بقلم د. محمد عياش الكبيسي
حلب تحترق لأن العالَم كله يحترق بمنظومته القيمية وعلاقاته الإنسانية، حتى صدقت فيه أو تكاد مقولة الكاتب المعروف مصطفى محمود (الشيطان يحكم).
إن شلال الدم المتدفق في المنطقة منذ عقود من الزمن لم يكن أزمة طارئة ولا حدثا عابرا أو خطأ عارضا، بل هو نتيجة لحسابات معقدة جعلت الإنسان وكرامة الإنسان وحقوق الإنسان على هامش أولوياتها وفي آخر صفحة من ملفاتها.
إن العالم لا يحتاج أبدا إلى تطوير أدواته وأجهزة رصده ليصل إلى حقيقة ما يجري من فظائع وجرائم وكوارث، ولا تنقصه أبدا المعلومات والوثائق والأدلة الجنائية ليكتشف شخصية الجاني وملابسات الجريمة، وقد أخذ الوقت الكافي وزيادة للدراسة والتحليل والتدقيق، ولم يبق أمامه إلا أن يعترف بفمه الملآن وبقلمه الغليظ أمام نفسه وأمام التاريخ أنه راضٍ راضٍ حتى ينقطع النفس عن كل هذا الذي جرى ويجري، بما في ذلك خنق الأطفال بالغازات السامة أو حرقهم بالبراميل المتفجرة من أقصى قرية في أطراف الفلوجة حتى آخر زقاق في أحياء حلب القديمة.
لقد بات من الواضح أن الإرادة الشيطانية التي تحكم هذا العالم، هي التي أطلقت يد (الوليّ الفقيه) في طول الهلال الخصيب وعرضه، في مقابل تقييد الأيدي العربية والإسلامية في شمال الهلال وجنوبه، حتى ظن الظانّون أن هذا كان لغفلة أو تقصير أو إيثارا للدعة والسلامة، والحقيقة خلاف هذا بكل تأكيد، ففي أي منطق ترى السعودية مليشيات إيران تعبث على حدودها الشمالية منذ عقد ويزيد ثم لا يكون لها موقف مع أن هذه المليشيات قد أعلنت بالصوت المسموع مرارا وتكرارا أن هدفها الأخير إنما هو بلاد الحرمين؟ وفي أي منطق ترى تركيا الجيش الإيراني الرسمي يتحرك على حدودها الجنوبية ثم تكتفي بإيواء النازحين واللاجئين؟ ويبدو الآن أنه حتى هذا الهامش بدأ التضييق عليه من قبل الاتحاد الأوروبي، ثم بأي منطق ترى حكومة لبنان أفواجا من مليشيات حزب الله تروح وتغدو بكامل عدتها وعتادها عبر حدودها الطويلة مع سوريا دون استشارة أو إذن؟
قال لي أحد الخبراء في الشأن الأميركي مجيبا عن كل هذه الأسئلة: إن التفسير الوحيد لكل هذه الظواهر أن أميركا قررت أن تترك المنطقة بخيرها وشرّها! نعم ربما تكون هذه المعلومة المتداولة بالفعل -إن سلمنا بها- تجيب عن سرّ التغوّل الروسي المفاجئ، لكنها لن تجيب عن حالة الشلل الذي يكبّل إرادة الدول العربية والإسلامية بهذا الشكل الذي بات يهدد حدودها بل ووجودها.
أيا ما كانت الاحتمالات (الخفيّة) فإن هناك حقيقة تعلو على كل الاحتمالات، وهي أن هذا العالم بدأ يفقد خصائصه الإنسانية، وأنه في طور التحول إلى طبيعة جديدة أقرب إلى حالة (التوحّش)، لكن بأدوات علمية متطورة جدا تجعل (العالم الحديث)، أخطر بكثير من (الغابة القديمة). إن انهيار القيم الإنسانية بهذا الشكل المخيف لن يكون في مصلحة أحد، وإذا استمر (قادة العالم) بهذه السياسة فإن مصيرا أسود ينتظرهم وينتظر البشرية كلها معهم، ولن تكون شعوبهم أبدا بمنأى عن ثقافة التوحش هذه.
المصدر: العرب القطرية.