الجويني إمام الأئمة في زمانه وأعجوبة دهره وأوانه
بقلم د. علي الصلابي
إمام الحرمين، شيخ الشافعية، وعملاق الفقه والفكر الإسلامي، الذي ذاع صيته شرقاً وغرباً، واعترف بفضله القاصي والداني، وأثنى عليه السابقون واللاحقون والمحْدَثون، إنه الإمام الأكبر ركن الدين، أبو المعالي عبد الملك ابن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني، النيسابوري، الشافعي.
وُلِد الإمام الجويني في (18 محرم 419هـ / 12 فبراير 1028م)، في بلدة جوين، وهي ناحيةٌ كبيرةٌ من نواحي نيسابور وهي أشهر مدن إقليم خراسان، وينتمي إلى أسرة عريقة في العلم والدين، نشأ وترعرع فيها، فوالده هو الإمام أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، كان إمام عصره في نيسابور، برع في الفقه، وصنَّف فيه التصانيف المفيدة، وشرح المزني شرحًا شافيًا، وشرح الرسالة للشافعي، وكان ورعًا دائم العبادة، شديد الاحتياط مبالغًا فيه، تُوفِّي سنة 438هـ. وأمَّا عمُّه، فهو أبو الحسن علي بن يوسف الجويني المعروف بشيخ الحجاز، كان -فيما حكاه ياقوت الحموي في معجمه- صوفيًّا لطيفًا ظريفًا فاضلًا، مشتغلًا بالعلم والحديث، صنَّف كتابًا في علوم الصوفية مرتَّبًا مبوَّبًا سمَّاه كتاب السلوة، ومات بنيسابور سنة 463هـ. وأمَّا جده، فكان علمه الذي نبغ فيه وعُرف به علمَ الأدب، قال ياقوت وهو يُترجم لوالد الإمام: إنَّه قرأ عليه الأدب في جوين، فجده أديب مرموق، وعمه محدِّثٌ صوفي، ووالده فقيه أصولي، وقد أحسن ابن عساكر التعبير عن ذلك في التبيين، فقال:”رباه حجر الإمامة، وحرَّك ساعدُ السعادة مهده، وأرضعه ثديُ العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ونبغ”.
حباه الله بصفات عالية وأخلاق سامية، هيأت له تلك المنزلة التي شغلها بين العلماء، وجعلته جدير بالمكانة التي اعتلاها بين الحكماء، فقد كان رحمه الله متواضعاً جداً بحيث يتخيل جليسه أنه يستهزئ به، رقيق القلب خشوع، بحيث يبكي إذا سمع بيتاً أو تفكر في نفسه أو خاض في علوم الصوفية وأرباب الأحوال، وكان يتمتع بذاكرة نادرة، وحافظة لاقطة، وقد وهبه الله ذكاء نادرًا؛ حتى ظهرت عليه مخايل النجابة والنبوغ من صغره، وتميَّز بصبرٍ ودَأَبٍ نادرين في طلب العلم والبحث؛ فمع أنَّه أقعد للتدريس مكان أبيه مبكرًا، إلَّا أنَّ ذلك لم يشغله عن البحث والدرس، وكان من الكرم والسخاء مضرب المثل، ولم يشتغل بمالٍ يثمره، أو يدَّخره.
بدأ الجويني حياته العلمية من بيته، فقرأ على والده التفسير، والحديث والفقه، والأصول، والأدب، وقرأ عليه جميع مصنفاته، وكان يسجل ما له عليها من ملاحظات. قال ابن خلكان: “أتى على جميع مصنفات والده، وتصرف فيها حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق”. توفي والده وهو دون العشرين، فأقعد مكانه للتدريس، كما سمع الحديث في صباه من مشايخ آخرين، في أنواع العلوم حتى ظهرت براعته، ولم يمنعه منصب التدريس في تحصيل العلم، بل كان يصل الليل بالنهار في سبيل ذلك، فقد كان يذهب مبكراً إلى مسجد الأستاذ أبي عبد الله الخبازي يقرأ عليه القرآن ويقتبس منه كل نوع من العلوم، ما يمكنه، ثم يرجع ويشتغل بالتدريس، وبعد فراغه كان يخرج إلى مدرسة البَيْهقي حتى حصل علم الكلام وأصول الفقه على الأستاذ الإمام أبي القاسم الإسفراييني، وكان يواضب على مجلسه، واستمر في تحصيل العلـم من صباه إلى شيخوخته، وكــان يتحين الفرصة للاستفادة مــــــن علمـاء عصــره، حيث أنــه في سنة 429ه عندمـا قــدم أبو الحسن بن علي بن فضال المجاشعي إلى نيسابور، أخذ إمام الحرمين في قراءة النحو له، والتلمذة وكان عمره وقتئذ (50) سنة، وكان إمام الأئمة في وقته، ولم يكتف، ولم يتكل الإمام على ما تلقاه من أساتذته وشيوخه، بل كان كثير المطالعة، كما كان يحكي عن نفسه فيقول:”كنت علقت عليه، أي الإسكاف الإسفراييني في الأصول أجزاء معدودة”.
وكان الجويني قد تابع منهج أسلافه من الأشاعرة، وقد توثقت في شخصه الصلة بين الأشاعرة كمذهب كلامي وبين الشافعية كمذهب فقهي، فقد انخرط في مدرسة الأشاعرة، وصار في كتبه وتدريسه على طريقة الأشعرية في علم الكلام، وصار من أنصار المذهب الأشعري، الذي عمل على دراسته وتدريسه ونصرته والدعوة إليه، حتى صار إمام الحرمين شيخ الأشعرية، وإمام المتكلمين في عصره. وقال السبكي فيه: “فالفقه فقه الشافعي، والأدب أدبُ الأصمعي، وحسن بصره بالوعظ للحسن البصري.. وكيفما كان فهو إمام كلِّ إمام، والمستعلي بهمَّته على كلِّ هُمام.. إذا تصدَّر للفقه فالمزني من مُزْنته قطرة، وإذا تكلم (من علم الكلام) فالأشعري من وَفْرته شعرة، وإذا خطب ألجم الفصحاء!”.
بلغت مؤلَّفات الجويني من التنوُّع والكثرة حدًّا جعل السبكي يستدلُّ بها على وجود الكرامات، حُسبت أعداد الأوراق التي احتوت عليها كتبه ومؤلَّفاته، وقُسِّمت على أيَّام عمره وساعاته، مع ما كان يلقيه من الدروس، ويحضره من مجالس التذكير، فوُجد أنَّ عمره لا يفي بذلك!! وقد بلغ عدد ما تحقَّقنا من نسبته إليه أكثر من أربعين عنوانًا، ومنها ما هو موجودٌ ومنها ما هو مفقود، وقد خلَّف مصنَّفاتٍ كثيرةً في معارف متنوعة، شملت: الكلام، وأصول الفقه، والخلاف، والجدل، والفقه، والتفسير، والخطب والمواعظ. فمنها:
– في أصول الفقه: التلخيص، والبرهان، والغنية، التحفة، والورقات.
– في علم الفقه: نهاية المطلب في دراية المذهب، ومختصر التقريب، ومختصر النهاية، والرسالة النظاميَّة في الأركان الإسلامية.
– في علم الخلاف والجدل: الأساليب، غنية المسترشدين، والعُمد، والدرَّة المضيَّة فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، والكافية في الجدل.
– في السياسة الشرعية: كتاب الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم).
– في علم الكلام: الشامل في أصول الدين، والإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ولمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة، والعقيدة النظامية في الأركان الإسلامية، وشفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل، وقصيدة على غرار قصيدة ابن سينا في النفس.
– كتاب في النفس: قال عنه في العقيدة النظامية: “إنَّه يقع في نحو ألف ورقة”. ولسنا ندري عنوانه ولا حقيقة موضوعه.
– تفسير القرآن الكريم: ذكره السيوطي في مقدِّمة الإتقان.
لمع اسم الإمام الجويني في تاريخ الفقه الإسلامي بصفته أستاذًا ومعلِّمًا، وهذه منزلةٌ لا تُتاح لكلِّ عالم، فقد كان أستاذًا بصيرًا بتلاميذه، يحسن رعايتهم ويُشجعهم، ويسعد بنباهتهم ونبوغهم، وذكرت الكتب إنَّهم كانوا عند وفاته نحو أربعمائة تلميذ، ونذكر منهم: حجَّة الإسلام الغزالي، والكيا الهراسي، والخَوافي، والباخرزي، وعبد الغافر الفارسي، والذي قالوا عنه: “أورثته صحبة إمام الحرمين فنًّا من الفصاحة، وأكسبته إيَّاه سهرًا حُمد صباحُه”. ومنهم: الإمام أبو نصر عبد الرحيم بن الإمام عبد الكريم القشيري، ومنهم: هاشم بن علي بن إسحاق بن القاسم الأبيوردي، وغانم الموشيلي، وعبد الكريم بن محمد الدامغاني، وعبد الجبار بن محمد بن أبي صالح المؤذن، وأبو عبد الله الفُراوي، وأبو المظفر الأبيوردي، وأبو الفضل الماهياني، وسعد بن عبد الرحمن الأستراباذي.
أُصيب إمام الحرمين الجويني -بعد رحلة حياةٍ حافلةٍ بالعلم والعطاء- بعلَّةٍ شديدةٍ كانت سبب وفاته، قال السبكي: “أدركه قضاء الله الذي لا بُدَّ منه بعد ما مَرِضَ قبل ذلك مرض اليرقان، وبقي به أيَّامًا ثم برأ منه وعاد إلى الدرس والمجلس، وأظهر الناسُ من الخواصِّ والعوامِّ السرورَ بصحَّته وإقباله من علَّته، فبعد ذلك بعهدٍ قريبٍ مرض المرضة التي تُوفِّي فيها وبقي فيها أيَّامًا، وغلبت عليه الحرارة التي كانت تدور في طبعه إلى أن ضعف وحُمل إلى “بشتنقان” لاعتدال الهواء وخفَّة الماء، فزاد الضعف وبدت عليه مخايل الموت، وتُوفِّي ليلة الأربعاء (25 ربيع الآخر 478هـ/ 20 أغسطس 1185م). وتُوفِّي وهو ابن (59) تسع وخمسين سنة”.
—————————————————————————————————————————-
مراجع البحث:
- أحمد محمود صبحي، دراسة فلسفية لآراء الفرق الإسلامية في أصول الدين (الأشاعرة)، دار النهضة العربية، بيروت، ط5، 1985، ص 147.
- شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، تحقيق شعيب الأرنؤوط، محمد نعيم العرقسوس، مؤسسة بيروت، ط 10، 1994، ج18، ص 68.
- عبد الرحيم الأسنوي: طبقات الشافعية، تحقيق كمال يوسف الجوت، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1987، ص 197.
- محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، دار المستقبل، القاهرة، ط1، 1983، ص170.
- أبو المعالي الجويني، التلخيص في أصول الفقه، تحقيق عبد الله حولم النيلي، أحمد العمري، دار الستائر الإسلامية، مكتبة دار الباز، ط1، 1996، ج1، ص 32 – 33.
- أبو المعالي الجويني، غياب الأمم في التياث الظلم، تحقيق عبد العظيم الديب، كلية الشريعة، جامعة قطر، ط1، 1400 هـ، ص 25.
(المصدر: مدونات الجزيرة)