مقالات مختارة

التنمية في ضوء مقاصد الشريعة

بقلم د. مصطفى عطية جمعة

إن مصلحة الإنسان هي هدف الشريعة، فهو كائن مكرم ومفضل من الله سبحانه، والله استخلفه على إقامة العدل والإنصاف وتحقيق المساواة والحرية. والمقاصد تأتي على نوعين [1]؛ الأول: مقاصد الخالق – سبحانه – من الخَلق، وهي أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وهي مقصد عام لكل الرسالات والديانات السماوية مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾[2] والتفسير: أن الله بين للأمم على ألسنة الرسل عليهم السلام أنه يأمرهم بعبادته واجتناب عبادة الأصنام، فمن كل أمة أقوام هداهم الله فصدقوا أي آمنوا، ومنهم أقوام تمكنت منهم الضلالة فهلكوا، ومن سار في الأرض رأى دلائل استئصالهم [3] وهذا يعني أن رسالة الإسلام تشترك مع باقي الرسائل السماوية، في إقامة الإيمان على الأرض، وهو ما لم تدركه الحضارة المعاصرة – بمرجعياتها الفلسفية والمادية – فخلطت ما بين الكنيسة والدين وغايات الدين المسيحي، ونأت بنفسها ومجتمعاتها عنه.

والنوع الثاني: مقاصد الشريعة من التشريع، وهي تهدف إلى صلاح العباد والبلاد، وأن تهيئ السبل لحياة إنسانية طيبة ومرشدة في دنيا الفرد، وهادية إلى آخرة سعيدة، فالمقاصد هي المصالح، والمصالح ثمرة الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة تكون في الدنيا والآخرة، فيما يسمى المصالح الآجلة والعاجلة، فإن ما يجعل الالتزام بمقاصد الشريعة وروحها، إدراك المسلم أن هناك أموراً تتحقق له في المستقبل، قد لا يراها في لحظته، ولكنه لأنه مرتبط بالشريعة فهو يوقن من أن الصلاح واقع في حاضره ومستقبله [4].

وللمصالح في ضوء الشريعة خصائص أولها: أنها تكون على هدي الشرع وليس هوى الإنسان، والثانية: أن المصلحة لا تقتصر على الدنيا، بل تشمل الدنيا والآخرة معا، وهذا يخالف أسس الحضارة المعاصرة، التي لا تتعدى نظراتها الدنيا سواء استهدفت مصلحة الفرد أو المجتمع، والثالثة: أنها لا تنحصر فقط في اللذة المادية، بل تهدف إلى تزكية النفس نحو الخالق سبحانه وتعالى. والرابعة: أن مصلحة الدين أساس وسابقة لباقي المصالح [5].

فعندما يضع المخطط التنموي مقاصد الشريعة نصب عينيه، فهو يحقق جملة من الأهداف، التي تصب في صالح قيم الإسلام وفلسفته، ومنها:

  • بيان الأهداف السامية التي ترمي إليها الشريعة في الأحـكام، فيزداد المؤمن إيمانًا، وإخلاصا لرسالته في الحياة، وفي الآخرة، خاصة عندما يقارن بينها وبين النظم الوضعية الأخرى.
  • تعين مقاصد الشريعة تعين في الدراسة المقارنة التي تحقق المقاصد، ويتفق مع أهدافها في جلب المنافع ودفع المفاسد، وتحديد أولويات التنمية، ومحاورها، ومراعاة العدل الاجتماعي مثل مراعاة الفقراء في الزكاة، ورعاية الصغار والأيتام والوقف في المعاملات [6].

في الوقت نفسه، فإن الإسلام أقرّ التفاوت بين الناس في الملكيات والأرزاق انطلاقا من قوله تعالى: ﴿ وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ﴾[7] لأن فطرة الله فاوتت بين الخلق في المواهب والقدرات الخاصة والسعي والجهود فلا غرابة أن يتفاضل الناس في أرزاقهم، وهذا مقتضى الحكمة كما قال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾[8] إلا أنه قرّب بين الطبقات وذوّب الفوارق بإلزام الغني ألا ينمي ثروته بالطرق المحرّمة مثل الربا والاحتكار، ووضع سبلا كثيرة لتفتيت الثروات وتتداولها، وإيجاب الزكاة على الأغنياء لترد على الفقراء، وأوجب بعد الزكاة حقوقا على الأغنياء مثل: النذور والكفارات والصدقات والمساعدة في الطوارئ، بجانب حفزهم على الأوقاف خدمة للمجتمع والناس [9].

ولكنْ: ما الإنسان المقصود بالمنهج الإسلامي؟ أو ما مفهوم الإنسان الذي يتوجه إليه المنهج الإسلامي التنموي؟

إن الإنسان المعنيّ هو الإنسان العادي بقوته وضعفه كما خلقه اللّه، وليس الإنسان الذي يتخيله الذهن الوضعي كمخلوق منمخلوقات الاقتصاد نظريًّا؛ أي الرجل الاقتصادي، أو من مخلوقات المادة إيديولوجيًّا.. فهو الإنسان الواقعي، الذي تربَّى على الأخلاق والقيم الإسلامية؛ أي الإنسان الأخلاقي ولكن: كيف يتعامل هذا الإنسان مع المادة لإعمار الأرض؟ وللإجابة عن هذا السؤال، وضع المنهج شرطين أو مطلبين، بدون تحقيقهما لا يمكن أن يتحقق المشروع الإنساني الممكن في الإعمار؛ هذان الشرطان هما: أن يكون الإنسان حرًّا، وأن لا يكون مستغلاًّ؛ أي شَرْطَا الحرية والعدالة [10].

فلا تنمية لإنسان مقهور ومستعبد ومهان، فمن لا يملك نفسه ولا قراره لا ننتظر منه خيرا، ولا نرجو منه نفعا، فتتعطل مواهبه، وتفنى حياته دون أن يفيد نفسه ولا مجتمعه.

هذا، وهناك مبادئ عديدة تحكم الاقتصاد من المنظور الإسلامي، وأولها: الثبات والمرونة [11]، فالثبات سمة تجعل الاقتصاد مستندا على غايات الإسلام ومقاصده وكلياته الخمس، أما المرونة، فهي صفة لا تخل بالمبادئ الثابتة بقدر ما تتواءم مع الأحداث والتطورات الاجتماعية والتنموية المختلفة، مواكبة للمستجدات والمشكلات المتعددة التي يواجهها المجتمع.

ثم يأتي مبدأ التوازن بين المادية والروحية، دون طغيان لأحد على الآخر، ومبدأ التوازن بين مصلحة الفرد والجماعة، فلا اغتصاب لمال ولا ممتلكات، وكما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع: ” إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا ” (رواه مسلم)، فليس للمرء حق أن يستخدم ما يملك بطريقة تضر الآخرين. كما حرّم الإسلام الاحتكار، الضار بمصلحة الجماعة [12]. أيضا، فإن الواقعية أساس في الاقتصاد الإسلامي، حيث ينظر الإسلام إلى الواقع العملي الذي يتفق مع طبائع الناس، ويراعي دوافعهم وحاجاتهم ومشكلاتهم، عملا بقوله تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ.. ﴾ والواقعية تتحقق بالرقابة المزدوجة بين الفرد والجماعة [13].

فكلا من التوازن والواقعية كمبادئ إسلامية، يشكلان أساسا في فهم ثم تطبيق الفروض الكفائية في المجتمع والأمة. فالتوازن مبدأ مهم، يجعل الفرد المسلم يوازن بين ما يجب عليه في واجباته العينية وما يجب عليه في واجباته الكفائية، خاصة في الجانب الخدمي لمجتمعه، ونحو أسرته. أما الواقعية فهي تلزم المسلم أن يكون دائما ذا رؤية واقعية، بعيدا عن التهويمات والمثاليات التي تحلّق به في خيال جامح، دون مواجهة حقيقية لقضايا واقعه. وبالتالي يكون المسلم متلمسا حاجات نفسه وأسرته بشكل واقعي، ثم حاجات مجتمعه البسيط من حوله، فلا يكتفي بدور المتفرج السلبي، بل هو يتحرك بشكل إيجابي لخدمة كل من حوله، آخذا في حسبانه أن دينه دين شامل.

فدائمًا هناك اتساق في حياة المسلم، نابع من النظام الإسلامي ذاته، الذي يقوم على أربعة عناصر: العقائد، الأخلاق، العبادات، المعاملات، كوحدة لا تتجزأ، وتُتَرجم في مقاصد سامية، وضعها الشارع الحكيم لتجعل المسلم يحيا في سعادة ذاتية واجتماعية، فالإسلام وضع نظاماً اجتماعياً واقعياً شاملاً، يضبط حركة الحياة، على أساس متين [14].

————————————–

[1] المقاصد العامة للشريعة الإسلامية،ص82، 83.

[2] سورة النحل، 36.

[3] تفسير التحرير والتنوير، ج 5، ص150.

[4] المقاصد العامة للشريعة، م س، ص84.

[5] انظر: المرجع السابق، ص140 – 148.

[6] انظر: حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة، د. محمد الزحيلي، سلسلة كتاب الأمة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، قطر، العدد 19، ص 7-9.

[7] سورة النحل، الآية 71.

[8] الزخرف، الآية ( 32).

[9] ملامح المجتمع المسلم، القرضاوي، ص255-257.

[10] المنهج الإسلامي في التنمية، د. عبد الحميد الغزالي، مقال منشور على موقع إخوان أون لاين.

[11] موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة والاقتصاد الإسلامي، د. علي أحمد السالوس، نشر: مكتبة دار القرآن بمصر، ودار الثقافة بالدوحة، قطر، ط7، 2002، ص28

[12] انظر: السابق، ص28- 30.

[13] موسوعة القضايا الفقهية المعاصرة، ص31.

[14] حول المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية، د. عبد الحميد الغزالي، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة ( مصر )، ط 1، 1989 م، ص13.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى