الحديث المُرسَل مفهومه، حجيته، آثاره الفقهية[1]
كما هو معلوم فإن القرآن والسنة هما مصدرا التشريع في الشريعة الإسلامية، غير أن القرآن الكريم يختلف عن السنة النبوية في كونه نقل إلينا نقلًا متواترًا، بخلاف السنَّة النبوية، فمنها ما هو متواتر، ومنها ما هو آحاد، وهذا القسم الأخير من السنة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
♦ قسم متفق على قَبوله وحجيته.
♦ وقسم متفق على ردِّه وعدم حجيته.
♦ وقسم مختلف في قَبوله أو رده، ومِن هذا القبيل الحديث المُرسَل، فما هو المُرسَل؟
لغة: المُرسَل بفتح السين اسم مفعول، يُجمَع على مراسل ومراسيل، من الإرسال بمعنى الإطلاق وعدم المنع، أو ناقة مرسال؛ أي: سريعة السير[2].
واصطلاحًا: تعدَّدت تعريفاتُه بين الفقهاء والمحدِّثين:
أولًا: المُرسَل عند الفقهاء والأصوليين:
المُرسَل عند الفقهاء والأصوليين هو أن يقول الراوي[3] الذي لم يلقَ النبي صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”[4].
سواء كان تابعيًّا صغيرًا أو كبيرًا، أو غير تابعي مطلقًا[5].
يقول الإمام الشوكاني: وأما جمهور أهل الأصول فقالوا: المُرسَل قولُ مَن لم يلقَ النبي صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان مِن التابعين، أو مِن تابعي التابعين، أو ممن بعدهم”[6].
ثانيًا: المُرسَل عند المحدِّثين:
جمهور المحدِّثين على أن المُرسَل هو: “ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، صغيرًا كان التابعي أو كبيرًا”[7].
يقول الحافظ ابن كثير: “قال ابن الصلاح: وصورتُه التي لا خلاف فيها حديثُ التابعي الكبير الذي قد أدرك جماعة من الصحابة وجالسهم؛ كعبيدِالله بن عدي بن الخيار، ثم سعيد بن المسيَّب، وأمثالهما، إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
والمشهورُ: التسويةُ بين التابعين أجمعين في ذلك”[8].
وعليه، فالمُرسَل عند المحدِّثين: ما رفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مِن غير ذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم؛ فصورته أن يقول التابعي – سواء كان كبيرًا أو صغيرًا -: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، أو فعل بحضرته كذا، ونحو ذلك[9].
وإلى ما سبق أشار صاحب المراقي بقوله:
ومُرسَلٌ قولةُ غيرِ مَن صحِبْ
قال إمامُ الأعجمين والعرَبْ
عند المحدِّثين قولُ التابعي
أو الكبيرِ قال خيرُ شافعِ[10]
أيُّ الاصطلاحين هو الذي دار حوله الخلاف؟
يذهب الشوكاني إلى أن محلَّ الخلاف هو المُرسَل باصطلاح المحدِّثين، فيقول بعد تعريفه المُرسَل باصطلاح الأصوليين: “وإطلاق المُرسَل على هذا وإن كان اصطلاحًا ولا مشاحة فيه، لكن محل الخلاف هو المُرسَل باصطلاح أهل الحديث”.
ولكن الذي يفهم من كتب الحنفية ويؤخذ من تعريف الشوكاني أن الخلافَ جارٍ في المُرسَل باصطلاح الأصوليين[11].
وعليه، فالمُرسَل بالاصطلاح الأصولي يشمل المنقطعَ والمُعضَلَ في اصطلاح أهل الحديث؛ فكلُّ مَن يحتج بالمُرسَل يحتج بالمنقطع والمُعضَل.
المبحث الثاني: مذاهب العلماء في الاحتجاج بالمُرسَل:
اختلفت أقوالُ العلماء في الاحتجاج بالمُرسَل حتى بلغت نحو عشرة أقوال، وأشهرها ثلاثة:
الأول:
أنه غير حُجَّة، وهو مذهب الشافعيِّ وجمهور المحدِّثين؛ لأن الساقط مجهول، والمجهول لا اعتبارَ بروايته[12].
ولأنه إذا كان المجهول المسمى لا يُقبَل فالمجهول عينًا وحالًا أولى في ألا يُقبَل[13].
يقول الحافظ ابن كثير: وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه: (أن المُرسَل في أصل قولنا وقولِ أهل العلم بالأخبار ليس بحجة)، وقد حكاه ابن عبدالبَرِّ عن جماعةٍ من أصحاب الحديث[14].
الثاني:
أنه حُجَّة، ويُقدَّم عليه المتصل عند التعارض[15].
الثالث:
أنه حجَّة، ويقدم على المتصل عند التعارض[16].
ودليل كونِ المُرسَل حجةً أن العدلَ لا يُسقط الواسطةَ مع الجزم بالرفع إلىالنبي صلى الله عليه وسلم إلا لجزمِه بثقة الواسطة التي لم تذكر، وإلا كان مدلسًا تدليسًا قادحًا في عدالته، والفرض أنه عدل.
وحجة تقديم المتصل عليه واضحة؛ لأرجحية الاتصالِ على الإرسال.
وحجة تقديم المُرسَل على المتصل – عند القائل به – أن مَن وصل السند أحالك على البحث عن عدالة الرواة، ومَن حذف الواسطة مع الجزم بالرواية فقد تكفَّل لك بعدالة الرواة[17].
ومما يحتج به أصحابُ هذا القول كذلك: أن الصحابةَ قبِلوا أخبار ابن عباس مع كثرتها، مع أنه لم يسمَعْ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا القليل منها، ويدل على ذلك أيضًا ما اشتهر من إرسال ابن المسيَّب والشعبي وغيرهما، ولم يزَلْ ذلك مشهورًا فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير، فكان إجماعًا[18].
المبحث الثالث: الأثر الفقهي للاختلاف في حُجية المُرسَل:
لقد كان لتبايُنِ آراء العلماء واختلاف مذاهبهم في الاحتجاج بالحديث المُرسَل أثرٌ كبير في اختلاف الأحكام الشرعية، ومِن أمثلة ذلك:
مسألة نقض الوضوء بالقهقهة:
ذهبت الحنفية إلى أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء والصلاة، واستدلوا بما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أنه أمر رجلًا ضحك بالصلاة أن يعيدَ الوضوء والصلاة”.
وذهب الشافعيُّ والجمهور إلى أن الوضوء لا ينتقض بالقهقهة أثناء الصلاة، ولم يعمَلوا بالحديث؛ لأنه مُرسَل[19].
مسألة اشتراط الوليِّ في النكاح:
فقد احتجَّ المالكية على افتقار النكاح إلى الولي بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا نكاحَ إلا بولي)).
خالفهم الحنفية[20] فقالوا بعدم اشتراط الولي، وأجابوا عن الحديث فقالوا: هذا الحديث يرويه أبو إسحاق، عن أبي بردةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بردةَ لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول التلمساني: والجواب عند أصحابنا[21]: أن المراسيل مقبولةٌ عندنا؛ فإنه لم يزَلِ التابعون رضوان الله عليهم يرسلون الأحاديث ويحتجون بها؛ لعلمهم أنهم لا يرسلون إلا عن عدل… وقد كانوا يحدِّثون الحديث فيرسلونه، فإذا قيل لهم: عمن؟ أسنده، وقد رواه جماعة عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم[22].
مسألة وجوب القضاء على مَن أفسد صوم التطوع:
ذهب الحنفية ومالك إلى أن مَن صام تطوعًا فأفطر وجَب عليه قضاءُ يوم مكانه، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: “أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأُهديَ إلينا طعام فأفطرنا عليه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني حفصة، وكانت بنتَ أبيها، فسألته عن ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اقضيَا يومًا مكانَه)).
وذهب الشافعيُّ والجمهور إلى أنه لا يجب عليه القضاء، ولم يعمل بالحديث؛ لأنه مُرسَل[23].
——————————————————–
[1] بقلم: الدخلاوي علال، طالب باحث بماستر الاختلاف في العلوم الشرعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة – المغرب.
[2] منهج ذوي النظر شرح ألفية علم الأثر؛ تأليف محمد محفوظ بن عبدالله الترمسي، طبعة دار الفكر، 1418هـ/ص: 37.
[3] أي غير الصحابي.
[4] أثر الاختلاف في القواعد الأصولية وأثره في اختلاف الفقهاء؛ للدكتور مصطفى سعيد الخن ـ طبعة دار الرسالة، الطبعة الحادية عشرة، 1431هـ /ص: 351.
[5] نثر الورود شرح مراقي السعود؛ للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، طبعة دار عالم الفوائد – ص: 373.
[6] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول؛ للشوكاني – مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة السادسة، 1415هـ، ص: 119.
[7] أصول الحديث؛ للدكتور محمد عجاج الخطيب، مطبعة دار الفكر، 1409هـ/ص: 337.
[8] الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث؛ تأليف أحمد محمد شاكر، ص: 65.
[9] منهج ذوي النظر شرح ألفية علم الأثر؛ تأليف محمد محفوظ بن عبدالله الترمسي، ص: 37 (بتصرف يسير).
[10] نثر الورود شرح مراقي السعود؛ للعلامة محمد الأمين الشنقيطي، ج: 1 ص: 372.
[11] أثر الاختلاف في القواعد الأصولية وأثره في اختلاف الفقهاء؛ للدكتور مصطفى سعيد الخن ص: 352.
[12] نثر الورود شرح مراقي السعود، ج: 1، ص: 373.
[13] منهج ذوي النظر شرح ألفية علم الأثر، ص: 38.
[14] الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث؛ تأليف أحمد محمد شاكر، طبعة دار الكتب العلمية، ص: 46.
[15] وهو مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة، وأحمد في أصح الروايتين عنه.
[16] وهو ما ذهب إليه جمعٌ من الحنفية، غير أن فريقًا منهم يقف في الاحتجاج عند القرن الثالث فلا يحتجُّ بما وراءَه.
[17] نثر الورود ص: 373 – 374.
[18] أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، ص: 355.
[19] المرجع السابق ص: 356.
[20] مخالفين بذلك أصلَهم.
[21] أي المالكية.
[22] مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول؛ للشريف التلمساني، طبعة دار الرشاد الحديثة، 1434هـ/ص: 28.
[23] أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص: 357.
(الألوكة)