الحديث عن إبراهيم في سورة مريم.. وأسباب إبراز الحوار بين الابن وأبيه
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
إنَّ أول سورة سردت لنا حديثاً مفصلاً عن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – هي سورة مريم عليها السلام، التي نزلت مبكّرة بعض الشيء، ويدلّ هذا أنّ جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه – قرأها على النجاشي ومن عنده من رجال الدين النصارى.
وفي هذه السورة – التي لها من اسمها نصيب كبير- يحدثنا ربّنا عن زكريا ويحيى ومريم وعيسى – عليهم السلام – ثم ينتقل الحديث عن إبراهيم – عليه السّلام – وبعض الأنبياء من بنيّه، ومما يأخذ باللبِّ ويأسر القلب، ولكن هذا القلب يأبى إلا أن يتفلّت؛ ليرقص إعجاباً ثم يلين خشوعاً، ذلك أن الحديث في سورة مريم عن إبراهيم – عليه السّلام – كان يتناول ذلك الحوار المؤثر بينه وبين أبيه، ولعلَّ الناظر في السورة الكريمة وهو ينعم النظر ويُعمل الفكر، ويدقق في الموضع، يدرك هذا السرّ الذي يأبى إلا أن ينتشر شذاه وأريجه.
إنّ سورة مريم التي جاءت بدايتها تحدثنا عن زكريا الوالد ويحيى الولد- عليهم السلام -، وعن مريم الأم وعيسى الابن – عليهما السلام – وهي التي ستحدثنا في آخرها بما يهز القلوب والمشاعر، كيف لا وهي ما تكاد السماوات تنفطر له، وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّاً أن دعوا للرحمان ولداً، وقبل هذا حدثتنا السورة الكريمة عن الذي {كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} ]مريم:77[.
لا عجب إذن أن نجد ما حدثت به السورة الكريمة عن إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – كان جلّه، بل كلّه يتصل بهذا الجانب، وهو حديث إبراهيم – عليه السّلام – مع أبيه، ولنقرأ الآيات الكريمة لنرى – بعد حديثنا عن السرِّ الرائع- أي تأثير، وأي فعل يمكن أن تفعله الآيات. [قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، ص278].
قال تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 41 – 48].
تبيّن هذه القصة كيف حاور إبراهيم – عليه السّلام – أباه ودعاه إلى نبذ عبادة الأوثان، واجتناب طاعة الشيطان في وفق ولين وأدب جمّ، كما سنبيّنه بالتفصيل – إن شاء الله – من خلال البلاغة القرآنية، وأتمنى أن يقرأ هذه القصة الأبناء العاقّون لآبائهم؛ ليروا كيف كان أدب إبراهيم – عليه السّلام – وهو مقام المحاورة والوعظ لأبيه.
إنَّ ذكر قصة إبراهيم – عليه السّلام – جاء ملائماً جداً للسياق؛ لأن العرب تُقرّ بعلوّ مكانته – عليه السّلام – وطهارة دينه ونقائه وله في نفوسهم منزلة عظيمة، فهو أبو العرب، قال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ]الحج:78[.
ففي ذكر طرفٍ من أخباره تشويق لمشركي العرب ولغيرهم من بابٍ أولى؛ ليسمعوا قصته بشغفٍ ولهفة، يتلوها عليهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والقصد من وراء ذلك بيان فساد عقيدتهم الباطلة في الشرك بالله تعالى، وبيان هذا: كأنه قيل للعرب: إن كنتم تتشدقون بحبكم لأبيكم إبراهيم، فلمَ لا تقلّدونه في نبذه عبادة الأوثان، وأنتم الذين تقولون: نحن على دين آبائنا، ونقتفي آثارهم، كما حُكي عنكم قولكم: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ]الزخرف:23[.
إذن فلمَ لا تتبعون رأسكم وأصلكم أشرف آبائكم المقرب إليكم، المحببٌّ عندكم إبراهيم – عليه السّلام – في تركه لعبادة الأوثان؟ ثم إن أباكم إبراهيم نبذ دين آبائه الباطل، فلم لا تتركون أيضاً دين آبائكم الباطل؟ ثم إنكم تعترفون بطهارة دين أبيكم الأكبر إبراهيم – عليه السّلام – من أية شائبة شرك، فلم تركتم دينه القائم على التوحيد؟.
ثم إن كنتم ممن يحتج بالنظر والعقل والدليل، فتأملوا في الأدلة التي ساقها أبوكم إبراهيم – عليه السّلام – لإبطال دين أبيه الفاسد بالعموم، إن لم تتبعوا أباكم الأكبر والأشرف إبراهيم- عليه السّلام – تقليداً، فاتّبعوه استدلالاً وحجةً ومنطقاً. [تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص181].
وخلاصة القول في هذه المسألة: إنَّ في ذكر قصة إبراهيم – عليه السّلام – تشويقاً وإغراءً للسامع؛ ليقتفي أثر أبيه الأكبر إبراهيم – عليه السّلام – ويتبع ملَّته إمّا اقتداءً بفعله، وإما اقتداءً بفكره وحجته ومنطقه، وإما اقتداءً بهما معاً، وهذا كله من براعة الاستهلال في القصة، والله أعلم. [التفسير الكبير مفاتيح الغيب، 10/464].
ملاحظة: استفاد المقال مادته من كتاب: ” إبراهيم – عليه السلام – أبو الأنبياء والمرسلين”، للدكتور عليّ محمد الصّلابي.
المراجع:
- إبراهيم (عليه السلام) أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
- قصص القرآن الكريم، فضل حسن عباس، دار النفائس للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، ط 3، 1430هـ، 2010 م.
- تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، دار النوادر، دمشق، سوريا، 2011م، ص181.