إعداد أحمد خلف
يترتب على ما يطرحه الدكتور سعد الهلالي في الساحة الإعلامية، بتعمُّدٍ يقصدُ أن يكون شاذًّا، من عرضٍ للأحكام الفقهية المتعددة في وقت واحد، ودعوة الجمهور للاختيار من بينها هكذا دون ضابط ولا رابط، بل بالهوى والرغبة الذاتية، الوقوع في مشكلة فقهية تُسمَّى «التلفيق».
و«التلفيق» في الفقه معناه أن يكون هناك تجاوز وعدم التزام بالمنهج الذي يسير عليه الفقيه وينظر من خلاله إلى الأدلة والواقع، فيتم انتقاء حكم استنبطه فقيه أو مدرسة فقهية وفق قواعد محددة في إحدى مسائل موضوع ما، كالوضوء مثلا، ثم يتم اختيار رأي فقيه آخر في مسألة أخرى تتعلق بذات الموضوع أو تترتب عليه، وتطبيقهما معًا عند أداء العبادة على سبيل المثال.
ومثال ذلك: أن يكون شخصٌ متوضئًا، ثم يَمَسُّ امرأةً فيأخذ برأي الأحناف بعدم انتقاض الوضوء بهذا المَسِّ، ثم يُصاب برعاف أو بجرح يسيل بسببه الدَّمُ فيأخذ برأي الشافعية الذين لا يرون سيلان الدم ناقضًا للوضوء، فهنا في هذه الصورة يكون وضوء هذا الشخص منتقضًا عند الأحناف بسيلان الدم، ومنتقضًا عند الشافعية بمس المرأة.
وهنا يكون الشخص مُلَفِّقًا في الوضوء، وهذا التلفيق يؤدي إلى فساد الأحكام كما رأينا في المثال السابق الذي أصبح فيه الشخص غير متوضئ وفقًا لآراء المذهبين الحنفي والشافعي، في الوقت الذي أراد فيه هذا الشخص أن يحافظ على صحة وضوئه عن طريق التلفيق.
قد يتمُّ التجاوز في «التلفيق» حين يتعلق الأمر بشخص عامِّي لا يعرف الفروق بين المذاهب وآرائها، ويمكن أن يقع العامي في التلفيق بسؤاله لأحد العلماء الأحناف عن صحة وضوئه من عدمها عند مس المرأة؛ فيُجيبه بعدم الانتقاض، ثم في ظرف آخر يسأل أحد العلماء الشافعية عن صحة وضوئه من عدمه عند سيلان الدم منه؛ فيجيبه بعدم انتقاض الوضوء.
فهنا هو لا يدرك الفارق بين المذاهب ولا يتعمَّدُ التلفيق، ومن هنا جاء قولهم: «العامِّيُّ مذهبه مذهب مُفتيه»، لكن أن يصل الأمر بمن يدَّعي التخصص في الفقه أن يتعمد تلفيق الناس في أحكامها الفقهية عبر طرح الآراء والإصرار على ترك أمر الاختيار لهوى كل شخص حتى لو أدَّى هذا إلى قيامه بأفعال على صورة، لو قمنا بعرضها على آراء العلماء، كل على حدة؛ لقال بفسادها وبطلانها، فهذا أمر شاذ غير مقبول، بل إنها قد تناقض كل مقصد للشرع الشريف.
كما لو قمنا باستعراض الآراء الفقهية المتعلقة بعقد الزواج، فقام أحد الأشخاص باختيار الرأي القائل بعدم وجوب الولي للمرأة واختار معه الرأي القائل بعدم وجوب الشهود – وإن كان هذا الرأي يشترط الإشهار – فهل مثل هذه الصورة الناتجة عن التلفيق في الأحكام يقبلها منطق أو عرف؟
من المهم أن نذكر أن بعض العلماء أجاز التلفيق للتيسير على العباد، ولكن هل يصل الأمر إلى اعتبار التلفيق هو الأساس الذي يُبنى عليه الفقه الإسلامي؟ هل نسعى للتقدم الذي وصل إليه الفكر الإسلامي باستخلاص مناهج وقواعد تمت صياغتها والاعتناء بها في علم أصول الفقه وهو علم فريد يتيه به المسلمون فخرًا بين الأمم وأصحاب الديانات، أم نسعى للتراجع عن هذا التقدم بالتعامل المزاجي مع النصوص والأدلة الشرعية؟
العبث بالتكليفات الشرعية
اللي عقلك ما يستوعبوش اعرف أنك مش مكلف بيه، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، اللي ما تفهموش أنت مش مكلف به أصلاً، مش من الدين عندك، اللي تفهمه صار ممكن تدخله في الدين، اللي ما تفهمهوش؛ بعيد عنك، إذن.. قولوا للمشايخ كده، فهمونا، فهمنا؛ هنستوعب ونتحمل المسؤولية، ما فهمناش؛ مش مكلفين.
هكذا يخاطب الدكتور سعد جمهوره، ويكاد يُسقط عنهم بهذا الخطاب التكاليفَ الشرعية، بدعوى أنهم لا يستوعبونها! فبدلاً من السعي نحو تذليل عقبات عدم الاستيعاب وتيسير سبل الفهم، يُريح الدكتور سعد جمهوره من البداية، ويُشعرهم أن المعرفة والاستيعاب عبء عليهم، فيثبطهم عن السعي والمعرفة.
وفي الحقيقة لا أَثْقَلَ ممَّا يفعل هو حين يُكثر عليهم بذكر الآراء المتعددة في وقت قصير، ثم يطلب من متابعيه أن يتخيروا، كل حسب مزاجه وهواه ما يحلو لهم منها، وهي في الحقيقة خطة مثالية لتقليل فرصة الاستيعاب حين تختلط في أذهانهم المسائل وتتشابك، وبالتالي لا يفهمون، ثم لا يشعرون بأنهم مكلفون بها.
بعد كل هذه القرون يأتي الدكتور سعد الهلالي ليقطع بأن الإمام مالك الذي ولد في القرن الأول من الهجرة وكان من أكابر العلماء يستند إلى حديث مطعون فيه!
يقول لهم إن العبرة بالدليل لا بالقائل، وهذا كلام في ظاهره صحيح، ولكنه يطالبهم أن ينظروا هم في الدليل ويُقدِّروا أقوال العلماء ويحكموا عليها، وهذا أمر جدُّ عسير خاصة في هذا الزمان الذي ضعفت فيه صلة الناس باللغة العربية وقواعدها، فضلاً عن إدراك دلالاتها المتعلقة بزمن التلفظ بها، وأضف إلى ذلك أن العديد من النقاشات المتعلقة بالاستدلال تستغرق صفحات كثيرة، وقدحًا عقليًّا عميقًا، وهو مما يصعب على أهل الاختصاص، فما بالنا بالمتلقين الذين يزين لهم الدكتور سعد إمكان التقرير بشأن الأحكام الفقهية بسهولة ويُسر.
والحق أن الأمر لا يتعلق بمعرفة الدليل، فهذا أيسر ما في الأمر، أن يعرف المرء حكمًا والدليل عليه، لكن المشكلة ستأتي له حين يعترضه أحدهم بما يعجز عن مجاراته، فهنا يصير من قَرَّرَ الميلَ إلى رأي بِنَاءً على دليل، واقعًا في حيرة شديدة، إذ كيف يظل على رأيه الأول بعد أن أعجزه آخر بدليل أقوى أو باعتراض على استدلاله وهو لا يملك مجاراته في طرق الاستدلال والاستنباط؟ وهو إن تفرَّغ لهذا الأمر تعطلت حياته، وانشغل عن أعماله التي هي به أولى من النظر الفقهي في الأدلة والاعتراضات الواردة عليها والترجيح بينها، وهي عملية علمية شائقة وممتعة.
ويا حبذا أن يُكثر المسلمون من الاحتكاك بها لينالوا بذلك خيرًا عظيمًا ونفعًا عميمًا، ولكن هذا ينبغي أن يقف عند حد “الخيار” للمسلم؛ أن يلج هذا الباب فينال طرفًا من هذا العلم بتواضع وتطلُّع إلى المعرفة دون تكبر أو استعلاء، أو يقف عند أعتابه ينال الرأي الفقهي من متخصص ثقة أمين، ويزاول نشاطه وعمله وسعيه في الحياة دون اختلال، محققًا مراد الله من خلقه إياه في تعمير الأرض وعبادته سبحانه، كما يفعل كل ذي مهنة أو حرفة، يتعمق في فَنِّهِ وتخصُّصه، وينال من المجالات الأخرى الخلاصة من أهلها الذين يتعمقون فيها ويحيطون بتفاصيلها.
فغير المتخصص في الطب ينال من الطبيب تشخيص حالته ومعرفة دوائه، وغير المتخصص في الهندسة الإنشائية ينال من المهندس تصميم عقاره ويطمئن بشهادته على صحة البناء أو ما يعتريه من عطب، وكذلك غير المتخصص في الفقه، يعرف الحكم الفقهي من الفقيه، دون تعقيد ولا إجبار يدعو إليه الدكتور سعد دون مبرر، سوى رغبته في حيازة مكانة لن تتأتَّى له إلا بسلوك مسالك تخالف ما عليه العمل في هذا المجال، بمنطق خالف تعرف.
التشكيك في السنة
بالرغم من تمتع السنة المشرفة بمكانة كبيرة في التشريع الإسلامي، فهي صنو القرآن الكريم في بيان أحكام الله للعباد، وبرغم ما قام به العلماء على مَرِّ القرون من تقرير وسائل وآليات مختلفة لضمان كيفية الاستفادة المُثْلَى من السنة، ودراستها وتمحيصها سندًا ومتنًا، وتقسيمها إلى درجات ومستويات للاحتجاج، وتقرير آليات التعامل مع ما يبدو في نصوصها من تعارض، إلى غير ذلك من قضايا تتعلق بالسنة المشرفة.
وبالرغم أيضًا من استقرار حجية السنة في التشريع الإسلامي واعتبارها أحد مصادره الأساسية المتفق عليها على مدى القرون المتطاولة الماضية حتى الآن.
بالرغم من كل ذلك فإن الدكتور سعد تجده ينتهز فرصة خروجه الغزير في وسائل الإعلام ليشكك في السنة النبوية بالإضافة إلى طرح الآراء المختلفة للعلماء في مسألة معينة، ثم يترك المستمع أو المُشاهد في حيرة من أمره لا يدري كيف يفعل ولا أي رأي يتبنَّى، وكأن منهجه هو التشكيك المستمر في نفس من يستجيب لكلامه، وهذا التشكيك يختلف طبعًا عن التفكير الإيجابي الذي يجعل الإنسان دائم السعي للوصول إلى الحقيقة، والتعرف على ما استشكل عليه، فهذا من السلوك الصحي أما التشكيك في الثوابت والوسائل التي يتم التوصل من خلالها لمعرفة الحقيقة فهذا أمر يؤدي إلى حالة مَرَضِيَّة تجعل الإنسان مشوش الفكر مضطرب الوجدان.
يَدَّعِي الدكتور سعد أن من كان يحفظ الأحاديث من الصحابة لا يتجاوزون 30 صحابيًّا، قاطعًا أن باقي الصحابة، حوالي 120 ألف صحابي، لا يعرفونها! وهذا غلط بلا شك، غاية ما في الأمر أن هناك من كان يكثر في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من كان مُقلًّا في الرواية، ومنهم من كان مشغولا عن الرواية بشيء آخر كتجارة أو إدارة أو مهنة، ولا حرج في ذلك، خاصة أن هناك من كان يقوم بواجب الرواية ونقل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبليغها للأمة.
فهو يخلط بين المعرفة والتصدُّر لإلقاء العلم، ويصفها بـ «المرويات» تقليلاً من شأنها، ويكاد يفصح أن ما يثبُت ويعتد به فقط هو ما يصفه بالسنة، وهي في اصطلاحه، كما بيَّن، يقصد بها ما شاع وانتشرت معرفته من تراث النبوة ككيفية الصلاة والصيام، وهذا كلام يُفهم منه أن المعتدَّ به في نظر الدكتور سعد هي الأحاديث المشهورة والمستفيضة والمتواترة، أما أخبار الآحاد فلا تنتصب حجة في تقرير الأحكام الفقهية، وفي هذا من إهدار للسنة النبوية المشرفة ما يكاد يجعلها مصدرًا ثانويًّا وهامشيًّا في التشريع الإسلامي!
يَدَّعِي الهلالي أن من كان يحفظ الأحاديث من الصحابة لا يتجاوزون 30 صحابيًّا، قاطعًا أن باقي الصحابة، حوالي 120 ألف صحابي، لا يعرفونها!
وبعد أن تنحط مرتبة السنة في تفكير الدكتور سعد إلى الحد الذي تكاد تفقد اعتبار كونها مصدرًا للتشريع الإسلامي، لا نلبث بعد هذا التشكيك في منزلة السنة ومكانتها في التشريع حتى نجده يلجأ إليها ويعتمد عليها، ويناقش الآراء الفقهية التي يطرحها على المتلقِّين لكلامه بناءً على هذه الأحاديث، لكنه كعادته الانتقائية، يميل إلى الاستناد إلى بعض الأحاديث ويحاول أن يوصل للمتلقِّين أنها صحيحة عندما يميل إلى الرأي المستنبط منها، ويناقش آراء الفقهاء المستندة على هذه الأحاديث ويُسَفِّه منه؛ عندما لا يؤيد الحكم المستنبط منها، وحينئذ يصف الأحاديث بالمرويات تقليلاً من شأنها!
ويبدو أنه يفعل ذلك أيضًا لعلة أخرى تتعلق بتسويغه وترويجه للآراء الشاذة، فوصف الأحاديث بالمرويات تقليلاً من شأنها، وإضعافًا لحجيتها يُعَدُّ مدخلاً للتسوية بين الآراء الشاذة التي لا تكاد تستند على شيء أو تستند على أحاديث بها إشكالات في السند أو المتن أو غيرها، مقابل آراء أخرى معتمَدَة تستند على أحاديث صحيحة النسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من باب أنها جميعًا “مرويات”؛ فيستوي القوي مع الضعيف، والمعتمَد مع الشاذِّ!
ومن غرابة أطوار الدكتور سعد في مجال التعامل مع السنة ما تجده يقع منه بعد تهوينه من شأنها، من الاعتداد بآراء بعض المعاصرين في تقدير درجة الحديث كالشيخ الألباني، ويرضى حكمه بتضعيف أحد الأحاديث، بالرغم من اتجاهه الواضح اختلافه مع اتجاه الدكتور سعد، سواء فكريًّا أو في مجال السنة النبوية المشرفة، الأمر الذي يقف أمامه المرء حائرًا ومتسائلاً عن منهج الدكتور سعد وقواعد حركته العلمية!
ومن عجيب صنعه في مجال علم الحديث أن يقول في مناقشة إحدى المسائل الفقهية عبر وسائل الإعلام: «استدل الإمام مالك بحديث بسند فيه مقال»، يقصد بذلك الطعن في الحديث، وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب والحمر عن الطهر منها فقال: «لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غبر طهور».
هكذا ببساطة يأتي الدكتور سعد بعد كل هذه القرون ليقطع بأن الإمام مالك الذي ولد في القرن الأول من الهجرة وكان من أكابر العلماء يستند إلى حديث مطعون فيه، وهذا ليس تخصص الدكتور سعد ليقطع فيه برأي، ولو أنصف الدكتور سعد لمنهجه الذي اختاره لنفسه؛ لذَكَرَ الرأي أو الآراء الأخرى التي تختلف مع مذهب الإمام مالك في هذه المسألة وترك للجمهور حرية الاختيار، بدلاً من الطعن في استدلال الإمام مالك بالحديث، وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم رجلان أو ثلاثة فقط، خاصة وأن العلماء اختلفوا في تقدير سند هذا الحديث المشار إليه، فقال بعضهم إنه ضعيف وقال آخرون كابن حجر مثلا إن سنده حسن.
(المصدر: موقع إضاءات)