مقالات مختارة

التوسع في المباحات في زمن المحن

بقلم د. عامر الهوشان 

ظاهرة قد تثير استغراب البعض واستهجان البعض الآخر من المسلمين , ولكنها حقيقة لا بد من الاعتراف بوجودها , فالاعتراف بالواقع وإن كان مؤلما وقاسيا أهون ألف مرة من البقاء في الوهم المريح أو الصورة غير الواقعية للمسلمين التي يحلو للبعض أن يصورها للآخرين أو يرسمها في خياله وحده .

ففي الوقت الذي يعيش المسلمون من أهل السنة في كثير من العواصم العربية والإسلامية محنا كثيرة و رزايا شديدة , تبدأ بقتلهم وتهجيرهم من أرضهم وتدمير بيوتهم ونهب مملتلكاتهم  بعد أن تكالبت عليهم أمم الأرض كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم , ولا تنتهي بالحصار الخانق ومنع وصول الطعام والدواء إلى آلاف مؤلفة من النساء والأطفال والشيوخ , حتى بات إعلان وفاة العشرات والمئات منهم جوعا ومرضا أمرا مألوفا واعتياديا في نشرات الأخبار اليومية …

في مثل هذه الأوقات العصيبة والمحن الشديدة التي حلت بالمسلمين , لا يزال إخوة لهم في العقيدة يتوسعون في المباحات , ويمارسون عادتهم التي ألفوها من قبل وكأن شيئا لم يكن , وهو ما أراه يستدعي طرق هذا الموضوع المهم من قبل العلماء والمفكرين والمربين والمصلحين .

ترى الواحد من هؤلاء لا يدع إصدارا حديثا لأنوع الهواتف المحمولة إلا ويسارع إلى اقتنائه وشرائه , رغم ارتفاع ثمنه الذي قد يكفي إعالة أسرة تعيش في المخيمات عدة أشهر , وترى آخر يقوم بتبديل نوع سيارته كل فترة دون أن يكون قد أصاب الأولى خدش أو عطب , وثالث يأبى أن يأكل إلا أغلى أنوع الطعام والشراب و في أرقى المطاعم , ورابع لا يمر عليه عام إلا ويسافر إلى عواصم الشرق والغرب سياحة واستجماما و …..و ….

الغريب في الأمر أن بعض هؤلاء من لا يفصله مكانيا وجغرافيا عن إخوانه المنكوبين والمحرمومين والمحتاجين للقمة تسد الرمق أو خرقة تستر البدن أو مأوى يقي من برد الشتاء وحرارة الصيف …..إلا كيلومترات قليلة , فإذا كان في المسلمين من لا يزال في توسعه في المباحات رغم كونه في قلب المحنة جغرافيا إن صح التعبير , فما بالك بأمثاله ممن تفصله عمن نزلت بساحتهم المحن مئات وآلاف الكليومترات !

ولعل مما يزيد من هذه الظاهرة فجاجة وكراهة في قلوب المسلمين عموما , وحسرة في نفوس المنكوبين على وجه الخصوص , نشر بعض هؤلاء المتوسعين في المباحات صور رفاهيتهم وتنعمهم على مواقع التواصل الاجتماعي في أشد أيام المحن التي ألمت بالمسلمين .

فهذا ينشر صورة له وهو يستاح ويستجم في لندن أو باريس أو إحدى عواصم الشرق والغرب , وآخر ينشر صورة له وهو في أرقى المطاعم يتناول وجبة الغداء أو العشاء , وفي الصورة ما لذ وطاب من أنواع الطعام التي لا يعلم الكثير من المسلمين أسماءها ولا مكوناتها , فضلا عن أن يعرف هذه الأسماء او يهتم بذلك من هو جائع أومحاصر في أكثر من بلدة ومدينة عربية وإسلامية .

والحقيقة أن من يقوم بنشر مثل هذه الأمور الشخصية على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي ربما يكون قد وقع في الخطأ والزلل مرتين , مرة بتوسعه في المباحات في زمن المحن التي تمر بها الأمة عموما , ومرة أخرى بنشر هذا التوسع على مواقع التواصل الاجتماعي , الأمر الذي يساهم في كسر قلوب المحرومين من هذه المشاهد .

لا يمكن أن يفهم الكلام السابق على أنه تحريم لما أحل الله – لا قدر الله – فليس لأحد أن يحرم ما أحل الله تعالى من الطيبات , قال تعالى : {  قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } الأعراف/32 .

ولكن التمتع بالطيبات قد قيدها الله تعالى بعدم الإسراف في الآية التي تسبق آية عدم تحريم ما أحل الله من الطيبيات فورا فقال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الأعراف/31 , ولا أظن أن الأمثلة التي ذكرت سابقا في المقال بعيدة عن تهمة الإسراف المنهي عنه .

ومن هنا يمكن القول بأن ما يفعله البعض اليوم يصطدم بالدرجة الأولى بآية النهي عن الإسراف , فقد أورد ابن كثير في تفسير الآية السابقة قول ابن عباس رضي الله عنهما : أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة . 3/407

كما أن التوسع في المباحات في زمن المحن التي تمر بالمسلمين فيها مخالفة صريحة لمضمون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) صحيح مسلم بريم/6751 , وهل يكون التواد والتراحم والتعاطف أشد وجوبا وأكثر إلحاحا إلا في زمن المحن والشدائد ؟!

بل إن ما يمارسه بعض المسلمين اليوم من توسع في المباحات باسم أنها حلال وطيبات لا يتوافق ولا ينسجم مع ما ورد في سيرة السلف الصالح من سلوك إسلامي رشيد في زمن المحن والشدائد .

ولعل من أروع الأمثلة التي يمكن أن تساق في هذا الإطار سلوك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عام المجاعة “الرمادة” , فلم يكتف أمير المؤمنين بالزهد في الدنيا ومتع الحياة قبل وبعد توليه شؤون المسلمين فحسب , بل زاد من تقشفه وقسوته على نفسه في عام الرماة تضامنا مع أفقر وأكثر رعاياه وإخوانه بؤسا وفقرا وحاجة , حتى عمت الآفاق مقولته الشهيرة التي ينقلها لنا أنس رضي الله عنه حيث يقول : كان بطن عمر يقرقر عام الرمادة ، وكان يأكل الزيت ولا يأكل السمن ، فقرقر بطنُه فنقره بأصبعيه فقال : قرقر أو لا تقرقر ، إنه ليس لكِ عندنا غيره حتى يُحيىَ الناس – أي يأتي الله بالحياة والمطر – .

بل إن أسلم رضي الله عنه ينقل لنا حال أمير المؤمنين في عام المحنة والمجاعة التي ألمت بالمسلمين فيقول : كنا نقول لو لم يرفع الله المَحْل عام الرمادةِ لظننا أن عمر يموت همّا لأمر المسلمين .

ومن هذا الفهم الراشد بالسلوك الذي ينبغي ان يكون في أيام المحن التي تلم بالمسلمين , يمكن فهم قصة جابر بن عبد الله مع أمير المؤمنين عمر أيضا حيث قال : رأى عمر بن الخطاب لحما معلقا في يدي فقال : ماهذا يا جابر ؟ قلت اشتهيت لحما فاشتريته . فقال عمر : أو كلما اشتهيت اشتريت ياجابر ! ماتخاف الآية : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } الأحقاف/20

وإذا كان علماء الأمة قد عللوا الابتعاد عن التوسع في المباحات مخافة أن تشغل المسلم عن الطاعات والعبادات , وخشية من وقوع صاحبها في الشبهات ، فإن هناك الكثير من الأسباب التي يمكن أن تضاف إليها في زمن المحن .

(موقع المسلم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى