التوحيد القاتل للثورات
بقلم كرم الحفيان
مقدمة
لا يختلف عاقلان في أهمية القيادة الموحدة لأي نشاط بشري جماعي في كافة الأنشطة الحياتية، الاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية وغيرها، ولا ينكر أحد الآثار السيئة للتفرق وتعدد الرؤوس على نجاعة وجودة أي عمل، لاسيما إن كان كبيراً كثورة شعبية أو حراك عسكري مسلح في وجه سلطة مستبدة أو احتلال غاشم. ولكن، في ضوء التجارب والدارسة لثلاثين سنة خلت في عالمنا الإسلامي، هل كانت مجمل محاولات توحيد الصفوف أثناء المقاومة خيراً من تفرقها؟ وهل الطرق التي سُلكت لتوحيدها كانت صحيحة وموفقة؟
دعونا في البداية نناقش أسباب الفرقة بإيجاز:
أولاً: ضعف التربية الإسلامية السلوكية في الأمة عموماً وتقليل البعض من أهميتها، وما ترتب على ذلك من تراجع في الاعتناء بالأعمال القلبية؛ كالزهد في التصدر وتقلد المناصب، ولم تسلم من ذلك جُل التيارات الإسلامية.
ثانياً: غياب ثقافة العمل الجماعي إلى حد كبير في مجتمعاتنا، نتيجة أنماط التعليم والعمل والوظائف المفروضة على الشعوب منذ عقود طويلة، والتي تصر أنظمة الحكم على تثبيتها وعدم تطويرها للحفاظ على هيمنتها وتسلطها.
ثالثاً: التصلب الفكري عند بعض الجماعات والحركات، واعتقادها أن طريق النصر يمر من خلال أدبياتها فقط؛ فالبعض يحصر الفهم الصحيح للدين في تنظيمه ومنهجه، والبعض الآخرلديه قناعة أنه الوحيد المطّلع على حقائق السياسة الدولية ودهاليزها العميقة.
رابعاً: العوامل والضغوط الخارجية والدولية التي تكرّس الفرقة، عبر استغلال حاجة الفصائل الثورية للدعم المادي والسلاح والذخيرة الضرورية لمواصلة قتالها.
لا أحسب أنني سأجد معارضة كبيرة إن قلت أن هذه المعوّقات الأربعة بحاجة إلى جهود جبارة وصبر جميل في مدة زمنية ليست بالقليلة أثناء مدافعة العدو ومقاومته؛ كيما نستطيع التغلب عليها والارتقاء إلى مرحلة التوحد الكامل.
إلا أن البعض ظن أن باستطاعته بالقوة فقط (مستخدماً بعض الفتاوي) توحيد جميع القوى العاملة على الأرض؛ فماذا كانت النتيجة؟ هذا إن سلمنا أن الدافع كان ذاتياً وأن الهدف كان مصلحة الجهاد والأمة، فإذا بدأنا بالجزائر في حقبة التسعينيات، لم يكن الصف الثوري المسلح (بعد انقلاب العسكر على جبهة الإنقاذ) منقسماً إلى جماعات وأحزاب كثيرة، إنما كان هناك طرفان كبيران وحسب: جبهة الإنقاذ المؤلفة من تيارات إسلامية متنوعة، والجماعة الإسلامية المسلحة (الجيا)، التي أُنشئت كتنظيم سلفي جهادي، ودُعمت من بعض رموز التيار قبل يُتبرَأ منها لاحقاً. حققت الثورة المسلحة إنجازات كبيرة وسيطرت على أغلب الجزائر، وسط تأييد ومعاونة شرائح واسعة من الشعب، وطبقاً لشهادات كثيرة من الوسط الجهادي – على رأسهم أبو مصعب السوري وعطية الله الليبي – فإن النقطة المفصلية للتراجع الكبير كانت سلوك (الجيا) الإجرامي، وسعيها للتفرد واعتداءاتها على شركاء الثورة، بحجة أنها الجماعة الشرعية التي ستوحد الصف الجهادي، والنتيجة كانت انهيار الصف تماماً.
تجربة أخرى وقعت بعدها، وكان ميدانها العراق، فصائل كثيرة من مشارب مختلفة بعضها كبير والبعض الآخر صغير، الجميع شارك في قتال الاحتلالين الأمريكي والإيراني، والإنجازات الميدانية من 2003 إلى 2006 ملفتة، بتحرير غالب المحافظات السنيّة في العراق وبخسائر كبيرة في الجانب الأمريكي والإيراني، ثم خرجت إحدى الجماعات الكبيرة الفعاّلة (القاعدة في بلاد الرافدين) في الساحة لتعلن مع جماعات أخرى صغيرة “دولة العراق الإسلامية”، وتفتي بوجوب بيعة أبي عمر البغدادي، غير المعروف لكبرى الفصائل ووجوه الشعب، وعقب رفض أغلب الجماعات، بدأ احتراب داخلي واسع النطاق، ضَعُف (مع عوامل أخرى كنشاط الخونة والجواسيس) بموجبه الصف المجاهد بشكل حاد، إلى أن أحكمت حكومة الاحتلال المركزية سيطرتها على كامل البلاد.
التجربة السورية، الأحدث لا تزال ماثلة أمام العيان، فرغم تعدد الجماعات والفصائل المجاهدة، إلا أن التقدم باتجاه إسقاط النظام كان يسير بشكل جيد، وفرضت القوى الثورية سيطرتها على ثلاثة أرباع الجغرافيا السورية، بما فيها المناطق الحدودية مع دول الجوار، ومطارات حربية عديدة بحلول مارس 2013، ثم دخلت فكرة (داعش) على الخط، ومع نهاية عام 2013م وبداية 2014م دخلت الثورة في اقتتالٍ وخسائر لا تحصى بحجة توحيد الصف وإنهاء التشرذم، ورغم تعافيها نسبياً بتجربة جيش الفتح (غرفة عمليات ضمت 7 فصائل) الذي أعاد شيئاً من هيبة الثورة وحرر مناطق لا بأس بها، بل شكل خطراً حقيقياً على النظام دفعه للاستعانة بدولة عظمى كروسيا لتنقذه من السقوط، إلا أن نغمة توحيد الساحة بالقوة عادت مع بداية 2017، وتسببت بعد اتفاقية خفض التصعيد (أستانا) وتفاهمات القوى العظمى بتراجعٍ هائلٍ أدى لانحسار الثورة في الشمال السوري وتهديد وجودها بشكل كبير.
النموذح الوحيد الناجح (نسبياً) كان الجهاد الأفغاني الأول، حين حُررت أفغانستان كاملةً من الاحتلال السوفيتي، على الرغم من وجود سبعة أحزاب أفغانية مجاهدة بسبع قيادات مختلفة، ربما لأنها عصمت في هذه المرحلة من الاقتتالات الكبيرة وتجارب التوحيد بالقوة، وإن كانت عانت منه لاحقاً بعد التحرير.
خاتمة
لا يفهم من كلامي السابق الدعوة إلى الفرقة أو تسويغها، وإنما محاولة معالجة الواقع على وفق المبدأ الشرعي (دفع الصائل) بالطريقة الأقل ضرراً، اهتداءً باستقراء الوقائع المعاصرة، وذلك عبر تقليل عوامل الفرقة (المذكورة في بداية المقال)، وتعزيز التوحدات الجزئية وترسيخها، وزيادة التنسيق والمآخآة بينها، ريثما ينضج العلاج الكامل الشافي.
بلا شك، لن تحقق أي ثورة أو أمة أهدافها الكاملة في النهوض والاستقلال، وقيام الدولة القوية، مع غياب القيادة الموحدة والمشروع الواحد والهدف الواحد والإسهام الشعبي. ولكن الحل الوقتي أثناء مدافعة حشود من الصائلين لا يكون بأن يقتل بعضنا بعضاً، أو أن يسقط أحدنا الآخر، لاسيما مع عجز جميع الأطراف الفاعلة عن الحشد والحسم (إن جاز ذلك شرعاً)، كما حدث في بعض الأحداث تاريخياً.
وما أجمل كلمات عبد الله عزام حين تساءل مستنكراً عن قدرة أي جماعة على إقامة دولة إسلامية بمفردها، واصفاً إسهامها بأنه نقطة في بحر حاجات المسلمين.
(المصدر: مجلة كلمة حق)