الجهاد في الإسلام.. مقاتلة الظلم أم الكفر؟!
بقلم مصعب الأحرار
ما من جُرم أشد عند الله من جُرم تشويه معالم الديّن وما من جناية أعظم من الجناية على مفاهيم الشرع وغاياته الكبرى ومقاصده العظمى؛ وقد جعل الله لكل تشريع مقصد مخصوص أو مقاصد متعددة فيها خير المسلمين وخير غيرهم من الملل والنِحل؛ والدين قد جاء رحمة للعالمين كلهم كافرهم ومسلمهم مخالفهم لمنهج الله ومتبعهم لهديه؛ ولا يخرج الجهاد باعتباره تشريع عن هذا الإطار من الرحمة والعدل وإقامة القسط؛ وقد أرسل الله الرسل جميعاً ليقوم الناس بالقسط فيما بينهم “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” (الجديد 25).
لقد فهم كثير من المسلمين شريعة الجهاد على أنها لقتال الكافرين وإن كانوا مسالمين وذلك لم يقل به نص الوحي لا في القرآن ولا في السنة؛ ولا يمكن فهم فلسفة الجهاد إلا بفهم فطرة البشر فالبشر فطرهم الله على الخير والشر والاعتداء والتسامح والظلم والعدل؛ فالأصل في الإسلام الدعوة بالحسنى والحجة والبرهان أما القتال فهو اضطرار تمليه الظروف ولم يكن القتال لمسالم مهما كانت ملّته أو نحلته، وجميع النصوص القرآنية أو التي وردت في السنة المطهرة لابد من فهمها بهذا الإطار من مبادئ الدين وغاياته الكبرى التي لا تشرع الظلم والاعتداء على من خالف معتقد الإسلام إلا إذا استخدم هو أساليب الحرب فحينها أذن الله بالقتال ليس لكفر المخالفين بل لظلمهم.
فتبديل العقائد وإن جاء نتيجة لضغط الحرب إلا أنه ليس من مبادئ الإسلام أن يسلم الناس بالحروب فهي اضطرار في الفقه وليست مبدأ؛ والناس في الإسلام يسلمون بقناعاتهم لا بالإكراه والجبر كما قال الله: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة 256)، فالقتال في الإسلام أصله دفع الظلم لا تبديل العقيدة وإن صادف أن آمن الناس تحت ظلال السيف فما تلك قاعدة إسلامية بل هي عارض فقط.
لقد كتب الله الجهاد والقتال لأنه عاصم للفتن وساد لباب الاعتداء وهو أخذ بيد الظالمين المعتدين أنى كان مذهبهم وأنى كانت وجهتهم مسلمين كانوا أو كفاراً؛ كما بيّن الله تعالى “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (الأنفال 39)” ، والجهاد في الإسلام ليس قتال الكافرين بل قتال الظالمين مسلمين كانوا أو كفاراً فهو لصد الاعتداء لا لاختلاف العقائد كما قال الله تعالى: “وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (البقرة 190)” وقد كتب الدكتور الشنقيطي مقالاً طريفاً على موقع الجزيرة نت تحت عنوان “الجهاد على بصيرة” وقال فيه: “ﻟﻢ ﻳﺠﻌﻞ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﺍﺧﺘﻼﻑ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻣﺴﻮﻏﺎ ﺷﺮﻋﻴﺎ ﻟﻠﻘﺘﺎﻝ، ﻓﺎﻟﺠﻬﺎﺩ ﻓﻲ ﺍﻹﺳﻼﻡ ﻟﻴﺲ ﻗﺘﺎﻝ ﺍﻟﻜﺎﻓﺮ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﻗﺘﺎﻝ ﺍﻟﻈﺎﻟﻢ ﻣﺴﻠﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﺃﻭ ﻛﺎﻓﺮﺍ، ﻓﻬﻮ ﻣﻮﻗﻒ ﺃﺧﻼﻗﻲ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﺪﻝ ﻭﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﺿﺪ ﺍﻟﻈﻠﻢ ﻭﺍﻟﻘﻬﺮ . ﻓﺎﻟﻤﺠﺎﻫﺪ ﻳﻘﺎﺗﻞ ﺍﻟﻈﺎﻟﻢ ﻟﻈﻠﻤﻪ، ﻻ ﻟﻌﻘﻴﺪﺗﻪ ﺃﻭ ﻣﺬﻫﺒﻪ “.
والجهاد ما من شك أنه لصيق بفكرة الإسلام لا ينفك عن شريعة الله فالدين بلا تشريع الجهاد يظل جامداً مناقضاً للفطرة؛ وسنة الله في الأرض هي التدافع كما قال: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ” (ﺳﻮﺭﺓ ﺍﻟﺒﻘﺮﺓ، ﺍﻵﻳﺔ 251). ومن أروع ما ذكره الشاعر والفيلسوف محمد إقبال عن الدين قوله: “إنّ الدين من غير قوة مجرد فلسفة”.
إن جميع الآيات والأحاديث المتحدثة عن قتال الكافرين جاءت في سياق المدافعة لا في سياق السِلم أي أن فريضة الجهاد في الإسلام رهينة بوجود طرف معتدي لا وجود طرف مخالف في الاعتقاد؛ فالله شرع القتال تماشياً مع سنته في مدافعة الظلم ودفعه؛ أما الإسلام والدعوة إليه فالأصل فيها الحجة والبرهان والدعوة بالحسنى “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل 125).
لقد أمر الله بالتعايش مع البشر بكل أديانهم وأمر بالقسط إليهم رحمة للبشر من الحروب العبثيّة القائمة على أسس عقديّة والله ربط الجهاد بالاعتداء فقط لا غيره، ومهما كان اعتقاد من خالف الإسلام ومهما كانت نحلته فقد أمر الله بالتعايش معهم ودعوتهم بالحسنـى ما داموا مستالمين متعايشين مع المؤمنين كما ذكر الله: “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9 الممتحنة). بل إن النص القرآني قد ذهب بعيداً في تبيين أن الغرض من القتال هو دفع الاعتداء لا أكثر وقال: “وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (الأنفال 61).
ومن هنا فإن كل نمط قتالي خاطئ يتم باسم الإسلام فهو لا يمثل إلا نفسه فالإسلام مبدئه واضح في قضايا الحروب؛ وكل مجزرة ترتكب باسم الدين فعبئها على مرتكبها لا على نص الوحي الخالد وإن كان هناك من خلل منهجي فهو ناجم من هوى المجرم ولا يلصق بالدين وقد سعى كثيرون لطمس معالم الإسلام ومحاولة وضعه في قفص الاتهام بجريرة المنحرفين عن نهجه القويم السليم الذي جاء ليقيم العدل والحق.
إن علة الجهاد في الإسلام هي الظلم لا الكفر وقد أمر الله بقتال الباغي المسلم وصد الصائل المسلم والأخذ على يد الظالمين والمجرمين بالقوة ولا يحجب إسلامهم عن قتالهم ما دامت علة قتالهم كامنة فيهم وهي الظلم؛ والإسلام مختلف عن أي نمط ديني آخر فهو يوافق العقل ويتساير مع الفطرة التي تدعوا للمقاومة لا الركون. ويقاتَلُ في الإسلام الباغي مسلماً كان أو كافراً، ولا يقاتَل المسالمُ كافراً كان أو مسلماً وتلك أسسٌ ومبادئ قام عليها الإسلام وكُتب لها الخلود في نصِ الوحي.
الجهاد في الإسلام شرعة وفريضة مرهونة بوجود طرف آخر مقاتل ومعتدي على المسلمين وليست علته الكفر والاعتقاد وإن حدث أن آمن بشر بالإسلام تحت ظل السيف فذلك حدث لا قاعدة
لقد تناول كثيرٌ من المنحرفين عن الوحي قضيّة الجهاد تناولاً سطحياً لم يراعوا فيه طابع الإسلام وقيمه الكبرى ومبادئه العظمى والتي أساسها العدل وحفظ الحقوق وصون الحرمات دون النظر لاختلاف الدين او القوم او العرق؛ وقد نجم عن ذلك الانحراف تشرذم وتفكك بين مكونات الشعوب تمثل في الحروب الأهلية التي انبنت على قواعد مخالفة للإسلام ومن ضمن تلك القواعد المخالفة للإسلام (الجهاد على قاعدة اختلاف المذهب) وقد تمت بهذه القاعدة التي لا علاقة لها بالدين مجازر مروّعة تسيء للبشريّة برمتها.
إنّ الإسلام في نهجه لا يريد صناعة بشر تحكمهم الدروشة فيكونون لقمة سائقة في أيدي الظالمين فهو قد حث وحرض على الجهاد واسترداد المظالم؛ والإسلام في الآن ذاته قد أصبغ الجهاد بصبغة الأخلاق فلا قتال للمسالمين مهما كانت نحلتهم وملتهم إلا أن يعتدوا، وتلك المنهجيّة المتوازنة هي التي تنظُم هذا الديّن برمته، فالإسلام ليس منعزلاً عن واقع الحياة كما تريد تيارات التطرف العلماني والتطرف الديني، ولا هو منخرط في الحياة بأسلوب إجرامي.
وأخلاقيات الإسلام في الحرب كَتَبَ فيها العلماء كماً هائلاً وكثيفاً لا يسع المقال لذكر ذلك كله، وقد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الغزو لمّا كان الغزو نمطاً عايشته جيوش المسلمين في ذلك الوقت وﻗﺎﻝ(ﺍﻏﺰﻭﺍ، ﻭﻻ ﺗَﻐُﻠُّﻮﺍ، ﻭﻻ ﺗﻐﺪﺭﻭﺍ، ﻭﻻ ﺗﻤﺜِّﻠﻮﺍ، ﻭﻻ ﺗﻘﺘﻠﻮﺍ ﻭﻟﻴﺪًﺍ) ؛ ﺭﻭﺍﻩ ﻣﺴﻠﻢ.
ومن هنا فالجهاد في الإسلام شرعة وفريضة مرهونة بوجود طرف آخر مقاتل ومعتدي على المسلمين وليست علته الكفر والاعتقاد وإن حدث أن آمن بشر بالإسلام تحت ظل السيف فذلك حدث لا قاعدة مسوغة لقتال الكافرين اعتقادا وهم مسالمون، بل العلة من القتال هي الظلم أينما توفر سواء في الكفار أو داخل الملة الإسلامية وفي بيان ذلك ذكر الله تعالى “وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الحجرات 9). فالجهاد هو قتال البغاة والظالمين ولا علاقة له باختلاف العقائد، فكل نص إسلامي ورد فيه قتال الكافرين فهو لأنهم كانوا مقاتلين لا لمجرد الكفر وإلا ما قال الله “لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون 6).
(المصدر: مدونات الجزيرة)