مقالاتمقالات مختارة

الجهاد المعاصر بين منهجين: عزام وبن لادن

الجهاد المعاصر بين منهجين: عزام وبن لادن

بقلم كرم الحفيان

مقدمة

مروان حديد رائد الحركية الجهادية في سورية التي تجسدت بتنظيم الطليعة المقاتلة، الملا محمد عمر زعيم المشيخية المجاهدة في أفغانستان الممثلة بحركة طالبان، أحمد ياسين مؤسس الإخوانية المقاومة في فلسطين أو ما عرف لاحقاً بحركة حماس، عمرعبدالرحمن الأب الروحي للجماعة الدعوية المحتسبة ثم الجهادية في مصر: الجماعة الإسلامية، شامل باساييف قائد القوات الشيشانية النظامية ثم غير النظامية في حروب الاستقلال ضد روسيا إبان تفكك الإتحاد السوفيتي، وغيرهم الكثير من الأسماء اللامعة في سماء الجماعات والشخصيات المجاهدة والجهادية على امتداد خمسين عاماً خلت.
إلا أن الاسمين الأشهر والأكثر رمزيةً سواءً على صعيد الإعلام العالمي أو (في عيون غالب الشباب المسلم المقاتل) حول العالم هما: عبد الله عزام وأسامة بن لادن.

يعتقد البعض أن مدرسة بن لادن والقاعدة هي التطورالتاريخي التسلسلي لرؤية عبدالله عزام وطريقته في الجهاد (خاصة العالمي) منه، بينما يرى آخرون أن البون شاسعٌ بين المنهجين في الفكر والممارسة وهما نقيضان لا التقاء بينهما. تحاول الأسطر القادمة فك الاشتباك ومقاربة الحقيقة عبر استنطاق إرث الرجلين النظري والعملي، والمرور سريعاً على مساحات الاتفاق والاختلاف، مع الأخذ بعين الاعتبار ما استقر من نهجهما دون ما سبق أو ما شذ.

بادئ ذي بدء، تجدرالإشارة إلى المبادئ الرئيسية الجامعة بينهما والمكونة من خمسة عناصر:

أولاً: التصور (الفلسفي) لطبيعة الدين والحضارة الإسلامية

وأهم انعكاساته هو إدراك جوهر الصراع (لاسيما المعاصر) وأولوياته بين الأمة المسلمة وأعدائها، والمقتبس بالدرجة الأولى من كتابات وتقعيدات المفكرين سيد ومحمد قطب.

هذا التصور دندن باستمرارعلى: تفرد ومركزية منظومة التشريع في حياة المسلم على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، وفاصَل كل من ينازع أو ينتزع شيئاً من خصائصها، وجهر بالعداوة لمنظومة الحكم العلمانية المحلية والعالمية، واصفاً إياها بالجاهلية المعاصرة، التي ينبغي العمل على الإطاحة بها لتعود قوانين الإسلام لمنصة الحكم مجدداً.

ثانياً: طريقة التغيير

تنحصر بثورات شعبية بقيادة إسلامية، إذ يعتقد الشيخان بعدم جدوى حرب التنظيمات ضد السلطات الجاهلية، كتلك التي خاضت غمارها بعض المجموعات الجهادية المسلحة (منفردة) ولم يكلل أي منها بالنجاح، نظراً للفارق الرهيب في العدد والعدة والإمكانات. بيد أنهما لا يخفيان إكبارهما لمحاولات بعض الجماعات وتاريخها الحافل بالعمليات الفدائية الجسورة ضد رؤوس الأنظمة وكبار زبانيتهم.

من ناحية أخرى، لا يؤمن كلاهما بنجاعة الطريق البرلماني الدستوري السلمي في التخلص من النظم الحاكمة والقضاء على فسادها وإفسادها.

ثالثاً: أولوية العدو البعيد

ولأن الثورات الشعبية (عادةً) ما تحتاج لوقت ليس بالقصير ريثما يشتعل أوارها تدريجياً من خلال: الدعوة للفكرة، والإعداد للمواجهة، والحشد للجماهير والاختراق لمؤسسات الدولة، أو لتنفجر من تلقاء نفسها نتيجة: إحساس الشعوب بتراكم المظالم والانتهاكات الممنهجة، أو العدوان الصارخ على هويتها الدينية والثقافية.

فإن عزام وبن لادن يعتمدون في رؤيتهما الجهادية سياسة البدء بقتال العدو البعيد المحتل وتأجيل الدخول في صدامات مبكرة مع العدو القريب المحلي. ومع ذلك تتباين اختياراتهما في تحديد ماهية العدو البعيد المستهدف، وآلية وأدوات مواجهته، سنتطرق لها في محورالفروقات.

رابعاً: الجهاد فرض عين على كل مسلم

وهذه المسألة من أظهر وأبرزالمشتركات العملية بين الطرفين. حتى إن عزام كان يشدد في هذه المسألة (على غير عادته)، ويغلظ القول أحياناً على من يفتي بأنه فرض كفاية.

وقد ألف كتاباً بعنوان: “الدفاع عن أراضي المسلمين أهم فروض الأعيان” قرر فيه: وجوب الجهاد على كل مسلم قادر، وإثم كل من لا يجاهد، ونادى بنفير المسلمين عامة والعلماء خاصة لجهاد الكافرين المحتلين للبلدان الإسلامية.

ولعل هذه النقطة هي من دفعت الكثيرين لاعتقاد تماثل نموذجي عزام وبن لادن في العمل والفكر الجهادي.

خامساً: العقيدة السلفية المعاصرة

يتبنى الرجلان المرجعية السلفية فيما يخص تفاصيل العقائد النظرية. وتهيمن هذه المدرسة بشكل كبيرعلى الحالة العلمية بالسعودية وغالب الخليج العربي، ويتمسك بها غالب الملتزمين دينياً هناك. أما في باقي العالم الإسلامي الممتد شرقاً وغرباً من جاكرتا إلى طنجة، فتبرز المدرستان الأشعرية والماتريدية كتيار عام سائد ومستقر منذ أزمان بعيدة.

وبالرغم من الاتفاق والتناغم بين المنهجين فيما سبق، إلا أن هناك مساحات خلافية كبيرة وحساسة لا تقل أهمية ولا تأثيراً عن المشتركات، نجمل أبرزها في خمسٍ أيضاً:

أولاٌ: من الجهاد الآدابي إلى الجهاد الأدبياتي

يؤمن عزام بضرورة تلقي المجاهدين قسطاً من التربية قبل حمل السلاح، كيما لا تنحرف البندقية باتجاه رؤوس المؤمنين، فالتربية الإيمانية الأخلاقية تشكل عنده الأرضية الصلبة التي لا يمكن أن يقوم عملٌ قتاليٌ راشد إلا بالارتكاز عليها، وهذا المبدأ تجده مكرراً وبجرعات كبيرة في توجيهات عزام، ومقدماً على التوجه والتيار الفكري.

أما بن لادن فيغلب على خطاباته الإعلامية وأدائه العملي التمحور حول الدعوة إلى التمسك بأدبيات القاعدة الفكرية والقتالية بصورة أكبر وأكثر إلحاحاً من ترسيخ الجوانب التربوية السلوكية العامة.

ثانياً: العقلية الفقهية بين الأصولية والوهابية

يحمل عبد الله عزام (الحاصل على دكتوراه في أصول الفقه من جامعة الأزهر) عقليةً أصولية تعي تنوع القواعد والطرق المستخدمة في استنباط الأحكام، وما يتفرع عنها من مسائل فقهية كثيرة تقع في دائرة الخلاف الواسع المقبول بين المذاهب السنيّة المعتبرة، ومنها بلا شك مسائل كثيرة تُعنى بشؤون السياسة والحرب والجهاد. فلذا تجده يتحاشى تعميم الأحكام على الأشخاص التابعين للمؤسسات أو الأحزاب أو الجماعات ويجنح للتفصيل، خاصةً في فتاوى التكفير أو الدماء، الملمح الذي لا يُلحظ عند بن لادن، بل يظهرعكسه في أحيانٍ كثيرة، فتجد تعميماتٍ كثيرة في تنزيل الأحكام على جموع من المخالفين ومنهم الإسلاميون المنخرطون في البرلمانات أو الوزارات أو التحالفات مع (السلطات الجاهلية)، يرجع هذا إلى التأثر بالعقلية الفقهية الوهابية التي تجري الأحكام على الظواهرالمتماثلة والوسائل المشتركة دون التحري عن البواعث وقرائن الحال وبوصلة الأعمال.

ثالثاٌ: الجهاد العالمي بين المناصرة والمهاجرة

يتمحور البرنامج الجهادي المعولم عند عزام حول كيفية مؤازرة مشاريع المقاومات الإسلامية المتعددة في مختلف الأقطارالإسلامية، عبر حشد الدعم الإنساني والخبراتي والعسكري (المجاهدين المتطوعين)، وتوجيهه وفق السياسة التي يرتئيها قادة كل مقاومة دون التدخل في تفاصيل إستراتيجية كل ميدان جهادي وكأنّه يقول بلسان حاله: أهل مكة أدرى بشعابها.

في حين يطلق بن لادن تسمية المهاجرين على النافرين لنصرة إخوانهم في شتى البلاد المحتلة، ولهذا التوصيف دلالات وتبعات شرعية تفيد الأحقية بقيادة الجهاد والمشروع الإسلامي بشكل عام.

ولذا يعتبر بن لادن تنظيم القاعدة في أفغانستان: القيادة المركزية للجهاد في العالم، وعلى أفرعها في مختلف البلاد أن تسير وفق الخطة التي رسمتها القاعدة الأم بغض النظرعن موافقتها أو مخالفتها للاختيارات السياسية والتكتيكية لمجاهدي تلك البلاد، تماماً كما فعلت القاعدة في أفغانستان بإعلان جهاد يهود وصليبيي العالم أجمع دون الرجوع إلى الأفغان وعلى رأسهم حركة طالبان في ذلك الوقت.

رابعاً: حرب النظام العالمي أم دفع الصائل المباشر؟

يركز بن لادن في إستراتيجيته ونهجه القتالي على ضرب رأس النظام العالمي من باب “فقاتلوا أئمة الكفر”، وذلك عبر التركيز على استنزاف أمريكا وحلفائها الغربيين باستهداف مصالحهم (العسكرية والاقتصادية) ومواطنيهم في جميع بقاع الدنيا، مما سيؤدي وفقاً لمخططه لانحسار النفوذ والهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي وإنتاج مناخ مناسب للتحرر والإطاحة بأنظمة الحكم المحلية العميلة.

هذه النظرة يخالفها عزام من زاويتين:

1- انطلاقاً من فهمه لفقه دفع الصائل في الشريعة الإسلامية وسياسة تحييد الخصوم، فهو يميل إلى تحريركل أرض إسلامية من صائلها الرئيس المباشر وعملائه دون توسيع دائرة الخصوم في كل قضية تحرر.

2- لم يذكرعن عزام دعوة أو تجويزخطف الطائرات وتفجيرالحافلات المدنية، لا في روسيا ولا أمريكا ولا غيرهما.

خامساً: ماهية الخلاف مع الجماعات الإسلامية وكيفية إدارته

من خلال استقراء رسائل بن لادن العلنية وما كُشف من السرية ك (وثائق أبوت أباد)، يظهر لك بجلاء تصنيف بن لادن للكثير من (أخطاء) الجماعات والشخصيات الإسلامية المقاتلة (في أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال وغيرها) ضمن الأخطاء العقدية، التي تمس أو تنقض التوحيد وليست مجرد سياسة أو إستراتيجية خاطئة.

وعلى الصعيد العملي تراوحت العلاقات في ساحات الجهاد بين القاعدة وكثير من الجماعات بين: التنسيق تارة والمهادنة تارة، والاقتتال الممزوج بالتكفير تارة أخرى.

على الجانب الآخر، رفض عزام تأسيس تنظيم مستقل واكتفي بنشر ودمج المجاهدين العرب في الفصائل الأفغانية المتعددة، وكان يحذر بشدة من المشاركة في أي اقتتال بيني.

وعلى الرغم من اختلافه مع الكثير من الجماعات السلمية في الوطن الإسلامي، وتحفيزه للجميع على تلافي جوانب: التقصير في الجهاد والإعداد، والسلبية أو الضعف السياسي، إلا أنه كان: حريصاً على التحذير من الطعن في توحيدهم، وداعياً إلى التكامل بين الجماعات والشخصيات الجهادية والدعوية والسياسية والعلمية ما لم تكن عميلة.

خاتمة

حاولت هذه المقالة أن ترسم تصوراً عاماً موجزاً عن منهجي عزام وبن لادن في الجهاد، كونهما من أكثر الشخصيات تأثيراً في وجدان الشباب المجاهد ومسيرة الجهاد العابر للحدود في عصرنا الحالي. وتطرقت لأبرز نقاط الاتفاق والخلاف بينهما وخلاصتها:

أن عزام وبن لادن انطلقا في فكرهما وحركتهما من ثلاثة مرتكزات مشتركة:

1- الأرضية الفكرية لسيد قطب 2- الروح الجهادية والثائرة 3- العقيدة السلفية المعاصرة، إلا أنه مع الممارسة وتبلور مدرسة كل طرف ظهرت عدة فروق فارقة، مردها بشكل كبير إلى: العقلية المهيمنة والمنظمة والمركبة للمرجعيات الثلاث، والبيئة الدينية الاجتماعية المحيطة بكل طرف.

عقلية عزام كانت تميل إلى الأصولية المستوعبة لجذور ومنابع الاختلاف والتنوع في المذاهب والآراء الإسلامية، إضافةً إلى تأثره بمبدأ “نجتمع فيما اجتمعنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”، فضلاً عن اهتمامه الشديد بالنواحي التربوية.

أما عقلية بن لادن فغلب عليها النمط الظاهري المنتشر بالسعودية والمتمثل بمدرسة الرأي الواحد الحائز للحق المطلق والحامي للتوحيد.

وهو ما يفسر:

تأطيرعزام للخلافات داخل البيت الإسلامي في سياق خلاف الأخوة وإن أغلظ القول في بعضها (المرتبط بالإعداد والجهاد).

وجنوح بن لادن في أحيان كثيرة لوصف خلافاته مع شركاء السلاح والعمل الإسلامي بخلافات حول التوحيد.

ينطبق الأمر كذلك على رؤية بن لادن وطريقته في الجهاد العالمي إذ غلب عليها الفردية في: اتخاذ القرارات المصيرية والوسائل الغريبة والاستقلال بالمشروع عن أصحاب الأرض، بعكس عزام الذي كان لا يخرج عما يجتمع عليه أكثرالقادة والعلماء في ميدان الجهاد.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى