الحجر الصحي في السنة النبوية
بقلم أ. د. رشيد كهوس
يعتبر الحجر الصحي من أهم الإجراءات الوقائية للحد من انتشار العدوى في هذه الفترة التي يواجه فيها العالم كله “فيروس كورونا”.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم طريقة تطبيقه بالبيان الواضح والمنهاج اللاحب، فعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم : «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْض فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ»([1]). وقال -صلى الله عليه وسلم- أيضا: « لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»([2]).
يَحكِي الشَّرِيدُ بنُ سُوَيْدٍ الثَّقَفِيُّ أنَّه «كان في وَفْدِ ثَقِيفٍ» وهي قَبِيلَةٌ مشهورةٌ «رَجُلٌ مَجذُوم»، أي: مُصابٌ بِمَرَضِ الجُذَامِ، وهو مَرَضٌ مُعْدٍ، وأراد هذا المجذومُ أن يأتِيَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِيُبايِعَه على الإسلام والجِهاد، «فأرسَلَ إليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّا قد بَايَعْناك»([3])، أي: بالقولِ من غيرِ أخْذِ اليَدِ في العَهْدِ، «فارْجِعْ».
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس مِن رَجُلٍ يَقَعَ الطاعونُ فيَمكُثُ في بَيتِه صابِرًا مُحتَسِبًا يَعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كَتَبَ اللهُ له إلَّا كان له مِثلُ أجْرِ الشَّهيدِ»([4]). وفي رواية: (فيَمكُثُ في بَلَدِه صابِرًا) ([5]).
قال الإمام ابن حجر في الفتح: “اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت”اهـ. وبمعنى آخر فمن لزم بيته وقت نزول الوباء يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت.
فكل هذه الأحاديث تبين لنا المنهاج النبوي في التعامل مع الوباء، ومواجهة الأقدار الإلهية (الأمراض، الوباء، البلاء…) بأقدار إلهية أخرى (اتخاذ الأسباب)، وهذه الأحاديث الشريفة تنطبق على واقعنا هذا، في ظل انتشار “وباء كورونا” في سائر بقاع العالم.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث، طريقة الحجر الصحي ؛ فمنع الناس من الدخول إلى البلدة المصابة بالطاعون، ومنع كذلك أهل تلك البلدة من الخروج منها، كما دعا إلى عدم الخروج من البيوت حتى لا يتفشى الوباء فتنتقل العدوى بين الناس.
ولهذا قال حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله في إحيائه: “(من) اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان معتوها مغرورا”اهـ.
أي على الإنسان ألا يستسلم للقدر، بل يواجه القدر بقدر آخر، ذلك بأن المسببات مرتبطة بأسبابها شرعا وقدرا، لذلك فطلبها من غير أسبابها مذموم.
ومن ثم فإن إنكار سنن الله في الأسباب يؤدي إلى إبطال حقائق العلوم وحقائق علوم الطب، وهذا مذموم في ديننا الحنيف.
قال ابن الخطيب: “إنه غير خفي على من نظر في هذا الأمر أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه، كذلك فإن المرض يقع في الدار أو المحلة من ثوب أو آنية فالقرط يتلف من علقه بأذنه ويبيد البيت بأسره، ومن البيت ينتقل المرض إلى المباشرين، ثم إلى جيرانهم وأقاربهم وزائريهم حتى يتسع الخرق، وأما مدن السواحل فلا تسلم أيضا أن جاءها المرض عبر البحر عن طريق وافد من مدينة شاع عنها خبر الوباء”اهـ.
وهذا مستنبط من الأحاديث النبوية السابقة التي تأمر بالأخذ بالسنن الإلهية في الأسباب من خلال الحجر الصحي على المصابين بالوباء، مع عزلهم عن غيرهم، وعزل المكان المصاب (بؤرة انتشار الوباء)، ومراقبة القادمين من أماكن انتشار الوباء…
هذا وقد نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية، مقالا حول تعاليم نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، حول النظافة الشخصية وتوجيهاته إذا حل الوباء ببلد ما، أي (الحجر الصحي).
وكتب أستاذ قسم الاجتماع بجامعة رايس كريج كونسيدين مقالا بعنوان: “هل يمكن لقوة الصلاة وحدها إيقاف وباء مثل كورونا؟ حتى الرسول محمد كان له رأي آخر” .أكد فيه أن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم هو أول من نصح بالحجر الصحي والنظافة الشخصية في حالات انتشار الوباء.
وأثار كونسيدين سؤالًا حاول الإجابة عنه قائلًا: «هل تعلمون من الذي أوصي بالتزام النظافة، والحجر الصحي الجديد أثناء تفشي الأوبئة؟ فأجاب قائلًا: نبي الإسلام مُحمد، قبل 1400 عام».
ورأى الكاتب إنَّه «على الرغم من أنَّ نبي الإسلام ليس بأي حالٍ من الأحوال خبيرًا «تقليديًا» في المسائل المُتعلقة بالأمراض الفتَّاكة؛ إلَّا أنَّه كان لدية نصيحة جيدة؛ لمنع ومُكافحة تطور الأوبئة مثل فيروس كورونا الجديد».
واستشهد الكاتب بحديث أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إذَا سمِعْتُمْ الطَّاعُونَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإذَا وقَعَ بِأَرْضٍ، وَأَنْتُمْ فِيهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» [رواه الشيخان].
وأشار الكاتب إلى أنَّ النبي قد أوصي بعزل المُصابين بالأمراض المُعدية عن الأصحاء. كما حث الرسول (صلى الله عليه وسلم)، البشر على الالتزام بعادات يومية للنظافة، تسهم في حمايتهم من العدوى.
ثم ذكر مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة، ودعا إلى التأمل فيها:
«الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[صحيح مسلم].
«إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ»[متفق عليه].
«بركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده»[سنن أبي داود]. فليس المقصود بالوضوء فيه : المعنى الشرعي المعروف للوضوء ؛ وإنما المراد به غسل اليدين، قبل الأكل.
ويسترسل الكاتب الأمريكي في قوله مُتسائلًا: «في حال مرض شخص ما فما النصيحة التي سيُسديها النبي مُحمد إلى البشر الذين يتكبدون الألم؟»، فأجاب الكاتب إنَّه: «بالفعل سيُشجعهم –بالفعل على السعي للحصول على العلاج الطبي والأدوية»، واستشهد بالحديث النبوي الشريف عن أسامة بن شريك- رضي الله عنه- قال: قَالَتْ الأَعْرَابُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا نَتَدَاوَى ؟ قَالَ: «نَعَمْ، يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً، إِلا دَاءً وَاحِدًا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: الْهَرِمُ»[سنن ابن ماجه].
وقال الكاتب الأمريكي إنَّ نبي الإسلام كان حكيما في المُوازنة ما بين الإيمان والعقل. فخلال الأسابيع الأخيرة، ظن بعضهم أنَّ الصَّلاة وحدها قادرة على حمايتنا من فيروس كورونا، وليس الالتزام بالقواعد الأساسية للتباعد الاجتماعي، والعزل المنزلي.
وفي ختام مقاله حثَّ «كونسيدين» على تأمل العبرة من القصة التي رواها الترمذي في سننه أنَّه ذات يوم جاء أعربي يستشير النبي في أمر ناقته «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ له: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّل». وهي دعوة إلى الموازنة بين التوكل والأخذ بالأسباب.
وقال الكاتب إنَّه على الرغم من أنَّ نبي الإسلام أوصى بأنَّ الدين دستور جامع لحياة البشرية؛ إلَّا أنَّه حثَّ أيضًا على اتباع الأسباب الاحترازية اللازمة لضمان استقرار الجميع وسلامتهم.اهـ.
كما نشر موقع صحيفة “ABC” الإسبانية تقريرا حول (نصائح النبي محمد المذهلة) في مواجهة الأوبئة، التي تنطبق تماما على الإجراءات الوقائية والطبية التي تنصح بها الجهات الرسمية والطبية الناس اليوم للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19).
واعتبر الكاتب الإسباني (خوسيه مانويل نيفز) أنه من المذهل أن النبي محمد الذي عاش قبل أكثر من 1400 عام، والذي كان أميا ولم يتلق أي تدريب علمي -بحسبه-، “كان يعرف بالفعل، خطوة بخطوة، ما يجب فعله أثناء الوباء”.
واستشهد “نيفز” بتقرير نيوزويك، واقتبس منه ترجمة عدد من التوجيهات التي وردت في أحاديث نبوية، شريفة، أهمها حديث الطاعون، وعدم الدخول أو الخروج من البلد الذي أصيب به.
وأشار إلى ما ذهب إليه الكاتب الأمريكي “كريغ كونسيدين”، وهو أن “النبي محمد عرف قيمة الموازنة بين العقل والإيمان، والأخذ بالأسباب مع الصلاة والدعاء”.
وهذه الملامح التي قدمها الكاتبان الأمريكي والإسباني حول المنهاج النبوي في التعامل مع الوباء، تؤكد سبق الإسلام إلى هذه الإجراءات الطبية الصحية، كما تؤكد اهتمام الإسلام بالعلم، وعنايته بالعقل العلمي، وحثه على العمل بمقتضى السنن الإلهية التي أقام الله عليها نظام الكون والحياة البشرية، ودعوته إلى اتخاذ الأسباب التي تحفظ للناس صحتهم وحياتهم وسلامة مجتمعاتهم واستقرارها وأمنها.
وقد سار على الهدى النبوي الصحابة رضي الله عنهم، لذلك لما حل الطاعون بالشام رجع الفاروق عمر رضي الله عنه بالناس ولم يدخلها، فقَالَ له أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رضي الله عنه: “أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ! فَقَالَ عُمَرُ: “لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ”([6]). وهكذا كان الفاروق t فقيها في السنن الإلهية، وأخذ بسنن الأسباب للحفاظ على الناس من إصابتهم بالطاعون، وهذه نتيجة وعيه السنني، وهذا الفقه العمري نحن في حاجة إليه اليوم، مع انتشار وباء كورونا (كوفيد 19) في العالم، فنحن في حاجة إلى المباعدة الاجتماعية، ولزوم البيوت، منعا من انتشار العدوى بين الناس، وحفاظا على صحتهم وأرواحهم، إذ الأمن الصحي مقصد عظيم من مقاصد الرسالة الخاتمة.
واتخاذ الإجراءات اللازمة، والأخذ بالأسباب الصحية والوقائية من الوباء، لا ينافي الرضا بالقضاء والقدر، ولا التوكل على الله، بل هو من صميم الدين ومن صميم الرضا بالقدر.
ذلك بأن القول بالتنافي بين التوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب جهل بالدين، والتوازن بين مقامي التوكل والأخذ بالأسباب هو الدين.
ومسك الختام:
إن التعامل مع هذا الوباء الذي انتشر في العالم كله (كورونا)، لا يكون بالسخرية واللامبالاة، ولا بالذعر والخوف والهلع.. وإنما:
-بإصلاح العلاقة مع الله، والتوبة إليه، والدعاء والتذلل بين يديه.. [إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم]. (الرعد: 11).
-واتخاذ الأسباب الاحترازية اللازمة، واتباع الإجراءات الطبية الوقائية، والالتزام بمبادئ النظافة والحجر الصحي والعزل الاجتماعي، (نَفِر من قَدَر الله إلى قَدَر الله).
-ثم بعد ذلك بالاطمئنان واليقين في الله تعالى، وأن لا شيء يحصل في الكون بدون علمه وحكمته ومشيئته الأزلية. وأن الأمل ينبثق من ثنايا الألم، وأن المنح تخرج من طي المحن، وأن اليسر يأتي على مطايا العسر، وأن العطايا تجيء على أقدام البلايا، وأن النعم تتنكر في أثواب النقم. (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا).(إن الله بالغ أمره).
اللهم اصرف عنّا الوباء، وقِنا شر الداء، ونجنا من الطعن والطاعون والبلاء، بلطفك يا لطيف إنك على كل شيء قدير.
ــــــــــــــــــــــــــ
([1]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، ح5397. صحيح مسلم، كتاب السلام، بَابُ الطَّاعُونِ وَالطِّيَرَةِ وَالْكَهَانَةِ وَنَحْوِهَا، ح2219.
([2]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب لا هامة، ح5437. صحيح مسلم، كتاب السلام، ح2221.
([3]) صحيح مسلم، كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم ونحوه، ح2231.
([4]) مسند أحمد بن حنبل، 43/235.
([5]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب أجر الصابر في الطاعون، ح5402.
([6]) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، ح5397.
(المصدر: مجلة كلمة حق)