الجهاد الملفق
بقلم أ. عباس شريفة
لا يكاد يأتي الجهاد في القرآن الكريم منفرداً في اسمه “الجهاد” إلا أن يضاف له الوصف الذي يعطيه جوهره وحقيقته، وهو أن يكون في سبيل الله، ولعل هذه التلازمية التي لا تنفك في الخطاب القرآني بين الجهاد والسبيل فيها ملمح هام للغاية، وهو ألا نغتر بكثير من صور ومظاهر دعوات الجهاد المثيرة والتي قد تخدعنا بشجاعة دعاتها أو إخلاصهم، أو بدعايتها وشعاراتها البراقة ، وتضحياتها التي تحاول أن تخترق وعينا وهي مخضبة بدماء التضحية التي تشفع لها ، ولا بد لكشف حقيقة هذه الدعوة من تفحص دقيق للسبيل والطريق الذي نجاهد فيه وإننا ما لم نتفحص هذ السبيل الذي نجاهد ونقاتل فيه قد نكون أداة وظيفية تقاتل في سبيل تحقيق أهداف عدوها وتحت رايته ونحن نظن أننا على خطى خالد حمزة رضي الله عنهما.
فإنه من المعلوم والمقرر عند العلماء أن العمل لا يكون مقبولاً عند الله تعالى إلا أن يكون خالصاً صائباً، خالصاً لوجه الله تعالى وصائباً أي موافقاً لما عليه الكتاب والسنة وأهل العلم، فإن كان خالصاً غير صائب لا يقبل وكذلك إن كان صائباً غير خالص لا يقبل.
وإن كشف صواب الفعل من عدمه هي مهمة العلماء الربانين، فكثيراً ما يأتي المخادعون بصورة جهاد ملفق ليشوشوا به ويخدعوا به الشباب فيق الكثير بشركهم، من حيث يظنون أنهم يفعلون ما يرضي الله تعالى.
الغلو في تكفير المسلمين بناء على شبهات يسوقونها في مسائل الحاكمية والولاء والبراء.
وهنا لا بد من تبين حقيقة الجهاد الملفق الذي يودي بكثير من الشباب الإسلامي في هذه الأودية المضلة والمحارق الماحقة.
ومنها على الخصوص تيارات السلفية الجهادية كما تحب أن تنعت نفسها من داعش إلى القاعدة إلى الجماعات المحلية الصغيرة التي تنطلق في استراتيجيتها من ثنائية حركية تقوم على بعدين:
– على بعد نظري عقدي هو العقيدة السلفية ((بزعمهم))، والتي على أساسها تُرسم جغرافيا التكفير وتحدد بنك الأعداء الذين ستتوجه لهم بالحراب والقتال والاستهداف.
– وعلى بعد تطبيقي هو الجهاد المنبثق في أحكامه ودوافعه وأهدافه من هذه العقيدة المنحولة الملفقة والمنسوبة زوراً للسلف الصالح.
– إن الانحراف الواقع في ممارسة الحركات الجهادية من القاعدة وداعش هو فرع وانعكاس طبيعي وتلقائي للانحراف التصوري العقدي والخلل في التنظير، والغلو في تكفير المسلمين بناء على شبهات يسوقونها في مسائل الحاكمية والولاء والبراء.
– فتنطلق هذه الجماعات الجهادية من فلسفة أن قتال المرتدين أولى من قتال الكفار الأصليين بناء على أن أبي بكر رضي الله عنه بدأ بقتال المرتدين قبل أن يوجه الجيوش للكفار، وبذلك تتحول بوصلة الحرب نحو قتال المسلمين باعتبار كفر الحكومات والجيوش والشرطة والموظفين والجماعات الإسلامية التي ترضى بالديمقراطية باعتبارها ترتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، وبذلك تُسدد البندقية إلى صدر الأمة بدلاً من أن تتوجه البندقية إلى نحور الغزاة والطغاة.
– ثم تقوم هذه الجماعات بعملية تنخيب الجهاد وفق معايير هي أضيق من سم الخياط وهذه هي نقطة الافتراق التي حملت أبو عبيدة البنشيري مع بن لادن والظواهري على الانشقاق عن الشيخ عبد الله عزام، الذي كان يتبنى مشروع الجهاد الشعبوي ، وقام هؤلاء بتأسيس معسكر قاعدة الدعوة والجهاد كبديل عن مكتب الخدمات الذي أسسه الشيخ عبد الله عزام ، والذي بدأت تدرس فيه كتب الغلو والتكفير من كتب المقدسي ومحمود عمر السيف ، بناء على أن الجهاد يجب أن يكون خالصاً من شوائب البدع والضلالة ، وبما أن كل المدارس الإسلامية ما عدا السلفية الجهادية هي في دائرة إما البدعة أو الضلالة أو الكفر فلا بد من الإعداد العقائدي القائم على المنهج الصافي ، وبذلك تكونت عندهم عقدة الصفاء المنهجي، وما هي في الحقيقة إلا الاستعلاء على المسلمين بمنهج التكفير والغلو واحتكار الإيمان والفهم عن الله تعالى .
وتعليل القتال بالكفر وإن كان هو اختيار لبعض الفقهاء، لكن ما يرجحه شيخ الإسلام بن تيمية هو أن علة الجهاد هي الحرابة
– كما تنطلق الجماعات الجهادية في تلفيقاتها، من تعليل القتال بعلة الكفر وليس بعلة الظلم والحرابة ، فيجعلون من مجرد الفكر سبباً كافياً لبدء القتال حتى بدون تقديم الدعوة باعتبار أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتهرة ، ولا عذر لمن لم يؤمن بها ، فلا يبقى أمامهم إلا القتال ، وتعليل القتال بالكفر وإن كان هو اختيار لبعض الفقهاء ، لكن ما يرجحه شيخ الإسلام بن تيمية هو أن علة الجهاد هي الحرابة ، لقوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) البقرة
فالمخالفة في الدين ليست سبباً لبدء القتال، إذ كيف تكون علة للقتال وقد قبل المسلمون التعايش مع من يخالفوهم في المعتقد واعتبرهم من أهل الذمة .
مع أن في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يثبت فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل عدوين معاً على جبهتين
– أما الانحراف من حيث الاستراتيجية فإن الحركات الجهادية السلفية تتبنى استراتيجية الجهاد العالمي القائمة على الضرب في كل مكان بناء على فهم خاطئ لقوله تعالى ((قاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة)) ويضيفون لها استراتيجية قتال العصابة، مع أن في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يثبت فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل عدوين معاً على جبهتين، ولا تثبت أنه جعل من قتال العصابة استراتيجية دائمة، إلا في حالة محدودة كما فعل أبا بصير وأبا جندل وهي حالة خاصة محدودة.
– كما تشترط هذه الجماعات إسلامية الراية حتى يصح الجهاد ‘مع أن إجماع المسلمين على أن جهاد دفع الصيال لا يشترط له الراية، ولا يشترط له إذن الأمير ولا البيعة، بل إن الفقهاء أجازوا في جهاد الدفع الجهاد مع كل بر وفاجر، وأجازوا الجهاد تحت راية غير السلمين، في حال كان العدو إذا انتصر هتك أعراض المسلمين واستباح بيضتهم ومرد هذا الانحراف في هذه النقطة بالتحديد هو أنهم ينزلون أحكام جهاد الطلب على أحكام جهاد الدفع ويعطونه نفس الشروط والأهداف بطريقة ملفقة.
والحقيقة أن للجهاد غايات وأهداف كثير ة ومنها كف يد المعتدين ورد صيال الصائل ونصرة المظلوم، وكف بأس المعتدين.
– ومن انحرافاتهم أنهم يجعلون للجهاد هدفاً واحداً لا ثالث له وأي غاية غيرها يعتبر الجهاد معها باطلا وهو تحكيم الشريعة وقيام سلطان الله في الأرض بناء على فهم خاطئ لقوله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حتى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) الأنفال
فيجعلون المعنى أن يخضع الناس للدين بالسيف وهم يؤكدون بذلك دعاوى المستشرقين الذين يقولون إن الإسلام انتشر بالسيف، ويجعلون معنى الفتنة هنا الكفر،
مع أن معنى الفتنة هنا هي الإكراه على الكفر وإلا كيف يتعايش الإسلام مع الكفر، والمعنى الصحيح لقوله تعالى (حتى يكون الدين كله لله) أي أن يكون اختيار الناس للدين هو اختيار لله بحرية ورضا دون إكراه.
والحقيقة أن للجهاد غايات وأهداف كثير ة ومنها كف يد المعتدين ورد صيال الصائل ونصرة المظلوم، وكف بأس المعتدين.
والأيات في ذلك كثيرة
قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) البقرة (193)
وقوله تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) الحج
لا شك أن أس انحراف الحركية الجهادية عند هذه الجماعات راجع إلى أسسها النظرية وفساد التصور العقدي
لا شك أن أس انحراف الحركية الجهادية عند هذه الجماعات راجع إلى أسسها النظرية وفساد التصور العقدي ، والذي تنبثق معه ومنه كل هذه الانحرافات والضلالات السلوكية التطبيقية ، فكيف إذا أضيف له انحراف التطبيق والممارسة أيضاً ، إننا أمام نظرية جهادية تلفيقيه خطيرة تقتطع النصوص والأحكام وترقع النظريات بطريقة مقلوبة وفهم منكوس ، بحيث يتحول فقه الجهاد إلى علم الجريمة المنظم ومن يطالع كتاب مسائل في الجهاد لأبي عبد الله المهاجر ، لا يظن إلا أنه يقرأ كتاباً لكبار المجرمين ، يحاول أن يعضد جرائمه بالنصوص والأحاديث والأحكام .
(المصدر: مؤسسة رؤية للثقافة الإعلام)