بقلم العلامة الشيخ يوسف القرضاوي – من كتاب “الفتوى بين الانضباط والتسيب”.
العلم مع فرضيته والثقافة مع حتميتها للمفتي، ليسا كل شيء، فلابد مع العلم من عمل، ولابد مع العمل من خشية، والعلم الذي لا يثمر خشية الله وتقواه لا قيمة له في ميزان الحق، يقول الله تعالى “إنما يخشى الله من عباده العلماء”(فاطر:28).
إن آفة الحياة ليست من فساد العقول، بقدر ما هي من فساد الضمائر، وإن أزمة الناس ليست أزمة معرفة بقدر ما هي أزمة أخلاق.
ولم تفسد الأديان السابقة على الإسلام بسبب الجهال بحقائقها، بقدر ما فسدت من علماء السوء، المتاجرين بها، المحرفين لها.
ولا عجب أن حمل القرآن بقوة على الذين يخونون علمهم، يشترون به متاعا زائلا، ويلبسون الحق بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون.
نقرأ قوله تعالى: “وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون”(آل عمران:187).
ونقرأ كذلك قوله سبحانه: “إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمنا قليلا، أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار، ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم. أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار”(البقرة:174-175).
ونقرأ أسوأ مثلين ذكرهما القرآن لمن علم ولم يعمل بمقتضى ما علم: كالذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه، وجعل الله مثله “كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث” (الأعراف:176). وكذلك بنو إسرائيل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها، أي لم يقوموا بحقها، ولم يعملوا بهديها، جعل القرآن مثلهم “كمثل الحمار يحمل أسفارا”(الجمعة:5).
من هنا أكد علماء الإسلام على الجانب الأخلاقي للمفتي، ولم يكتفوا منه بسعة العلم والتبحر فيه، حتى يزين علمه بالتقوى ومكارم الأخلاق.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أخبركم بالفقيه كل الفقيه؟ من لم يوئس الناس من رحمة الله، ولم يرخص لهم في معاصي الله، ألا لا خير في علم لا فقه فيه، ولا خير في فقه لا ورع فيه، ولا قراءة ولا تدبر فيها.
ويقول الحسن البصري: هل تدري ما الفقيه؟ الفقيه الورع الزاهد، الذي لا يسخر ممن أسفل منه، ولا يهمز من فوقه، ولا يأخذ على علم علمه الله حطاما.
ويقول الإمام مالك: لا يكون العالم عالما، حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس ولا يفتيهم به، مما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم.
فأين هذا ممن يفتي الناس بمنع شيء وهو يمارسه ويعمله، أو يفتيهم بوجوب فعل شيء، وهو تاركه ومضيعه؟ والله تعالى خاطب بني إسرائيل فقال: “أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون”(البقرة:44).
ومن أمانة المفتي وتقواه، أن يحيل سائله إلى من هو أعلم منه بموضوع الفتوى ولا يجد في ذلك حرجا في صدره.
سئلت عائشة أم المؤمنين عن المسح على الخفين، فقالت للسائل: سل عليا، فإنه أعلم مني بهذا، وقد كان يسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك، أن يسأل هو إخوانه من أهل العلم ويشاورهم، ليزداد استيثاقا واطمئنانا إلى الأمر، كما كان يفعل عمر، حيث يجمع علماء الصحابة ويشاورهم، بل كان يطلب رأي صغار السن فيهم مثل عبدالله بن عباس، الذي قال له مرة: تكلم ولا يمنعك حداثة سنك.
ومن هذا الجانب الأخلاقي: أن يرجع عن الخطأ إذا تبين له، فالرجوع إلى الحق خير له من التمادي في الباطل، ولا إثم عليه في خطئه، لأنه مأجور عليه، وإنما يأثم إذا عرفه ثم أصر عليه عنادا وكبرا، أو خجلا من الناس والله لا يستحي من الحق.
وقد كان بعض السلف يفتي سائله، فإذا تبين له خطؤه بأمر ينادي في الناس بأن فلانا الفقيه أفتى اليوم خطأ، ولا يبالي بما يقول الناس.
ومن أخلاقيات المفتي: أن يفتي بما يعلم أنه الحق، ويصر عليه، ولو أغضب من أغضب من أهل الدنيا، وأصحاب السلطان، وحسبه أن يرضي الله تبارك وتعالى. وكل الذي فوق التراب تراب.
وقد أفتى الأئمة المتبوعون بأحكام رأوها حقا، ورآها أصحاب السلطان ضد سلطانهم، فأصروا عليها مجاهرين، وعرضوا أنفسهم لسخط المتسلطين، فضربوا وأوذوا، ولكنهم صبروا على ما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا.
ولقد امتحن شيخ الإسلام ابن تيمية من أجل فتاويه التي خالف بها المألوف لدى المقلدين الجامدين، فكادوا له لدى أولي السلطة، حتى دخل السجن أكثر من مرة، وظل في محنته الأخيرة إلى أن وافاه الأجل رضي الله عنه.
ومع هذا لم يتزحزح عن موقفه، ولم يتراجع عما رأى أنه الحق، ولم يبال بسجن ولا نفي ولا تهديد بقتل، ومن كلامه في ذلك: سجني خلوة، ونفيي سياحة (هجرة) وقتلي شهادة.
وقبل ذلك كله يجدر بمن عرض نفسه للفتوى أن يشعر بالافتقار إلى الله تعالى، وصدق التوجه إليه، وأن يقف على بابه متضرعا داعيا أن يوفقه للصواب ويجنبه زلل الفكر واللسان والقلم، ويحفظه من اتباع الهوى، وخليق به أن يقول ما كان يقول ابن تيمية: اللهم يا معلم إبراهيم علمني، وما كان يقوله بعض السلف، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أو يدعو بدعاء موسى عليه السلام: “رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي” (طه:25-28).
وبما جاء في الصحيح من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم”.
وقد وضع علماء المسلمين جملة من الكتب فصلوا فيها الشروط والواجبات والآداب التي ينبغي أن تتوافر فيمن يقوم بالإفتاء.
منها: “صفة الفتوى والمفتي والمستفتي” للعلامة ابن حمدان الحنبلي.
ومنها: “الأحكام في تمييز الفتاوى والأحكام” للإمام القرافي المالكي.
ومنها: “الفقيه والمتفقه” للإمام الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي.
ومنها: الكتاب الذي طبقت شهرته الآفاق: “أعلام الموقعين عن رب العالمين” للإمام أبي عبدالله شمس الدين بن القيم.
وينبغي لمن وضع نفسه ـ أو وضعته الأقدار ـ موضع الفتيا، أن يراجع هذه الكتب ـ وبخاصة: آخرها، فهو أجمعها ـ ليمضي في طريقه على نور من ربه، وبصيرة من أمره.