التنظيمات الإسلامية بين المطالبة بالحل ووجوب الاستمرار
بقلم عزة مختار
دعوة جديدة وخبيثة خرجت على منصات التوصل الاجتماعي تدعو لحل التنظيمات العاملة على الساحة الإسلامية تحت دعوى الفشل، محملة إياها كافة التبعات العنيفة التي وقعت فيها الحركة ودفعت ثمنها من خيرة أبنائها على كافة الأصعدة من اعتقالات وشهداء وتغرب وهجرة قسرية، في الوقت الذي تناسى فيه هؤلاء تاريخ الحركة الإسلامية وما قدمته للفكرة والدعوة من حفظ للدين في وقت تكالب فيه الجميع عليها في الداخل والخارج.
حافظت الحركة الإسلامية على الهوية الدينية للأمة، وجددت فكرها بعد فترة ركود وهزائم حضارية عميقة، دافعت عن حرية بلادها في حروب كانت مستحيلة في وقتها؛ فقد حاربت جيوشًا عالمية مستعمرة لأكثرية بلاد المسلمين، واستطاعت أن تصمد في وجه محن يمكن أن تسقط فيها بلدان ودول كاملة العدة والعتاد والعدد، أخرجت مفكرين ومجددين ومرت بفترة نهوض وصحوة إسلامية كادت أن تغير وجه المنطقة العربية لولا تدخل الأنظمة وتقليص دورها وتقليمها بما صب في مصالحه هو لا الشعوب الإسلامية، لقد قدمت الحركة الإسلامية في مصر على سبيل المثال والأردن والكويت وتونس وليبيا مشاريع تنقل تلك الدول لمصاف العالم الحر لولا الأحداث التي يعرفها الجميع.
إن تحميل الحركة الإسلامية النتائج الكارثية التي وقعت في بلادنا لهو من الغبن البين، والظلم والبهتان ؛ فالأنظمة تتحمل كبر الجريمة والشعوب تتحمل جانبًا، أما من يظن أن الحركة الإسلامية يجب أن تحل لهذا السبب، فلن يكون هناك حراكًا للشعوب بغيرها، ولن تستطيع وحدها كذلك الوصول للهدف المنشود وتحرير البلاد والعباد لتحقيق المشروع الحضاري الإسلامي المتكامل.
العمل الجماعي للإسلام ضرورة شرعية
لكل شريعة خصائصها التي تصح بها وتستقيم في قلوب حامليها وسلوكياتهم، فمنها ما يعتمد على العمل الفردي، والصلاح الشخصي، ومنها ما لا يقام إلا في جماعة كشريعة المسلمين، إن كافة آيات التعبد تتحدث بلغة الجمع وليس بلغة الفرد، فالإسلام دين الواقع، وشريعة الحياة، وهو آخر الشرائع التي تستقيم عليها البشرية، فالإسلام حين يتحدث عن العبادة يقول في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5، 6] وحين يتحدث عن سياسة المجتمع وحكمه يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] وحين يتحدث عن وجوب العمل الجماعي ووحدة الصف وتوحيد الغاية يقول: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] وحين يتحدث عن حتمية انتصار تلك الدعوة بمعية الله مع مجموع المسلمين يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَٰطِلِ فَيَدْمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].
والعمل للإسلام لا يصح ولا يستقيم إلا إذا كانت له جماعة تنافح عنه وتتحرك به وتدعو له وتحققه في ذاتها أولًا ثم تسير به بين الخلق؛ فالفرد وحده لا يستطيع أن يطبق قيمة مثل صلاة الجماعة، أو قيمة مثل الصدق، أو قيمة مثل تحمل أذى الناس والصبر عليهم، أو قيمة مثل الإحسان إلى الخلق، أو قيمة مثل المؤاخاة أو المؤازرة، أو التواصي بالحق والصبر، وغيرها الكثير من القيم الإسلامية والأخلاقية التي لا يمكن تنفيذها إلا من خلال جماعة.
والقرآن يحث على التحلي بأسباب القوة والمنعة فيقول موجهًا خطابه للمسلمين: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] فالأمر موجه للجماعة المؤمنة وليس للفرد، ولا يطيق الفرد الإعداد بمفرده لإقامة دولة أو خلافة أو حمل مهمة الدعوة العالمية وحده؛ فالقوة في الجماعة وليس في الفرد، والجماعة وحدها من تستطيع الإعداد اللازم لمواجهة دول وكيانات، والله – عز وجل – يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ويقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وليس من تقوى أكثر من العمل والسعي الدؤوب لإقامة دين الله في أرض ثابتة قوية.
ويقول رب العالمين: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] فالفردية ضعف، ومدعاة لاستعانة الآخرين بنا كمسلمين، والتنازع والفرقة والشتات هو الطريق الممهد للقضاء على الأمة وبداية سقوطها ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – حذر من الفرقة وحبب في الجماعة فقال: “عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية”، والإنسان يحتاج لمن يؤازره، فهذا سيدنا موسى – عليه السلام – حين أرسله الله لفرعون طلب منه – سبحانه – أن يكون أخوه هارون بجواره، يشد على أزره ويشاركه المهمة الكبيرة، والنبي – صلى الله عليه وسلم – كان رفيقه الصديق لم يفارقه أبدًا وهكذا كل الدعاة عبر العصور، فالفرد كثير بإخوانه، إذا سقط يقومونه، وإذا فتر يرفعون همته، وإذا ضعف يقوونه، فهو بجماعته ليس واحدًا، وإنما بقدر ما تحمل هذه الجماعة من أفراد، هو بينهم كجميعهم، فهو يساهم بشكل كبير في تقوية العمل المقدم وفي استمراريته.
وقد بارك الله في العمل الجماعي لهذه الأمة، وبارك في الشورى وقراراتها، وجعل يده الكريمة مع الجماعة حيثما كانت، ونخلص من ذلك إلى ضرورة العمل الجماعي في العمل للإسلام وأن كافة دعوات حل الحركة الإسلامية هي دعوات هدامة تريد التأخر بالإسلام بل وتساهم بشكل كبير في عرقلة تقدمه ونموه الذي ساهمت فيه الحركة الإسلامية بشكل كبير.
التحديات التي تواجه الحركة الإسلامية بين الأمس واليوم
إذن فالعمل الجماعي الإسلامي ضرورة ووسيلة مهمة لترسيخ الفكرة لدى الناس، علاوة على استحالة تطبيق الإسلام بشكل فردي وانقطاع قدرة الفرد على العمله له وحده، وأن أي دعوة لحل التنظيمات الإسلامية هي دعوة تصب في حقيقتها ضد الفكرة الإسلامية ولا تخدمها من قريب أو من بعيد.
ويمكننا هنا أن نطرح سؤالًا، الحركة الإسلامية موجودة على الساحة منذ ما يقرب من قرنين، ويمكن أن نقول إنها بلغت رشدها في ثمانينيات وسبعينيات القرن المنصرم، فلماذا لم تستطع تلك الحركة تكوين وبناء مجتمع كمجتمع المدينة يمكنه أن يمثل نواة لأمة إسلامية كمنهج الدعوة في فجر الرسالة، وكما كانت المدينة المنورة نواة لأمة انطلقت في الأرض لتصنع تلك الحضارة العظيمة؟ أين الخلل وما هي التحديات التي واجهت الحركة الإسلامية حتى اليوم ومطلوب منها تجاوزها كي تعبر بالأمة إلى بر الأمان في وقت تكالب العالم فيه عليها، وصارت الحركة مستضعفة، دب فيها الخلاف والانقسام، وغابت الرؤية إلا من الصبر وانتظار أقدار الله فيها دون إبداء رد فعل تجاه الضربات القاصمة التي واجهتها في ربوع بلاد المسلمين؟
لقد تعرضت الحركة الإسلامية لعملية استئصال ممنهج عبر عصورها، بالرغم من تخلل تلك العصور لفترات ذهبية كان من الممكن أن تخرج منها بعملية تحول حقيقي في التاريخ المعاصر، فمن المعروف أن دعوات التغيير كلها تتعرض لنفس ما تعرضت له الحركة الإسلامية المعاصرة من حروب ناعمة وخشنة، وأنه لا يوجد رسول أو نبي أو مصلح ولم يحارب في قومه ويخرج من أرضه قسرًا، لكن العمل الجاد والمستمر، والأخذ بالأسباب كاملة، والتعلق بالله الواحد الأحد، يؤدي حتمًا لطريق النصر، فالله – عز وجل – لم يخلق الأمة إلا لتحمل المسئولية، ولم يخلقها ليعذبها ويجعلها نهبة للأعداء فللنصر أسباب، وللسير في طريق دعوة الله شروط ونفوس تتهيأ على يد الله وعينه، فمن حقق الأسباب والشروط، يجد وعد الله قائمًا، والله سبحانه لا يخلف وعده، مهما كانت التحديات، ومهما كان حجم العدو، وفي تقديري أن الحركة الإسلامية التي وقعت في أكثر من فخ في العصر الحديث، لم تجن ثمار الطريق الصحيح هزيمة وضعفًا وتشتتًا في الأرض، وإنما تدفع ثمن انحرافات الطريق، والانشغال بالوسيلة عن الفكرة الأساسية، والخلاف حول الفروع وترك الأصول، وعدم دراسة الواقع دراسة واعية، والاصطدام الدائم مع العقول المبدعة حتى مثلت عامل طرد وهجرة لكل المبدعين، ولم يتبق بها سوى أهل السمع والطاعة دون فهم، والخائفين عليهم والمدركين خطورة الانفصال، فرضوا بالقليل كي لا يضيع الكل.
الحركة الإسلامية تدفع ثمن انحرافات الطريق، والانشغال بالوسيلة عن الفكرة الأساسية، والخلاف حول الفروع وترك الأصول، وعدم دراسة الواقع دراسة واعية، والاصطدام الدائم مع العقول المبدعة
إن التحديات التي تلاقيها الحركة الإسلامية اليوم ليست الشعوب التي رضيت بالأنظمة المعادية للدين، وليست في الاستعمار وأذنابه والحرب العالمية على الإسلام، وليست في كم الأموال التي تنفق كي تسقط الفكرة وأصحابها، بل تتمحور تلك التحديات داخل الحركة الإسلامية ذاتها، فهي تمر بحالة من الوهن والتفكك كما أشرنا من قبل، وتعد حركة الإخوان المسلمين والتي أسسها الإمام البنا لتصحيح الفكر الإسلامي الذي أصابه الجمود والتشوه والانحراف، فأحيا قيمًا كانت غريبة على الناس في وقتها وصحح مفاهيم، وفجر فكرة شمول الإسلام اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا وجهاديًا وقد وصف البنا – رحمه الله دعوته قائلًا: “دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”.
وبالنظر لحال الحركة اليوم نجد التحدي الداخلي الأول وهو تحديد رؤية واضحة وملموسة للواقع المعاصر داخل القطر الواحد وخارجه باعتبار أن العالم اليوم صار كتلة واحدة لا تستطيع أن تعمل في منأى عنه، أو أن تتخذ قرارات في معزل عن تأثيره، فالرؤية اليوم صفرية كما اعترف الكثير من قياداتها، والعمل الوحيد الذي تملكه هو الصبر والانتظار، في حين أن التاريخ الإسلامي لم يعرف ما يسمى بالصبر إلا في ساحات العمل، الصبر على العمل، الصبر حتى تظهر النتائج، الصبر على المواجهة، أما الصبر المجرد الذي لا يحمل نويات عمل كبير، وخططاً واضحة وأخرى بديلة فهو سكون وتواكل لا يعرفه الدين؛ فالرؤية هي أولى خطوات السير على الطريق، والحركة عمليا لا تملك أية رؤية.
والرؤية الواضحة تنبثق عن قيادة واعية حاضرة ملمة بعلوم السياسة والقيادة والحركة، ينبني عليها حسن التوظيف واختيار العناصر وخلق بيئة مناسبة للحراك، فإن فشلت القيادة في اختيار كوادر تضع رؤية مناسبة فهي لا تصلح للاستمرار، وتكون هي ذاتها عبئا على العمل الإسلامي ومكبلا من مكبلات الوصول للهدف، والقيادة الواعية ينتج عنها كذلك إدارة ذكية للصف الداخلي، فهي لن تسمح بالتشرذم برغم اختلاف الرأي، وتقرب منها أصحاب الفهم والإخلاص والابتكار ولا تكتفي بأصحاب التهليل على كل صغيرة وكبيرة وتزييف الحقائق والتضليل بالواقع.
إنه من الغبن أن نعتقد أن الصراع العالمي وحده هو الذي وصل بالحركة الإسلامية إلى ما وصلت إليه، فالمرض يأكل الضعيف، وأوراق الخريف الذابلة تسقطها رياح الخريف، إن الوهن من الداخل وحتى اليوم من السهل إصلاحه إن توفرت إرادة قوية ومخلصة، أو يكون الاستبدال ووقتها لن ينفع الندم.
(المصدر: موقع بصائر)