بقلم د. عبد السلام أحمد أبو سمحة
استاذ الحديث المشارك/ كلية الدراسات الاسلامية والعربية بدبي
مساعد الأمين العام للندوة الدولية للحديث الشريف
يتحدث البعض عن هذه النقطة من باب أنها الضربة القاضية للتفريق المنهجي في التصحيح والتضعيف بين المتقدمين والمتأخرين.
والحقيقة أن قضايا العلم ليس فيها ضربات قاضية لأننا في ساحة بحث علمي، ونقد موضوعي، شعارنا فيه: ((رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب)) و ((الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها)).
ومن هنا فإنني أتناول هذه المسألة النقدية في نقاط محددة:
أولا: مصطلح المتقدمين والمتأخرين، ليس مصطلحاً مبتدعًا، ولا هو جديد على ساحة البحث العلمي؛ بل على العكس تماما: فهو مصطلح مستخدم لدى أئمة المتأخرين بكثرة.
وتنوع استخدامهم لهذا المصطلح (تمثيلاً لا حصراً) في الموضوعات الآتية:
التراجم: فتجدهم يذكرونه في تراجم الرواة من أعلام المتقدمين بياناً منهم لمنزلتهم مقارنة بالمتأخرين (وهذا أمر لا يختلف فيه أحد).
الاحكام النقدية: ويستخدم هذا المصطلح في بيان تعارض الأحكام النقدية جملة أو تفصيلا بين المتقدمين والمتأخرين، أي ما خرج مخرجا عاماً أو كان تعليقاً على حكم حديث من الأحاديث فتجد العلماء يذكروا حكم المتقدمين ومن ثم المتأخرين، بالنص على لفظ: المتقدمين والمتأخرين. (وهذا لا يخالفنا عليه أحد في ظني) .
التحرير الاصطلاحي: نجد أن بعض أهل الاصطلاح يستحضر المقارنة بين المتقدمين وبين المتأخرين في مسائل اصطلاحية كثيرة، نحو: زيادة الثقة، وتقسيم الحديث المقبول، وينص أيضا على لفظ: المتقدمين والمتأخرين.
نتيجة هذه النقطة: يُقر العلماء بوجود؛ فئة المتقدمين وفئة والمتأخرين.
وهذا أيضا في ظني لا يخالفنا فيه أحد، وأدرك تماماً أن نقطة الخلاف مع أحبتنا تكمن في: التفريق المنهجي في التصحيح والتضعيف، وهذا لا أريد الحديث عنها، إنما ارصد اللفظ فقط.
إذا: فاللغة العلمية المستخدمة من العلماء أقرت من حيث المبدأ وجود المتقدمين والمتأخرين.
ثانيا: ما دام أن اللغة العلمية والتي تعكس الإقرار العلمي أثبت وجود هاتين الفئتين بإقرار علماء المتأخرين تأتي هنا اشكالية التحديد الزمني لضم هذا العالم للمتقدمين وذاك العالم للمتأخرين.
يتوهم البعض سطحيةً أن عدم التمكن من تحديد زمن محدد هو ضربة موجعة لمن يقول بالتفريق، وهذا وهم ساذج، كنت أقول أنه لا يستحق النظر والرد عليه، والسبب في ذلك أن كلمة العلماء تكاد تتفق على وجود المتقدمين والمتأخرين في شتى العلوم، وعلوم الحديث واحد منها، وعدم تحديد سنة التفريق رقمياً كما يطلبها البعض، لا تنفي هذا الاتفاق.
ثالثًا: قد يأتي من يقول: التفريق المنهجي هو المشكلة، فأقول له: حنانيك حنانيك، نحن لا نتحدث عن التفريق المنهجي، بل حديثنا عن اتفاق العلماء على وجود المتقدمين والمتأخرين.
والسؤال: هل يتفق العلماء على ذلك من غير ان يكون لديهم تصور في الفارق بين الفئتين ممن وصفوا، إن لم يكن لديهم فالتقسيم عبث، وحاشا أن نصف العلماء بذلك، إذا من المهم البحث عن الفارق؟
أنت يا عبدالسلام (يقول قائل): ما هو رأيك؟ سؤال من المفترض أن يسأله أي قارئ!!! للإجابة إليكم رابعا.
رابعاً: العلوم كائن حي، والكائن الحي في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة لا يأتي في وقت محدد بالضبط.
يعني لو سألت السؤال الآتي: متى يبلغ الولد؟
نقول إنه يمر في مرحلة انتقالية من الطفولة إلى الى البلوغ تتلاشى فيها صفات الطفولة تدريجياً وتبدأ صفات البلوغ التي تتوج بالاحتلام للغلام أو الحيض للفتاة.
وحال العلوم كذلك فالانتقال من مرحلة المتقدمين إلى مرحلة المتأخرين لا يأتي دفعة واحدة، بل يمر في مرحلة انتقالية اسميتها البرزخية العلمية (لا أجبر أحدا عليها، ولا يجبرني أحد على عدم استخدامها، ولا يسأل أحد السؤال غير العلمي: من قال ذلك قبلك؟ لأننا فقراء في مسائل التأريخ النقدي للعلوم) هذه البرزخية تبدأ تتلاشى فيها صفات المرحلة السابقة وأعرافها العلمية، وتترسخ تدريجياً أعراف مرحلة جديدة تستقل شيئاً فشيئاً حتى تعلن عن نفسها.
وليس بالضرورة في هذا الانتقال أن تتناقض المرحلتين أو تتعارضا جملة واحدة، ولا أن ينفي أحدهما الآخر ويتصارع معه، بل تتكامل فيهما الأدوار تلبية للحاجات العلمية لكل منهما.
وفي علم الحديث على الأخص: تعد الرواية هي معيار تشكل المراحل العلمية، وتنوع أعرافها.
فمثلا:
في عصر الراوية (المتقدمين) كانت المحفوظات هي الطاغية على حال أهل الرواية، وكان الحافظ إذا ما طُلبت منه الروايات يسردها من حفظه (هذا لا يعني كمال حفظه).
أما في عصر ما بعد الرواية: ظهر لدينا فن مهم لم يكن موجوداً في عصر الرواية وهو فن التخريج، والذي يهتم بإخراج الحديث من مصادر الرواية الأصلية والعزو إليها.
وقس على ذلك غيره من المظاهر العلمية، والأعراف المنهجية التي جاءت تلبي حاجة البيئة العلمية في كل مرحلة من المراحل.
خامسا: الإقرار بوجود فئة المتقدمين والمتأخرين (لا أتحدث عن التفريق ركز) يلزم منه وجود فاصل، وعدم تحديد الفاصل بزمن محدد لا يعني نفي وجود الفئتين، والإقرار بوجود الفئتين لا يلزم منه التناقض التام بينهما.
سادسا وأخيراً: من المهم جدًا البحث المضني عن الأعراف العلمية لكل فئة من الفئات ضمن البيئات التي جاءت لتلبي الحاجات المعرفية فيها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
(المصدر: مركز السنة والتراث النبوي للدراسات والتدريب)