مقالاتمقالات مختارة

التنوير في خدمة الاستبداد

التنوير في خدمة الاستبداد

بقلم عبد القادر قلاتي

ما قام التنوير في الغرب إلاّ ضد الاستبداد السياسي والديني، وما تشكَّلت معالم فلسفة التنوير إلاّ انطلاقا من فضاء النضال والمجابهة، لخلق الظلم والجبروت الذي يصنعه الاستبداد والمستبدون، وما تشكلت معالم الدولة الحديثة إلاّ بضبط وصرامة مفاهيم التنوير، لكن يبدو أنَّ النسخة العربية التي وصلت مجالنا التداولي، تحمل تشوهات كبيرة وكثيرة، كغيرها مما وصلنا من نتاج الحضارة الغربية المعاصرة، فالمثقف العربي التنويري، أو الذي يلبس لبوس التنوير، أصبح ظهيرا لمنظومة الاستبداد والمستبدين، ولم تعد تحركه قيم ومفاهيم التنوير، ولكنه يتحرك وفق معادلة قائمة على مفهوم المصالح والمنافع، وهذا ما توضحه الكثير من الأمثلة التي يمكننا التدليل بها على هذا الحكم، فقد وقف المثقف العربي التنويري مع الأنظمة الاستبدادية في محطات مهمة من تاريخنا المعاصر، ومن يحاول استقراء ذلك لا تعجزه التفاصيل، لقد وقفوا مع عبد الناصر في خلافه مع الإخوان المسلمين في خمسينيات القرن الماضي، ووقفوا –أيضا – مع حافظ الأسد الذي صنع صراعا وهميا للقضاء على الإخوان المسلمين في سوريا، ورأينا الكثير منهم وهم جنود في الثورات المضادة التي صنعت على أعين الأجهزة الأمنية التابعة لأنظمة الاستبداد والتبعية، ورأينا كيف يظهر هذا المثقف أو ذاك على شاشات التلفاز -وهو المثقف الذي ظل يكتب وينظر حول المفاهيم الحديثة للدولة والمجتمع- يحدثنا عن ضرورة الالتفاف مع هذا الزعيم أو ذاك ممن اختارهم القدر -بحسب هذا المثقف التنويري- لقيادة البلاد والعباد، وأذكر أنني سمعت الدكتور جلال أمين وحسن حنفي وأحمد كمال أبو المجد، على التلفزيون المصري، وهم يدافعون عن قرار السيسي بتوقيف المسار السياسي (الشرعي) الذي جاء بعد الثورة الشعبية المصرية، بل ودافعوا حتى على قرار ضرب المواطنين المصريين في رابعة العدوية، والأمر كذلك في تونس، التي وقف فيها المثقف التنويري مع الاستبداد طويلاً، منذ أيام بورقيبة وبن علي، وعندما ظهرت الثورة المضادة نزع لبوس التنوير وخاض حربا شعواء ضد حركة النهضة التي جاءت إلى الحكم بعد الثورة التونسية المباركة، ورأيناهم يقفون مع الدولة العميقة ويدافعون عن رجل بائس ينتمي إلى حقبة سياسية اختفت تماما من المجال السياسي العالمي، كل ذلك حتى لا يبقى الإسلاميون في الحكم، وهو مشروعهم الحقيقي، القائم على منطق الإقصاء والعداء لكل ما هو إسلامي أو ناتج عن منطق ديني، فالأصل أنهم يعادون الإسلام كدين أعطى للمجال السياسي مساحة للتفكير، وإن كان جعل –أي الإسلام- التوظيف للمفاهيم الدينية من وظيفة البشر (الجماعة السياسية التي تدير السلطة دولة ومجتمعا)، وهو وضع يختلف اختلافا جذريا على ما هو عليه الأمر في الغرب مع المسيحية، وهي النقطة الوحيدة التي تمسك بها التنويريون العرب في مجال الولاء لمفاهيم التنوير، أما مفاهيم الديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية السياسية، ومجمل الآليات التي جاءت مع فلسفة التنوير والحداثة، فهي باطلة في النسخة العربية.

(المصدر: صحيفة بصائر الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى