الحداثة وما بعدها وقضية نقد العقل الإنساني في القرآن الكريم
بقلم أحمد التلاوي
يتحدث التنويريون ودعاة التحديث في الخطاب والأفكار في المجال السياسي والمجال الإسلامي في العالم العربي ضمن سياقات عديدة، من بينها سياقات سياسية وأخرى اجتماعية تستجيب للتحولات الحاصلة في المجتمع الإنساني.
هذه التحولات -والتي جاء أهمها بسبب التطورات الحاصلة في مجال التقنية الحديثة، لا سيما تطبيقاتها في مجالات الإعلام والاتصال والمعرفة بشكل عام- قادت منذ الستينيات الماضية إلى دخول النقاشات العامة في المساحات الثقافية والإعلامية المختلفة إلى مجالات ربما لم يكن من المتصوَّر طرقها، بما في ذلك ميادين الدين والأخلاق، والتي كانت فيما مضى تمثِّل ثوابت لا يقترب منها أحد بمفهوم “التابو – Taboo”.
وطال ذلك ثوابت عديدة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وإن كان العالم العربي الأكثر عرضةً لذلك لأكثر من سبب، من بينها هيمنة أنظمة التعليم المدنية والانفتاح على العالم الخارجي بصورة أكثر مرونة وتأثُّراً من مثيلاتها في باقي أنحاء العالم الإسلامي، مع وجود نوعيات من الأنظمة الحاكمة لا ترتبط بالهوية الإسلامية بخلاف بلدان آسيا الوسطى مثلاً أو المجتمعات المحلية المسلمة في مناطق الصحراء الكبرى وما يُعرَف بأفريقيا السوداء.
ورأينا في هذا الإطار، أن هذه التيارات مسَّت النص القرآني أيضاً، تدرُّجاً من دخولها مساحات واسعة من النصوص والمتون التراثية، ثم السُّنَّة النبوية الشريفة، باعتبار أن هذه النصوص، القرآن والسُّنَّة والتراث، هي من أهم الروافد التي شكَّلت العقل العربي والإسلامي، بجانب العادات والتقاليد المتوارثة، والتراث القديم بالمعنى الثقافي والمجتمعي.
ولقد ظهرت في هذا الإطار أسماء ومدارس عدة تُصنَّف على أنها ضمن التيارات التنويرية هذه، ولعل أهم مشروع في هذا الاتجاه، وحاز شهرة كبيرة، مشروع نقد العقل العربي لعابد الجابري، و”المراجعات” التي قدمها محمد أركون ونصر حامد أبو زيد للنص القرآني لجهة فهمنا له، وتلقِّينا إياه.
في المقابل؛ لم نجد من المفكرين المسلمين والعاملين في حقول الدعوة والعمل الإسلامي المختلفة قد التفتوا كثيراً إلى سِمَةٍ شديدة الأهمية في كتاب اللهِ تعالى، وهي أنه هو أحد أبكر وأهم النصوص التي تداولها البشر فيما بينهم في قضية التجديد الفكري والعقلي -الذي هو أساس التغيير الشامل- من خلال نقد المنظومات المتوارثة.
وهو أمرٌ غير واضح في كتابات المفكرين والفقهاء المسلمين في ظل اهتمام كبير حازته مسألة مركزية في الإسلام، وهي إقامة عقيدة التوحيد، وإبطال الشِّرْكيَّات، بينما القرآن الكريم، والإسلام بشكل عام، لم ينقضا ذلك فقط، سواء على مستوى العقيدة، أو العبادات المرتبطة بها، مثل ما لحق بمناسك الحج من خرافات، مثل الطواف عرايا.
ولكن كانت هناك الكثير من الأمور في المجال الفكري والثقافي والمجتمعي، جاء القرآن الكريم لكي يبطلها، ويصوِّبها، ويدعو إلى الأفضل منها، مثل إبطال عادة وأد البنات، والابتعاد عن دنس الخمور والميسر، وإقامة العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، من خلال السعي إلى تحرير العبيد، والمساواة بين الناس، في مقابل ما كان سائداً من منظومات اجتماعية وسياسية تضع هذا فوق ذاك في إطار مؤسسة “القبيلة”.
والأمر في ذلك واسع؛ فتعاليم الإسلام -التي مصدرها الأساسي هو القرآن الكريم- غيَّرت نظرة المجتمعات العربية والإنسانية في حينه، للمرأة، وحولتها من متاعٍ، إلى شريكة أساسية في العمل وبناء المجتمعات .
وفي سُوَر عديدة من سُوَر القرآن الكريم التي جاءت فيها الأحكام، مثل سُورَة “البقرة” وسُورَة “النور” وسُورَة “الإسراء” نقف على نقض كامل لخرافات وعادات بالية، كانت قد ترسَّخت طيلة قرون في العقل الجمعي لمجتمع شبه الجزيرة العربية، مثل السحر وقتل الأبناء من إملاق، والتعامل بالربا ومساواته بالتجارة.
وفي أفق أوسع، نجد أن القرآن الكريم وما صدَّق عليه من الحديث النبوي الشريف، قد نقض التعصُّب الضيِّق ووضعه صنو الجاهلية والضلال، وفتح المجال أمام الحديث عن الأخوة الإنسانية وعالمية المجتمع الإنساني من خلال عالمية الدعوة.
وكل ذلك وغيره كان من قبل أن يدعو الغرب في عصور التنوير إلى ذلك بمئات السنين.
نجد أن القرآن الكريم وما صدَّق عليه من الحديث النبوي الشريف، قد نقض التعصُّب الضيِّق ووضعه صنو الجاهلية والضلال، وفتح المجال أمام الحديث عن الأخوة الإنسانية وعالمية المجتمع الإنساني من خلال عالمية الدعوة
وهذا منهج ربَّاني راسخ؛ فقد كان ثابتاً في الرسالات والنبوَّات السابقة على بعثة الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ونجده في كتب السابقين منهم.
فما نزل به موسى وعيسى -عليهما السلام- وغيرهما من أنبياء ورسل اللهِ تعالى من قبل، هو في جوهره، نقض للعقل الجمعي للأقوام الذين بعثوا فيهم، ولمن يتفاعل مع المؤمنين معهم من الأقوام الأخرى.
ففي حالة نبي اللهِ شعيب -عليه السلام- مثلاً كان بجانب دعوته قومه إلى التوحيد ينهاهم عن ثقافة كانت شائعة لديهم، وهي عادة التطفيف في الميزان.
بل زاد على ذلك، أن في القرآن الكريم نقض لكل غبار العقل البشري في الحضارات والديانات الوضعية والفلسفات المنحرفة.
ومن بين ذلك نقض القرآن الكريم عقلية الخرافة، وفتح المجال واسعاً أمام العلم التجريبي بالمعنى المعاصر كذلك . أليس المنهج العلمي يبدأ بالملاحظة، ويمنح النتائج صفة التأكيد العلمي بناءً على قابليتها للتكرار؟
هذا موجود في القرآن الكريم، ألم يقُل اللهُ تعالى في محكم التنزيل: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20]، وقال تعالى أيضاً: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فُصِّلَتْ:53].
و”الآيات” المذكورة هنا (أقصد الكلمة الواردة في آية سُورَة “فُصِّلَتْ”) معناها الظواهر الدالة على قدرة اللهِ تعالى في خلقه، وعلى حقيقة وجوده، وهي بمنتهى البساطة تعني ظواهر الفيزياء والفلك والجيولوجيا، ومختلف الظواهر التي تحيط بنا بشكل عام.
بل إن حقيقة أن الأرض غير مستوية وتأخذ شكلاً أقرب إلى الشكل البيضاوي، والذي اكتشفه جاليليو بعد نزول الوحي بقرون طويلة، جاء في القرآن الكريم، يقول تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] هذا الذي جاء في القرآن الكريم بمنتهى البساطة، عانى علماء عصر التنوير الأوروبي من جهالة القوم ورجال الدين لكي يثبتوه!
إن هذه الزوايا لم يتطرق إليها المفسِّرون والمفكرون المسلمون عبر التاريخ، إلا قليلاً برغم أهمية أن نبرز أن القرآن الكريم هو كتاب تقدُّمي -بالمعنى الحداثي للكلمة- لا يتعارض مع ما سبقه من كتب، ويشتبك بقوة مع الخرافات والانحرافات القائمة، ويقدم رؤية للتوجيه والإصلاح، وللمستقبل، وأنه بالتالي كتاب تنويري، وكما وصفه اللهُ تعالى ورسوله الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فيه نور وهداية.
إن التيارات المسمَّاة بالتنويرية، وتلك العلمانية قدمت الكثير في هذا الصدد لصالح أفكارها، ويتباهون بكتابات محمد أركون وعابد الجابري وغيرهما ممَّن نحو نحوهما، بينما نحن كمسلمين لدينا أصول أعظم وأهم، وقادرة على الإصلاح، وصناعة حضارة كاملة، ولكننا لا نأخذها بقَدْرِهَا.
إن التيارات المسمَّاة بالتنويرية، وتلك العلمانية قدمت الكثير في هذا الصدد لصالح أفكارها، ويتباهون بكتابات محمد أركون وعابد الجابري وغيرهما ممَّن نحو نحوهما، بينما نحن كمسلمين لدينا أصول أعظم وأهم، وقادرة على الإصلاح، وصناعة حضارة كاملة، ولكننا لا نأخذها بقَدْرِهَا
لا نلتفت إلا إلى التقليدي والمُغْرَق في طبيعة تناول تأريخية لا تلتفت إلا إلى أننا نعيش في القرن الحادي والعشرين الميلادي، بينما قدَّم القرآن الكريم سياقاً تنويريّاً، فيه أعمق وأهم صور النقد والمراجعات لما هو قائم في المجال المجتمعي والسياسي، ونقض الخرافات منها، في مقابل إقرار ما هو جيد وفيه مصالح الإنسانية.
ومن بين أهم مظاهر ذلك، أنه لم ينبتّْ عن السابق عليه بشكل مطلق، بل جعل اللهُ تعالى مصداق القرآن الكريم وبعثة الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الكتب السابقة. يقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} [الأعراف:157]، ويقول أيضاً: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [آل عِمْران:3].
والتنويريون يجعلون قمَّة الرقي والتحضُّر في السلوك المديني الذي هو أسمى صور العمران وفق ما تكلم به ابن خلدون ودوركايم على حدٍ سواء، أن تتحاور الأطراف المختلفة -فيما بينها- بشأن الخلافات الحاصلة بينهم. حسناً…ألم يجعل القرآن الكريم، الحوار والنقاش المفتوح هو أساس الجدل وحسم الخلافات ! بل إنه زاد على ذلك “تكنيك” حداثياً مهماً في مجال تقريب وجهات النظر، وهو خلال الوقوف على القواسم والمشتركات التي تجمعنا، والانطلاق منها في النقاش. يقول تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عِمْران:64] هنا، ولو كانت هناك خلافات في العقيدة نفسها فإننا مدعوون إلى الحوار والنقاش ومحاولات الإقناع.
وفي النهاية، ولو لم نصل إلى اتفاق؛ فإن في نهاية هذه الآية، كل ما هو مطلوب هو التأكيد على المبدأ: “اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”، فلم يأمر اللهُ -تبارك وتعالى- لا بالاحتراب أو الاقتتال معهم، ولا بأي فعلٍ عدائي تجاههم، مثل النبذ والمقاطعة، فقط التأكيد على الموقف العقدي، والدعوة إليه، وانتهى الأمر.
وهنا تبرز واحدية مصدر القرآن الكريم، وربانيته؛ بدليل الاتساق الكامل بين السُّوَر والآيات، ولو تباعدت في الترتيب، فهذا يتفق مع اعتراف القرآن الكريم بحقيقة عمرانية تمثِّل أبرز قواعد علم الاجتماع ومفردات الحداثة وما بعد الحداثة، وهي الاختلاف التي جعلها القرآن الكريم سُنَّةً وقانوناً وضعهما اللهُ في الخلق. يقول تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118، 119].
وفي الأخير، يطول الحديث في هذا الموضِع، فإننا لسنا مبالغين لو قلنا إن تقديم صورة حداثية للقرآن الكريم، مصدر الشريعة الأول، وعنوان الإسلام الرئيس، إنما هو واجب شرعي لو أردنا أن نساهم في قانون الاستمرارية والصلاحية لكل زمان ومكان الذي أراده اللهُ تعالى لدينه وكتابه حتى يشاء فيرفعه ويرفع الإيمان من الأرض في نهاية الزمان.
(المصدر: موقع بصائر)