بقلم د. عبد العزيز بن سعد الدغيثر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل مت خالف أمره وعصاه أحمده سبحانه على ما أنعم علينا به من نعمة الهداية والبعد عن طرق أهل الغواية فالحمد لله كثيرا والشكر لله كثيرا، وأصلي وأسلم على محمد صلى الله عليه وسلم ما ترك من خير إلا دلنا عليه ولا شرا إلا حذرنا منه، على ما وصفه الله به” عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم”، حبه شرط للإيمان، واتباعه شرط لصدق المحبة، ومعرفة سنته شرط لصحة الاتباع، فاللهم ارزقنا شفاعته وأوردنا حوضه واسقنا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبدا. أما بعد:
فأنتقل بك أيها القارئ الكريم موقف من مواقف السيرة، رواه الإمام أحمد في مستنده بسند صحيح، حيث الناس في بيعهم وشرائهم وأمور معاشهم في سوق ذي المجاز ، وبينما هم كذلك إذ برجل يقدم عليهم، يأتي كل قوم في مجالسهم : يقول لهم: يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وكان الناس يزدحمون عليه غير أنهم لا يقولون شيئا، وهو لا يفتر من دعوتهم وأبو لهب بن عبدالمطلب يصيح خلفه: إنه صابئ كاذب، يريد: لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزى.
ما أعظم جرم أبي لهب، وما أعظم حلم ابن أخيه محمد – صلى الله عليه وسلم – ، يستمر بدعوتهم، ولا يفتر عمه من تجفيل الناس عنه، يكرر عليهم: قولوا لا إله إلا الله ، كما قالها من قبل – صلى الله عليه وسلم – لقريش، فقالوا بكل صفاقة:” أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب”.
ثم أنتقل بك أيها القارئ الكريم إلى مكة حيث قدم رجل من المدينة كريم الحسب عظيم الحلم اسمه سويد بن الصامت الأوسي، فما أن وصل إلى مكة حتى تصدى له صلى الله عليه وسلم حين سمع به فدعاه إلى الإسلام فقال سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان- يعني حكمة لقمان- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه. فقال له: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى علي، وهو هدى ونور، فتلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم وكان قتله يوم بعاث”[1]. ويلحظ أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو العتاة بتلاوة شيء من القرآن عليهم لشدة تأثيره عليهم.
لقد كان صلى الله عليه وسلم لا يقبل التنازل عن شيء جراء عدم قبول كثير من الناس لدعوته، وأوضح شاهد على ذلك ما جاء في قصة عرض النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر على القبائل ولقائهم بدغفل النسابة حيث قال علي رضي الله عنه في آخره: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم ، فقال : ممن القوم ؟ قالوا : من شيبان بن ثعلبة ، فالتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : بأبي أنت وأمي هؤلاء غرر الناس فيهم مفروق بن عمرو وهاني بن قبيصة والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك ، وكان مفروق قد غلبهم جمالا ولسانا وكانت له غديرتان تسقطان على تريبته[2] وكان أدنى القوم مجلسا فقال أبو بكر رضي الله عنه : كيف العدد فيكم ؟ فقال مفروق : إنا لنزيد على ألف ولن يغلب ألف من قلة فقال أبو بكر : كيف الحرب فيكم ؟ فقال مفروق : إنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى ، لعلك أخو قريش ؟ فقال أبو بكر : قد بلغكم أنه رسول الله ، ألا هو ذا ، فقال مفروق : بلغنا أنه يذكر ذاك ، فإلى ما تدعو يا أخا قريش ؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أدعوكم إلى شهادة ألا لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإلى أن تؤووني وتنصروني فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق والله الغني الحميد ) فقال مفروق : وإلام تدعو يا أخا قريش فوالله ما سمعت كلاما أحسن من هذا ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم …) فقال مفروق : وإلام تدعونا يا أخا قريش فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى …) فقال مفروق : دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك ، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة فقال : وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا ، فقال هانئ : لقد سمعت مقالتك يا أخا قريش ، إني أرى أنَّ تركنا ديننا واتباعنا على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر أنه زلل في الرأي وقلة نظر في العاقبة ، وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن يعقد عليهم عقدا ولكن نرجع وترجع وننظر ، وكأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة فقال : وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى : سمعت مقالتك يا أخا قريش ، والجواب في جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتك على دينك ، وإنما نزلنا بين صريين ؛ اليمامة والسمامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذان الصريان ؟ فقال المثنى : أنهار كسرى ومياه العرب ، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول ، وإنما نزلنا على عهدٍ أخذه علينا ألا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا ، وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي مما يكره الملوك ، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق ، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه ، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه ؟ فقال النعمان بن شريك : اللهم فلك ذلك ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا )[3] ، ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قابضا على يدي أبي بكر وهو يقول : يا أبا بكر أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها ، بها يدفع الله عز وجل بأس بعضهم عن بعض ، وبها يتحاجزون فيما بينهم ، فقال علي رضي الله عنه : فدفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سر بما كان من أبي بكر ومعرفته بأنسابهم ) [4].
لقد كانت النصرة التامة والشاملة للدين شرط البيعة، مع ما كان فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – من احتياج لردع ظلم أعدائه المشركين، ومع ذلك فالوضوح وشمول النصرة أهم شرط لمن ينال شرف نصرة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، ففي بيعة العقبة نجد أن الأنصار قالوا: يا رسول الله نبايعك، قال: تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة” والحديث أخرجه أحمد بسند حسن.
وسبحان الله، كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يفاوض ويعرض بلغة القوي، لأنه نصرة الدين لا تعرف أنصاف الحلول، بل تحتاج إلى ثبات وصبر ومصابرة، بل كان عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه مبدأ الثبات، كما في حديث خَبّابِ بن الأرَتِّ رضي الله عنه قال: «شَكَونا إِلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو مُتَوَسِّدٌ بُردَةً لَهُ في ظِلِّ الكعبةِ ـ قلنا له: ألا تَستنصِرُ لنا، ألا تَدعو اللهَ لنا ؟ قال: كان الرَّجلُ فيمن قبلَكمُ يُحفَرُ له في الأرضِ فيُجعَلُ فيه، فيُجاء بالميشارِ فيوضعُ على رأسهِ فيُشَقُّ باثنتَينِ،. وما يَصُدُّهُ ذلك عن دِينه، ويُمشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ لحمهِ من عظمٍ أو عَصَب، وما يَصدُّهُ ذلكَ عن دِينه. والله لَيتمَّنَّ هذا الأمرَ حتى يَسيرَ الراكبُ من صنعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ لا يخافُ إِلاّ اللهَ، أوِ الذِّئبَ على غَنمه، ولكنَّكم تَستَعجِلون»[5].
وكان التواصي بالصبر حاضرا في زمن الضعف، فعندما قدم عبدالرحمن بن عوف وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله، كنا في عزة ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة! قال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم-فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا، فأنزل الله:” ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة…”(النساء: 7)[6]. وفي حديث البَراءِ رضيَ اللهُ عنه قال: «اعتمرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذي القَعْدةِ، فأبىٰ أهلُ مكةَ أن يَدَعوهُ يَدخُلُ مكةَ، حتّى قاضاهُم على أن يُقيمَ بها ثلاثةَ أيامٍ. فلما كَتبوا الكتابَ كَتبوا: هٰذا ما قاضىٰ عليهِ محمدٌ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا نُقرُّ بها، فلو نَعلمُ أنَّك رسولُ اللهِ ما مَنَعناك، لكنْ أنت محمدُ بنُ عبدِ الله. قال: أنا رسولُ اللهِ، وأنا محمدُ بنُ عبد الله، ثمَّ قال لعليٍّ: امحُ «رسول الله» قال: لا واللهِ لا أمحوكَ أبداً، فأخذَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الكتابَ فكتبَ: هذا ما قاضىٰ عليه محمدُ بنُ عبدِ اللهِ[7].
فهذه الشواهد الثلاث تؤكد أن الضغط الجماهيري من الصحابة رضي الله عنهم على النبي صلى الله عليه وسلم لم يزحزحه عن مبارحة الحق الذي فيه خيرهم دنيا وأخرى.
وقد أثمرت هذه التربية النبوية للصحابة، حيث نجد ابن عمر رضي الله عنهما أشار على عثمان رضي الله عنه عندما بدأت الفتنة ألا يخلع نفسه لئلا تصبح سنة، كلما كره قوم إمامهم خلعوه أو قتلوه[8].
إن المتقلب المغير لمبادئه جراء أي ضغط أو تأثير لا ينبغي أن يتخذ قدوة، لكن ينبغي أن يفرق بين تغيير المبادئ وتغير القناعات بسبب تغير الاجتهاد ولهذا بحث آخر.
فخلاصة المقال أن المصلح الناجح لا يرضخ لضغط الواقع ولا يتأثر بمطالب المتحمسين ليتزحزح عما يعتقده صوابا. وإذا فاوض أو طالب لم يرض بأنصاف الحلول لأن الحق كتلة واحدة. والله أعلم.
——————————–
[1] رواه ابن هشام 2/34 والبيهقي في الدلائل 2/419 وحسنه أكرم العمري في السيرة 1/195 وانظر البداية والنهاية 4/365.
[2] بمعنى : صدره .
[3] الاحزاب /46 .
[4] رواه البيهقي في الدلائل 2/ 422 والحلية لأبي نعيم 282 وحسنه ابن حجر في الفتح 15/ 71 والقسطلاني في المواهب .
[5] رواه البخاري (3534).
[6] رواه الحاكم في المستدرك 2/307 وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي وأخرجه الطبري في تفسيره 5/170. وسنده صحيح كما في السيرة النبوية الصحيحة لأكرم العمري 1/158.
[7] رواه البخاري (2643).
[8] رواه خليفة بن خياط في تاريخه/170 وحسنه أكرم العمري في السيرة 2/663.