيد من القتلى المدنيين جراء القصف الجوي وتدمير المنشآت المدنية. وعبرت جبهة التيغراي عن مخاوف جدية من أن توقف الخدمات المصرفية سيخلق مجاعة.
لا شك أن شعب التيغراي الذي يمثل 6% من سكان إثيوبيا لا يحارب من أجل الفيدرالية الإثنية التي قننها الدستور، وانقلب عليها آبي أحمد عندما قام بحل الجبهة الحاكمة، وأنشأ حزب الازدهار الجديد، لكنها من أجل استعادة نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري المفقود الذي ظلت تتمتع به في الحكم منذ سقوط نظام منقستو تحت قيادة ملس زيناوي في بداية عقد التسعين من القرن الماضي.
ومع استمرار الحرب يبدو رئيس الوزراء آبي أحمد واثقاً من كسبها على المستويين العسكري والسياسي بعد أن حشد دعماً سياسياً وشعبياً من الأقاليم المجاورة للتيغراي. مع تنشيط جبهة إريتريا حيث قرر الرئيس الإريتري أسياس أفورقي خوض الحرب لجانب الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا ضد الإقليم الذي تولي قيادة الحرب ضده في عام 1998.
ولتعزيز قدراتها العسكرية سحبت الحكومة في أديس أبابا بعض كتائب جيشها ومنظوماتها العسكرية من الصومال وأعادت نشرها حول الإقليم. ونفت جبهة التيغراي دخول القوات الخاصة الصومالية للحرب، على عكس قوات الأمهرا التي بدأت خوض حرب ضروس ضد جبهة التيغراي في الجبهة الشمالية.
وصلت الحرب إلى مرحلة كسر العظم، فقد رفض آبي أحمد الوساطات الإفريقية للتفاوض خاصة من رئيس وزراء السودان عبد الله حمدوك رئيس منظمة (إيقاد) ورئيس جنوب إفريقيا ورئيس الاتحاد الإفريقي. وجرت في يوغندا اجتماعات غير رسمية دعا لها الرئيس يوري موسيفيني دون أن تخرج بأي نتائج إيجابية.
تجري مبادرات دبلوماسية غير معلنة من قبل الاتحاد الأوروبي ومن بعض أطراف الإدارة الأمريكية وقيادات في الكونغرس. لكن اللافت للنظر دخول الإمارات على خط الوساطة، حيث هاتف وزير الخارجية الإماراتي طرفي النزاع داعياً إلى التهدئة والانخراط الفوري في المفاوضات السياسية.
ولعل اهتمام الإمارات بالحرب الداخلية في إثيوبيا يعود إلى تخوفها من توسع رقعة الحرب وامتداد التوتر ليشمل دولاً أخرى في القرن الإفريقي، ممَّا يتعارض مع وجودها العسكري والأمني في البحر الأحمر، حيث استأجرت قواعد عسكرية في إريتريا من أجل تعزيز أهدافها العسكرية في حرب اليمن. هذا فضلاً عن وجود أكثر من عشر قواعد عسكرية لقوى دولية في البحر الأحمر.
تتفاقم الأزمة الإنسانية مع استمرار الحرب، حيث عبر حدود السودان أكثر من 30 ألف لاجئ، وقدرت الأمم المتحدة عدد المحتاجين إلى العون الإنساني بأكثر من 9 ملايين في المنطقة. وهذا ما دعا الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للدعوة لضرورة وقف الحرب، وفتح المعابر لإيصال العون الإنساني للمتضررين.
ويخشى المجتمع الدولي من شبح تدويل الحرب وإخراجها من النطاق الداخلي لتهديد الاستقرار في القرن الإفريقى. ووفقاً لذلك أدان تيبور ناجي مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية ضرب مطار أسمرا، وعده محاولة لتدويل الحرب. كما وصفت سوزان رايس مستشارة الرئيس أوباما للأمن القومي والمرشحة لتولي منصب كبير في إدارة بايدن محاولة مهاجمة مدينة ميكالي بأنها جريمة حرب.
تزامناً مع تعنت رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لوقف المعارك الحربية أو القبول بالتفاوض شككت دوائر دولية، وآخرها صحيفة (نيويورك تايمز) في حكمة منح جائزة نوبل لرئيس الوزراء الإثيوبي.
وفي الوقت الذي تخوض فيه إريتريا الحرب ضد التيغراي مع رئيس الوزراء آبي أحمد على جبهة (زلامبيسا) قرر السودان الوقوف على الحياد، ونشر تعزيزات عسكرية على الحدود مع إثيوبيا لمنع تدفق السلاح أو استغلال الحدود لتقديم تعزيزات عسكرية إلى أي من الطرفين.
وقد زار رئيس هيئة أركان الجيش السوداني الحدود معلناً بأن السودان لن يسمح بتمرير أي نوع من المساعدات العسكرية لأي من أطراف الحرب. وكانت مجلة (فورين بوليسى) الأمريكية قد أكدت أن السودان سيكون هو الدولة المتحكمة في مخرجات الحرب في إقليم التيغراي، من خلال استغلال الحدود لتمرير المساعدات والعتاد العسكري. وتراجع السودان عن استغلال الموقف، والسعي لإجراء أي مساومة سياسية مع أديس أبابا وذلك من خلال القيام بإغلاق الحدود ومنع وصول أي دعم لجبهة التيغراي، مقابل أن تعترف أديس أبابا للسودان بسيادته على منطقة (الفشقة) الحدودية المتنازع عليها رغم اتفاق الطرفين على ترسيم الحدود.
ربما تنجح الخطة العسكرية للجيش الإثيوبي في الاستيلاء على عاصمة إقليم التيغراي، ولكن لا يعني هذا نهاية الحرب التي ستستمر بأشكال أخرى. إذ زادت الحرب من تعميق الانقسام المجتمعي والشعبي، وزادت من حدة الاستقطاب الإثني داخل إثيوبيا. ومع غياب أي مشروع سياسي للتسوية، ومراجعة نظام الحكم الذي يقوم على الفيدرالية الإثنية، وكذلك غياب منبر تفاوضي لحل الأزمة فإن الحرب الأهلية لن تقف في حدود إثيوبيا بل ستهدد الاستقرار السياسي في القرن الإفريقي مع كلفة إنسانية عالية من القتلى والجرحى واللاجئين والنازحين وتفشي المجاعة والأمراض.
ولا سبيل لوضع حد لهذه المأساة الإنسانية واحتواء آثارها السياسية إلا بتصعيد الضغوط الدولية والإقليمية على رئيس الوزراء آبي أحمد للقبول بحل وسط للتفاوض السلمي. وتكمن الأزمة في اعتقاد آبي أحمد أنه قبل القبض على قادة إقليم التيغراي ومحاكمتهم سيمثل تهديداً لمستقبل حكمه السياسي.
وعلى المستوى السياسي فإن تراجع آبي أحمد عن نظام الفيدرالية الإثنية، ومحاولة تبديله بوحدة فيدرالية بين الأقاليم المختلفة لم يحظ بنقاش سياسي ومجتمعي كبير من أجل تعزيز فرص قبوله الشعبي.
وتحتفظ جبهة تحرير التيغراي بالكرت الأخير في لعبة الحرب والسياسة، وهو إعلان استقلال الإقليم عن إثيوبيا من طرف واحد.
ورغم أن الدستور الراهن يعطي الأقاليم حق الاستقلال فإن الحكومة الفيدرالية لن تعترف بأي استقلال من طرف واحد. ولا شك أن الإقليم لا يمتلك مقومات الدولة المستقلة، وستواصل الحكومة الفيدرالية محاولاتها لإخضاع الإقليم لسلطتها بالقوة كما هو حادث الآن للمحافظة على وحدة الأراضي الإثيوبية.
الجانب الخفي في هذه الحرب هو المنافسة السياسية الحادة بين آبي أحمد رئيس الوزراء وبين قائد جبهة تحرير التيغراي دبرستين قبريميشل الذي لعب دوراً في حرب التحرير ضد نظام منقستو، وكذلك في نهضة إثيوبيا في مجال الاتصالات. حيث اعترض قبريميشل على تولي آبي أحمد منصب رئيس الوزراء، ووصفه بأنه يفتقد إلى النضج السياسي لتولي أعباء المنصب. ويرى أنه هو الأحق بالمنصب في تسلسل القيادة الهرمية لجبهة التحرير. لكن صعود آبي أحمد وضع حداً لسيطرة التيغراي على الدولة، وعمل على هندسة نظام سياسي عمل على تقليم أظافر قوتهم التاريخية. لذا فإن جذور الحرب الجارية بين آبي أحمد والتيغراي متعددة الوجوه سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً.
ولا شك أن عزل التيغراي عن مصادر قوتهم وتاريخ سيطرتهم السياسية على إثيوبيا خلال ثلاثة عقود سيكون له ثمن في مشروع إعادة الهندسة السياسية الجارية. لا يهم من ينتصر في حرب النفوذ والسيطرة والإقصاء والطموح السياسي بين النخب، لكن الخاسر الأوحد سيكون بالتأكيد الشعب الإثيوبي.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)