ظل مفهوم الدولة الحديثة في أوروبا -التي ظهرت بعد معاهدة “ويستفاليا” سنة 1648م، والتي جاءت تتويجا لنهاية حرب الثلاثين عاما الدموية، ذات الصبغة الدينية، والتي وقعت بين الكاثوليك والبروتستانت- يرتكز على قضية جوهرية هي: خدمة الإنسان، وجعله مركز الاهتمام في مختلف القضايا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، من خلال تنافس مختلف القوى السياسية على خدمة القضايا الاجتماعية، وفق برامج سياسية تصب في الأخير في خدمة الإنسان الأوروبي.
واستقر في الوعي الجمعي الأوروبي أن الدولة وجدت لأجل خدمة الصالح العام، واستمر تقييم الشعوب الأوروبية لمختلف الحكومات التي حكمت الدول الأوروبية يستند إلى مدى التزامها بخدمة الصالح العام، ووضعها الإنسان في قلب اهتماماتها.
ومع ظهور الدولة القومية العربية بعد اتفاقيات سايكس بيكو، سيطرت القوى المناهضة للهُوية الأصيلة للأمة الإسلامية في العالم العربي على المشهد السياسي، مستغلة حالة الفوضى التي خلفتها الحركة الاستعمارية، وغياب النخب الأصيلة، وتفشي الجهل والأمية، وعدم خبرة المسلمين في العالم العربي بأطر وطرق تسيير الدولة، مع استعداد هذه القوى تبني مختلف المشاريع الخارجية الكابحة لنمو الوعي الاجتماعي، مقابل البقاء في مناصب القرار، والاستفادة من مختلف الامتيازات والثروات.
ومع مرور السنوات والعقود، لم يتغير خطاب التيارات المناقضة للهُوية الإسلامية للمجتمعات العربية، وظل خطابا إنشائيا شكليا، توزع بين الخطاب الاشتراكي البائد، وبين الخطاب الناصري القومي الزائف، وبين الخطاب البعثي المتطرف، وبين الخطاب الشيوعي المساند للاتحاد السوفياتي، وتراكمت الشعارات والسياسات، حتى استهلكت جميعها، خاصة مع سقوط الاتحاد السوفياتي جثة سياسية هامدة، ولم تحقق يوما مفهوم السيادة السياسية، حيث لم تخرج عن إرادة النظام العالمي الحاكم، ولم تجرؤ على مخالفته؛ لأنه هو الذي أنشأها أصلا، وهو الذي يتحكم في المشهد الداخلي والخارجي، فهي تعبر عن إرادته لا عن إرادة الشعب –كما يزعمون-، ومن جهة ثانية فإنها لم تتلبس إطلاقا بمعاني نظام الحكم، فقد كانت فاقدة للشرعية السياسيةـ تعتمد على التزوير والقوة والإرهاب في فرض وجودها واستمرارها، وتقفز على القوانين التي تتبناها.
ومع سيطرة النظام الرأسمالي على العالم، تبنى الكثير من هؤلاء –الملتونين سياسيا- الرأسمالية كنظام اقتصادي، والليبيرالية كنظام سياسي، غير أن الواقع أثبت بعد مرور ثلاثة عقود من تبني الرأسمالية والليبيرالية في العالم العربي، أن النخب التي سيطرت على المشهد السياسي لم تكن تفقه في نظام الحكم شيئا، ولم تكن ترى في الدولة سوى الامتيازات المادية التي توفرها لها، ولم تهتم حقيقة بخدمة قضايا المجتمع، ولم يكن الإنسان محور اهتماماتها السياسية، ولم تبذل أي جهد في بناء اقتصاد دولة، ولم يكن لها أية برامج حقيقية يمكن تجسيدها في الواقع، ويدل على ذلك تسييرها للدولة القومية العربية عن طريق الولاءات الحزبية، والمحاباة السياسية، ومنطق الغنيمة، والإرهاب الرسمي.
فكانت النتيجة ظهور مجتمع عربي يعاني من أزمات كثيرة، لم تجد علاجها إلى اليوم؛ بسبب مرض التوحد السياسي الذي تعاني منه التيارات المسيطرة على المشهد العربي، وكانت التيارات العلمانية أحد أبرز القوى التي ساهمت في تخلف الحياة في العالم العربي، حيث لم تكن الدولة المحكومة بموضة العلمانية تمثل أي مظهر من مظاهر الاجتماع الطبيعي، والذي يعني وجود عقد بين الرعية والحاكم، بل كانت تمثل –النخب العلمانية- مظهرا متوحشا، يلبس ثوب السياسة، ويضمر في باطنه نظاما غريزيا عدوانيا.
وقد أثبتت الأيام والمعالجات التي تبنتها القوى العلمانية اتجاه مختلف القضايا الحياتية فقدانها للفكر السياسي، ومتاجرتها بالشعارات السياسية، وعجزها عن امتلاك رؤية واستراتيجية، والأخطر في هذا عدم امتلاكها لأي رصيد أخلاقي، فهي مستعدة لفعل أي شيء مقابل بقائها، والاستمرار في استغلال الخيرات، واستعباد الشعوب، واحتكار المشهد السياسي المزيف أصلا، وصارت الدولة بالنسبة إليهم الهيئة الفاعلة في النهب والاستبداد.
ومع إفلاس التيارات العلماني سياسيا، وفشلها في إيجاد حلول لمختلف المشكلات اليومية المتراكمة، والتي تحولت إلى أزمات تهدد المجتمع وجوديا، بسبب رفضها تبني أي حلول ناجعة، وإعاقتها مختلف المشاريع السياسية التي تهدد وجودها، وإفراغ العمل السياسي من مضامينه، وجد أتباع ومنظرو التيار العلماني في مهاجمة القوى الإسلامية، وتبني فزاعة المؤامرة الخارجية، والتلاعب بقضية فلسطين وسيلة للهروب من أسئلة الواقع التي تدينهم وتفضحهم سياسيا وأخلاقيا، وهو الأمر المستمر إلى غاية كتابة هذه الأسطر.
إن إطلالة سريعة على المسخ السياسي الذي تعرضت له الجزائر ومصر –مثلا- يظهر بالفعل أن من تحكموا في الدولة العربية لم يكن لهم علاقة بحقيقتها ومفهومها الذي ظهر في أوروبا، بل كانت بالنسبة إليهم مجرد مصدر للهو وممارسة القتل، وتحقيق الرغبات البدائية على حساب ملايين الشعوب المغبونة والمطحونة، بدليل تبني أنظمة الحكم في البلدين أسلوب التدمير الاجتماعي الشامل، الذي يبدأ من شن الحرب على الشعب كلما أبدى رغبته في التحرر من الهيمنة المتوحشة، وصولا إلى إفقاره ماليا، وتدميره اجتماعيا، ما يعني ضرورة أن هذه القوى لم تمثل يوما مفهوم الدولة الحديثةـ التي تعني هيمنة نخبة حاكمة على مقاليد الأمور نتيجة شرعية اجتماعية؛ لأجل خدمة الرعية، من خلال تحقيق دولة المؤسسات، التي تتنافى والشخصانية، وتسعى للاستمرار في خدمة المصالح العامة.
ومادام الواقع يثبت أن القوى العلمانية لم تحقق يوما مفهوم الدولة بمفهومها الأصيل الذي ظهر بظهورها، فإن هذا الأمر يجعلنا نصف الدولة في ظل الحكم العلماني دولة عصابات تحتكم إلى قانون الغاب، ولا تعرف من معاني المدنية التي تتشدق بها في كل خطاباتها أي شيء، كما أنها تخالف أحد مفاهيم الدولة والتي تعني استعداد النخبة الحاكمة للدفاع عن السيادة، فالواقع يثبت بأدلة قطعية أنها مستعدة للدفاع عن مصالحها الخاصة مقابل التخلي عن مصالح الدولة والرعية معا.
ومما سبق يمكن القول أن النخب العلمانية أو التيارات السياسية العلمانية في العالم العربي لم تتمثل بمفهوم الدولة الحديثة، وأن تكرارها لمصطلحات مثل: المدنية، ونظام الحكم والحكومة، ودولة القانون، والمواطنة، والمجتمع المدني، والتعددية، وحقوق الإنسان، والسيادة، والنزاهة، والليبيرالية، واستقلالية القضاء، وعدم تركز الحكم والثورة في يد فئة معينة، كان مجرد خداع سياسي، يهدف إلى تخدير الرعية، وتنويمها سياسيا، وأقوى برهان على ذلك تحولها إلى تبني قانون الغاب عند الشعور بأي خطر يتهددها.
وأهم ما يمكن أن نقرره في نهاية هذه المقالة أن مفهوم الدولة الحديثة -التي ظهرت في أوروبا- كان يعني وضع الإنسان محور العملية السياسية؛ من أجل خدمته وحمايته، بينما لم يكن يعني في العالم العربي سوى هيمنة فئة متسلطة على مقدرات الدولة واحتكارها، وجعل المنفعة الشخصية والفئوية والجهوية والحزبية محور اهتمامها، ولا تهتم بالإنسان فعلا وواقعا، حتى لو رفعت شعار حقوق الإنسان يوميا في خطاباتها ونشرات أخبارها، وبالتالي فإن مناقشة المسائل الفرعية المترتبة عن تبني مفهوم الدولة يعد عبثا، فالمفهوم الأساس للدولة لم يكن موجودا يوما في العالم العربي حتى يمكن ادعاء وجود لوازمه السياسية والاجتماعية والثقافية.
(المصدر: الاسلام اليوم)