إعداد مي محمد
نظرة على الساحة السعودية تكشف لنا ملابسات ظهور التيار المدخلي أو التيار الجامي أو كما يحب أتباعه وصفه بأنه «سلفية أهل المدينة». ففي تزايد واضح للنشاط العلماني في الساحة السعودية رأى تيار الصحوة-والذي تربّى على أدبيات جماعة الإخوان-أنّ بلاد الحرمين تُعاني مؤامرة يُحيكها العلمانيون لإسقاط هيبة المرجعية الدينية في المملكة، وأنّه لا بد لتيار الصحوة أن يُسقط رموز هذه المؤامرة ويتصدى لها.[1]
ولكن مع مراقبة الصحويين للفضاء الثقافي والأندية والندوات العامة، تشكّلت لديهم رؤية لم يجهروا بها صراحة، إلا أنها ظهرت جلية في خطابهم، إذْ رأوا ضلوع الدولة كشريك في هذه المؤامرة لأنها مَن تفتح المجال أمام التيار العلماني والحداثي، فهي صاحبة اليد الطولى على النوادي الأدبية والإعلام. وكذلك دور الحكومة في تقريب العلمانيين المُصنَّعين أمريكيًا لكسب ولائهم واستخدامهم في محاربة الإسلاميين.[2] وبهذا أخذ الخطاب الفكري والثقافي للتيار الصحوي يتحول تدريجيًا من خطابٍ مناهض للعلمانية إلى خطاب معادٍ للنظام، ولكنه ما زال ينتقد النظام ضمنيًا لا ظاهريًا.
حينها تدخَّلت السلطة في محاولة لكبح جماح تيار الصحوة الذي تغلغل وسط الساحة الدينية والثقافية، واتبعت معه العديد من أساليب المواجهة ما بين اعتقال رموزه، والاستعانة بتيارات مناهضة للمنهج الذي قام عليه الفكر الصحوي، وتضييقات تتمثل في الاستدعاء والتحقيق على يدي أحد أفراد العائلة المالكة، كما حدث مع الشيخ سفر الحوالي وسلمان العودة وعائض القرني وغيرهم.[3] ثم لم يجد النظام بُدًّا من البحث عن حلٍّ جذري لهذا التيار المتنامي والمتغلغل في أوساط المجتمع السعودي ويزداد تأثيره يومًا بعد يوم، فكان لا بد من التصدي لهذا التيار ذا الصبغة الدينية، بتيار آخر ذي مرجعية دينية، وحضور علمي شرعي.
جذور نشأة التيار المدخلي
تزامنت هذه التحديات والتوترات داخل أرض المملكة، والسيطرة الاجتماعية لتيار الصحوة مع حرب الخليج الثانية واستقدام قوات أجنبية إلى بلاد الحرمين ادَّعى الملك فهد أن وجودها سيكون مؤقتًا للحفاظ على موارد الدولة وأرضها من الاجتياح العراقي الذي هدد أرض الكويت. ولكن سرعان ما كذَّب الواقع تصريحات العائلة المالكة.[4] فبعد انتهاء الحرب ظلَّت القوات الأمريكية في قواعدها، ما شكَّل تحدِّيًا جديدًا للنظام في مواجهة التأثير المتنامي لتيار الصحوة والذي استغل هذه الحادثة للتنديد بشرعية النظام الحاكم لمعارضته صريح الأمر النبوي بإخراج المشركين من جزيرة العرب. ورَفَضَ التيار أية دوافع لاستقدام القوات الأجنبية لكثير من الأسباب والاعتبارات، والتي ذكرها الشيخ سفر الحوالي في كتابه «وعد كسينجر».
أحدث موقف تيار الصحوة من فتاوى استقدام القوات الأجنبية تصدّعًا عميقًا شهده التيار الإسلامي، وبخاصة بعد فقدان “أهل السنة” في السعودية الثقة في علماء المؤسسة الرسمية إثر تأييدها لقرار الحكومة باستقدام الجنود الأجانب لبلاد الحرمين. ما أعاد إلى الذاكرة الإسلامية استعانة الملوك والأمراء بالصليبيين والتتار للتخلص من بعضهم البعض.
وفي ظل هذا المأزق الذي وضعت الحكومة السعودية نفسها فيه، ظهرت بوادر انفراجة للسلطة. ففي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث كان يدرس محمد أمان الجامي، ويقيم عددٌ من طلاب العلم الشرعي يطلبون العلم ويعلِّمونه، ويشتهرون بفتواهم التي تُحرِّم الخروج على الحاكم مهما فعل، أُصدرت الفتاوى بأن الجنود الأمريكان مستأمنين شرعًا، ويُحرَّم أي اعتداء عليهم ووصفه بأنه اعتداء على ذمة المسلمين،[5] كذلك تصدَّر ربيع المدخلي للردّ على رَفْض الاستعانة بالقوات الأجنبية بكتاب أطلق عليه «صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة على قتالهم بغير المسلمين».
وهنا وجدت الحكومة ضالتها في تيار جديد يتهيّأ للظهور وينتسب روَّاده إلى السلفية، مُكتسبين وصف «سلفية المدينة». وكان لهذه النشأة أثرٌ في تباين فتاوى العلماء في حق هذا التيار ورموزه. فقُدِّمت العطايا ووضعت الموارد تحت تصرف هذا التيار، وأُطلقت يده في التصدي لتيار الصحوة وسطوته على المجتمع.
د. أكرم حجازي يوضح نشأة التيار المدخلي وأسباب ظهوره
رموز التيار المدخلي
أما جيل المؤسسين الذين أوجدوا المنهج: 1- محمّد أمان الجامي الهرري الحبشي وهو أثيوبي الأصل أقام بالسعودية، ونُسِب المذهب إليه فأُطلِق عليهم الجامية، فيما يرى أتباع التيار المدخلي أن هذه التسمية هي من قبيل اللمز والتعريض بموطن مُنشئ التيار وأصوله الإثيوبية.
2- ربيع بن هادي المدخلي شريك الجامي في تأسيس التيار فأُطلق عليهم المدخلية. وهؤلاء أبرز رموزهم في بعض الدول العربية:
في بلاد الحرمين
- محمد بن هادي المدخلي
- محمد أمان الجامي
- ربيع بن هادي المدخلي
- فالح بن نافع الحربي
- فريدٌ المالكيِّ
- تراحيب الدوسري
- عبد اللطيف باشميل
- عبد العزيز العسكر
في الكويت
- الدكتور عبد الله الفارسي
- فلاح اسماعيل مندكار
- محمد العنجري
- حمد العثمان.
- سالم الطويل
- عدنان عبد القادر.
- ومحمد الحمود.
في الإمارات
- عبد الله السبت
- علي بن يحيى الحدادي
- نادر بن سعيد آل مبارك
في الأردن
- علي الحلبي.
- سليم الهلالي.
- مشهور حسن آل سلمان
- سعد الحصين.
- عمر بن عبد الحميد البطوش
في المغرب
– محمد بن عبد الرحمن المغراوي
في الجزائر
عبد المالك بن أحمد رمضاني.
أبو ابراهيم بن سلطان العدناني
في ليبيا
كتيبة التوحيد التابعة لقوات حفتر
الملازم عبد الرؤوف كاره
غنيوة الكللي
قجة الفاخري
الملازم أحمد عبد الرزاق غرور الحاسي
أشرف الميار
في مصر
- محمد سعيد رسلان
- محمود لطفي عامر
- أسامة القوصي
- طلعت زهران
- أبو بكر ماهر بن عطية
- جمال عبد الرحمن
- على حشيش
- عبد العظيم بدوي
- محمود عبد الرازق الرضواني
أماكن تمركزه
يتمركز هذا التيار بشكل مؤثر في السعودية ويُغدق عليه الحكامُ المننَ والعطايا، كما تشهد مصر وجود عدد لا يُستهان به من أنصار هذا المذهب، كما أن ليبيا أصبحت أكثر البؤر التي شهدت على مآلات هذا التيار ومذهبه، حيث انضموا إلى قوات حفتر ونفذوا العديد من المذابح والاغتيالات.[6]
كما انتشروا في بعض دول أوروبا مثل بلجيكا والنمسا وغيرهما. وفي أمريكا وبعض الجمهوريات الإسلامية وإندونيسيا وباكستان وأفغانستان.
خلفياتهم الدينية والثقافية
محمد أمان الجامي
حافظ لكتاب الله، ودارس للفقه على المذهب الشافعي، وكذلك بعض علوم العربية. تنقل بين حلقات العلم في المدينة المنورة والرياض، نال شرف التدريس في المسجد النبوي والجامعة الإسلامية وانتسب بكلية الشريعة وحصل على شهادتها، حصل على شهادة الماجستير في الشريعة من جامعة البنجاب عام 1974م، والدكتوراه من كلية دار العلوم في جامعة القاهرة.[7]
مؤلفاته
ومن مؤلفاته ما يجذب بعض الشباب فينضم إلى دعوته، حيث العديد من الكتب، التي تُبهر قارئها إذا ما لم يتعلق الأمر بالحكام والطاعة العمياء لهم، فكتب: حقيقة الديموقراطية وأنها ليست من الإسلام، حقيقة الشورى في الإسلام، العقيدة الإسلامية وتاريخها، والصفات الإلهية في الكتاب والسنَّة النبوية في ضوء الإثبات والتنزيه… وغيرها.
ربيع بن هادي المدخلي:
تخرج في المعهد العلمي في مدينة صامطة، والتحق بكلية الشريعة في الرياض واستمر بها مدة شهر ثم فتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية فانتقل إلى المدينة والتحق بالجامعة الإسلامية بكلية الشريعة ودرس بها مدة أربع سنوات وتخرج فيها عام 1964.[8]
مؤلفاته
كما الأمر مع صاحبه، لربيع بن هادي العديد من المؤلفات والتحقيقات، ولكنه زاد على صاحبه في قساوة ألفاظ الجرح التي يعتمدها، فلم يسلم منه تيار مُجاهد ولا عالم يصدع بالحق عند سلطان جائر، فتتبع الزلات والتفّ حول النصوص ليُخرج أسوأ ما يمكن أن تُحمل عليه، واعتمد لَيّ ذراع النصوص ليُشنِّع ويُبدِّع كما سنوضِّح لاحقًا، فكتب: صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة بغير المسلمين، وأضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره، ومطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعواصم مما في كتب سيد قطب من القواصم…
كذلك كتب تحقيق كتاب المدخل إلى الصحيح، تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بين واقع المحدثين ومغالطات المتعصبين، كشف موقف الغزالي من السنة وأهلها، ومكانة أهل الحديث، ومنهج الإمام مسلم في ترتيب صحيحه… وغيرها.
محمد سعيد رسلان
من أبرز رموز التيار المدخلي في مصر. تخرج في كلية الطب جامعة الأزهر وتخصص في الطب والجراحة. وحصل على ليسانس الآداب قسم اللغة العربية شعبة الدراسات الإسلامية، وعلى درجة الماجستير في علم الحديث بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى عن بحث في “ضوابط الرواية عند المُحدِّثين”. وعلى درجة الدكتوراه في علم الحديث بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى في بحث عن: “الرواة المُبدَّعون من رجال الكتب الستة”. ويحمل إجازة في أربعين حديث بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأحاديث مسماة ب “الأربعين البُلدَانِيَّة”.
مؤلفاته
لم يتخلف رسلان عن دأب أصحابه، بل زاد في شِعرهم بيتًا بإيجاب تأييد الحاكم “وإن كان كافرًا”. فكتب وخلط غثًّا بسمين، فمما كتب: فضل العلم وآداب طلبته، حول حياة شيخ الإسلام ابن تيمية، وقراءة وتعليق وتخريج لرسالة شيخ الإسلام ابن تيمية “العبودية”، شأن الكلمة في الإسلام، وضوابط في الرمي بالبدعة، وكعادة التيار لا بد من الهجوم على سيد قطب، فكتب: سلسلة وقفات مع سيد قطب.
النشاط الإعلامي
فُتِحت المنابر الإعلامية أمام هذا التيار كما لم تُفتح أمام أي تيار إسلامي من قبل، ففي مصر كانت قناة «البصيرة» منبر المداخلة الإعلامي أكثر علامات الاستفهام حيرة عند البعض، فكيف تُترك مثل هذه القناة التي تُنسب للتيار الإسلامي رغم إغلاق كافة القنوات المحسوبة على الإسلاميين. ولكن المتابع المُدقِّق لفكر القناة وما يبثه منبرها يعلم لِماذا لم تأخذ حكومة السيسي ضدها أي قرار.
ولا تُعدّ هي المنبر الإعلامي الوحيد، فبالإضافة إلى ظهور بعض رموزهم في قناة الأثر، وكذلك شبكات التواصل الاجتماعي، يعجّ موقع يوتيوب بمناهجهم دون أدنى مراقبة أو تضييق، وكذلك دروسهم في المساجد وعلى المنابر لم تُقرب بسوء كونهم لسان السلطة، وجلَّادي كل منتقد لها، يُطوِّعون الناس لكل ظالم بكلمات يظهر في سمتها خطاب الشرع، ولكنها أبعد ما يكون عن مراده.
وفي ليبيا حيث السيطرة الكبيرة للتيار والدعم السخي من قبل حفتر، يمتلك التيار: إذاعة المرج السلفية، واجدابيا السلفية، وإذاعة مشكاة، والسلام، والإسلام، وسبيل السلف، والفتوى، والزاد النبوي، وأهل الحديث والأثر، والزنتان السلفية، وميراث الأنبياء، وعدد من المواقع والمنتديات كما هو الحال مع شبكة البينة السلفية، وشبكة الورقات السلفية، ومنبر الدعوة السلفية، وقنوات تبث على فيسبوك كقناة سبها، ومصراتة السلفية، وبنغازي السلفية، وصبراتة السلفية.[9]
ولهم الكثير من المواقع الشخصية بأسماء رموزهم الوارد ذكرهم في هذا الموضوع، كذلك الروابط الموصى بها في نفس المواقع.
ثوابت التيار المدخلي وقيمه
إن إحداث التصورات في مشهد فكري يرتكز على أصول وثوابت تكاد تكون محل اتفاق بين حاملي راية الاجتهاد والتجديد ليس بالأمر الهين، إذ كيف يستطيع الإنسان في ظل النص القرآني والسنة وما أُجمع عليه من مصادر التلقي الشرعي أن يرتب أولويات المشروع الإسلامي ويُحدث من الأقوال ما يتعارض مع مقاصد هذا الدين الذي عُني علماؤه بوضع الأسس والقواعد التي يجب أن يسير عليها كل مجتهد ليُحقق صحة النظر والاستدلال؟
إلا أنه وفي ظل هذا الإحكام الذي وضعه علماء المسلمين ظهر من يقول في الدين برأيه، ويعمد إلى النصوص فيُفكِّكها تِبعًا لمآربه، ويتأول النص بُغية موافقة هواه، فيحيد عمّا يعلمه هو من شروط الاجتهاد والتأويل، وأن يرسم حدودًا جديدة تحكم علاقة الحاكم بالمحكومين، ويحجب التساؤلات المتعلقة بالفضاء السياسي الفكري التي يستطيع الإنسان أن يستجلب جواباتها من النص القرآني وسائر مصادر التشريع المُعتبرة.
لذلك نسعى الآن في محاولة استكشاف بعض المرتكزات والقيم التي نستطيع من خلالها أن نُفضي إلى حقيقة المشهد الفكري داخل الوسط المدخلي؛ فهذه مجموعة من أبرز الإشكاليات التي تتعلق بهذا الفكر
جميع مخالفيهم خوارج
في تهاون فجّ بإطلاق الألفاظ التي ينبني عليها أحكامًا داخل الإطار الديني تصل إلى إحلال الدماء والأموال، يرمي المداخلة كل مخالفيهم بالخوارج في ظاهرة تعكس سطحية في التعامل مع ما حصَّلوه هم من العلم الشرعي، فهم في الأصل لا يُحرِّرون معنى الخوارج تحريرًا كاملًا. فالخوارج في الأصل هم طائفة خرجت على عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه بعد قبوله الصلح مع معاوية رضي الله عنهما بإخراج حَكَمين يحكمان بين القوم بالكتاب والسنّة. يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله: (والخوارج: الَّذين أَنْكَرُوا على عَليّ التَّحْكِيم، وتبرءوا مِنْهُ وَمن عُثْمَان وَذريته، وقاتلوهم؛ فَإِن أطْلقُوا تكفيرهم فهم الغلاة مِنْهُم).[10]
ويقول ابن حزم في تعريف الخوارج: «ومَن وافق الخوارج من إنكار التحكيم، وتكفير أصحاب الكبائر، والقول بالخروج على أئمة الجَوْر، وأن أصحاب الكبائر مخلَّدون في النار، وأن الإمامة جائزة في غير قريش، فهو خارجي وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون، وإن خالفهم فيما ذكرنا، فليس خارجيًّا» فحدد ابن حزم أصولًا ينبني عليها حكم إطلاق لفظ الخوارج، فحددها بـ:
- إنكار التحكيم.
- وتكفير أصحاب الكبائر.
- والقول بالخروج على أئمة الجَوْر.
- وأن أصحاب الكبائر مخلَّدون في النار.
- وأن الإمامة جائزة في غير قريش
فيقف المداخلة على وصف وحيد من أوصاف الخوارج، فمن تحقق فيه هذا الوصف-والذي يطبقونه حسب هواهم أو فهمهم له-فهو عندهم خارجي.
من أهم صفات الخوارج
ولعل من أبرز ما خالف فيه الخوارجُ أهل السنة هو التكفير بكبائر الذنوب التي هي دون الكفر: فهم يكفّرون شاربي الخمر، والسُّرّاق، وكلّ مَن يرتكب ما دون الكفر والشرك؛ ذلك لأنهم يرون أن الإيمان كلٌّ لا يتبعّض، وأنّ آحاد الأعمال من الإيمان، وأنّ ترْكَها تركٌ لبعض الإيمان، ومن ترك بعض الإيمان فقد ترك كلّ الإيمان. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ثُمَّ إذَا تَرَكَ وَاجِبًا، أَوْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، قَالُوا بِنُفُوذِ الْوَعِيدِ فِيهِ، فَيُوجِبُونَ تَخْلِيدَ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي النَّارِ؛ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ؛ وَلَكِنْ الْخَوَارِجُ يُكَفِّرُونَ بِالذَّنْبِ الْكَبِيرِ -أَوْ الصَّغِيرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ-؛ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَيَقُولُونَ، “هُوَ فِي مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ”).[11]
ويقول رحمه الله: (قَالَتْ الْخَوَارِجُ وَالْمُعْتَزِلَةُ قَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّ الْأَعْمَالَ مِنْ الْإِيمَانِ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ تَرَكَ بَعْضَ الْإِيمَانِ وَإِذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَتَبَعَّضُ وَلَا يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إيمَانٌ وَنِفَاقٌ فَيَكُونُ أَصْحَابُ الذُّنُوبِ مُخَلَّدِينَ فِي النَّارِ إذْ كَانَ لَيْسَ مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ شَيْءٌ).[12]
ثم هم ينكرون الشفاعة، وكذلك رؤية الله تعالى في الآخرة: يقولون بأن الله لا يراه أحد من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة. يقول النووي رحمه الله: (اعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِأَجْمَعِهِمْ أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُمْكِنَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ عَقْلًا، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى وُقُوعِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى دُونَ الْكَافِرِينَ؛ وَزَعَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ -الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَبَعْضُ الْمُرْجِئَةِ- أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُسْتَحِيلَةٌ عَقْلًا؛ وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ خَطَأٌ صَرِيحٌ وَجَهْلٌ قَبِيحٌ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ رُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ لِلْمُؤْمِنَيْنِ).[13]
الولاء المطلق والسمع والطاعة للحاكم
إذا ما تعلق الأمر بالحكام فلن تجد لدى التيار المدخلي سوى الولاء المطلق والسمع والطاعة لولي الأمر وعدم الخروج عليه وتحريم الثورات والمظاهرات والعمل السياسي العام ضد النظام الحاكم، حتى وإن كان هذا الحاكم كافرًا كفرًا بواحًا يوجد لديهم في هذا الكفر برهان. فهذه ترهات زعيم المدخلية في مصر محمد سعيد رسلان يُصرِّح بأن الحاكم وإن كان كافرًا لا يجوز الخروج عليه
ثم يقول بعدم جواز منافسة السيسي في الانتخابات
واستنادًا لهذا الأصل الثابت لديهم يعتبرون النصيحة للنظام الحاكم خروجًا على ولي الأمر. فيُفتون بحرمة الخروج عليه، بل ووجوب قتل الخارجين على الحاكم حفاظًا على النظام العام. ويعطون الأنظمة الحاكمة الصلاحيات المطلقة في التصرف في الأموال والقرارات دون أن يجوز للرعية حتى مجرد النصح، بل ولها -أي الأنظمة- الحق في التصرف في الدماء تبعًا لما تراه مصلحة.
بالطبع هذا ما إذا تعلق الأمر بولاة الأمر ومن يُقرِّبون، أمّا الحكام المنتمين إلى الجماعات الإسلامية فهؤلاء لا يجوز سمعًا لهم ولا طاعة، وفي أفضل حال، يدَّعون اعتزال السياسة في فترة حكمهم.
تحريم الاعتصامات والمظاهرات
يحرِّمون التظاهرات والاعتصامات فيقول صالح السحيمي: الدخول في هذه المظاهرات التي تقع في بعض البلاد الإسلامية مهما كان الحاكم، ومهما كان الظلم، ومهما كانت المخالفات، فالدخول في المظاهرات عمل يهودي ماسوني، ليس من عمل المسلمين ولا يقرّه الإسلام وليس عليه دليل من الشرع، ولا نلتفت إلى من يفتي به من الذين يتسرعون.
ويبنون قولهم على تحريم المظاهرات ضد من ثبت للعيان طُغيانه بدعوى ما يترتب على تلك الثورات من قتل واعتقال، دون الالتفات إلى ما يترتب من المفاسد على بقاء هؤلاء الحكّام في سُدّة الحكم، بل بدون الالتفات أنّ من يقوم بالقتل والاعتقال والقمع الذي يتحدّثون عنه هم هؤلاء الحكام الذين يُدافع المداخلة عن بقائهم في الحكم ويمنعون الخروج عليهم!
تعطيل الجهاد وزعم أنه لا بد أن يكون بعد إذن الحاكم
لا يقولون صراحة بمنع الجهاد، ولكن يُعطِّلونه تحت ذريعة أن المسلمين اليوم ضعفاء بالنسبة للعدو من جهة العدة والعتاد، فيقولون إن العدو هو من يصنع الأسلحة والمحتكر لها. ويرون شرعية الجهاد الصحيح وبشروطه المعتبرة، وهي أن يكون المرء على قدرة وبإذن ولي الأمر.
وهذا المنهج الذي يدعي عدم القدرة على مواجهة العدوان وصد الحكام الكافرين، هو عين ما يقول به المداخلة إلى الآن، فيقول رسلان: “ومع ذلك لو توفرت هذه الشروط-يقصد شروط الخروج على الحاكم-فإنه لا تُنزع يد من طاعة ولا يُخرج على حاكم متغلب وإن كان جائرًا ظالمًا بل وإن كان كافرًا، إلا عند امتلاك العُدّة أم تريدون أن تخرجوا عليه بسكين المطبخ وعصا الراعي»
ما حدا الشيخ حسين بن محمود بكتابة مقالة “تعريف العامي بالمذهب الجامي” والتي جاء فيها: «فيصرفون الناس عن التبرّع للجهاد الأفغاني بحجج كثيرة منها: أن الأفغان مشركون قبوريون، وأن الحرب في أفغانستان ليست إسلامية، وأن كثيرًا من قادة الجهاد الأفغاني من مختلي العقيدة ومتورطون مع قوى أجنبية وغيرها من الأسباب التي أدّت بالكثير للتوقف عن نصرة الجهاد الأفغاني في سنواته الأخيرة»[14]
التشنيع على مخالفيهم
امتاز رموز التيار المدخلي بدراستهم للحديث وتدريسه، فأعملوا منهج الجرح والتعديل الخاص بمعرفة رجالات السند في الحديث، أعملوه على كل مخالف، ويا ليتهم أعملوه بأصله بل زادوا عليه قيدهم المتين “موقف المخالف من الحكام” فامتازوا بالشدة على المخالف والتحذير منه وتضخيم ما يجدون لديه من أخطاء.
ولم يكتفوا بهذا فأصبحت المرتكزات الاجتماعية للتيارات الصحوية في مرمى تشنيعاتهم، من جمعيات تحفيظ القرآن والمكتبات والمخيمات الصيفية، والأناشيد الإسلامية، كما في كتاب أحمد الزهراني وأحمد بازمول الذي جاء بعنوان: «الانتقادات العلنية لمنهج الخرجات والطلعات والمكتبات والمخيمات والمراكز الصيفية.»
وبالطبع كانت جماعة الإخوان المسلمين على رأس قائمة التشنيعات، وفي مقدمتها السيد قطب، لكلماته التي أنارت الطريق لكثير من الشباب الذين التحقوا بالجماعات الجهادية، فلم يقدموا على نقد ما تبيَّن من أخطاء قطب باعتباره بشر يصيب ويخطئ، ولم يزنوها نسبة إلى ما أصاب من كلماته، ولكن زادوا على ذلك فتأولوها، وفي هذا جاء رد الشيخ بكر أبـو زيـد في رسالة وجهها لربيع بن هادي المدخلي حول بعض كتابات المدخلي وتحامله المعلن على سيد قطب-رحمه الله-[15] وتذكيره بما يجب أن يكون عليه النقد الحق، وافتقاد منهج المدخلي إلى أمانـة النقل والعلم، وخلوه من أصـول البحث العلمي. كما نفى عن كتابه أدب الحوار وسمو الأسلوب ورصانة العرض.
خاتمة
لم تنتهِ قصتنا مع التيار المدخلي بعدُ، فما زالت القصة في بدايتها، وفصلها القادم هو أهمّ فصول القصة حيث تناول مآلات توظيف التيار المدخلي وما يُنذِر به التمدد المتصاعد للفكر السلفي المدخلي في المشهد السياسي والأمني والاجتماعي في الدول الإسلامية والعربية، في تخطٍ واضح لدور التيار في المجال الديني إلى ما هو دونه من الأدوار الأمنية والمخابراتية! ويتبعها قراءة في توصيات مراكز الأبحاث الغربية باستخدام التيار المدخلي وكيفية الاستفادة منه.
المراجع
[1] العلمانية في العراء: القصيبي، شاعر الأمس … وواعظ اليوم
[2] وثيقة أعيد طرحها في شكل ملحق في كتاب غازي القصيبي، حتى لا تكون فتنة. ص 174
[3] الجزيرة العربية العددان 5 و 11.
[4] الأمير سلطان: اتفقنا على تقليص القوات الأمريكية بالمملكة إلى بعثتين عسكريتين للتدريب
[5] ابن باز، حكم التشكيك بشأن الاستعانة بغير المسلمين في قتال طاغية العراق
[6] السلفية المدخلية في ليبيا القيادات والرموز وعلاقتها بحفتر
[7] ترجمة موجزة للشيخ محمد أمان الجامي
[8] ترجمة موجزة للشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي
[9] المخابرات الليبية تكشف أسرار ومخططات التيار المدخلي في المنطقة!
[10] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ص 1\459.
[11] مجموع الفتاوى، ص 19\151.
[12] مجموع الفتاوى، ص 13\48.
[13] شرح النووي على صحيح مسلم، ص 3\15.
[14] تعريف العامّي بالمذهب الجامِيّ
[15] الخطاب الذهبي الذي رد به العلامة بكر ابو زيد علي ربيع المدخلي بعدعرض ربيع كتابه عليه