بقلم هاشم الرفاعي
في المشهد العربي هناك الكثير من الكتابات التي تعد القارئ المسلم بأن انتصار الإسلام قادم، وأن الإسلام هو دين المستقبل، وبشكل قطعي تردِّد هذه العبارات وما شابهها دون الخوض في أدنى تفاصيل كيف وبماذا ومتى وأين ينتصر الإسلام. وهل هو انتصار للمجتمعات والشعوب المسلمة على غيرها، أم أنه انتصار وتقدم الدول ذات الأكثرية المسلمة على مجتمعات ودول ذات أديان مختلفة؟! أسئلة كُثر حول هذا النوع من التساؤلات التي تطرح نفسها أمام التنظير الإيديولوجي لانتصار الإسلام. على سبيل المثال كتب الدكتور محمد عمارة قبل أكثر من عقد كتاب بعنوان “هل الإسلام هو الحل؟” وهو بلا شك يراجع ويناقش الفكرة الأساسية لدى جماعة الإخوان، حيث إن الجماعة تحمل هذا الشعار دون الإجابة عن تساؤلات أساسية. لا شك أن الإسلام كدين هو عظيم في قيمه ومبادئه ومعانيه ومقاصده، لكن الإشكالية والمعضلة الجوهرية هي في طبيعة الظروف السياسية والمعيشية للمجتمعات المسلمة الحالية والسابقة طوال القرون الماضية حكومةً وشعباً، حيث إن الفترة الذهبية للإسلام العادلة كانت في عصر الرسول الكريم، ومن بعد من الخلفاء الراشدين، ثم انحرف مسار العدالة، وتوالت المحن على المسلمين في عقائدهم وأفكارهم وصولاً إلى أحوالهم وطبيعة معيشتهم. حيث إن الحالة المتخلفة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو امتداد مسار تاريخي طويل.
بلا أدنى شك كانت هناك -ولا زالت- العديد من المساهمات الفكرية والمعرفية والعلمية التي تحاول أن تحرك الماء الساكن داخل المجتمعات، وتحاول الكشف عن بواطن لا ظواهر الأزمة، وتعميق النظر في التشخيص وفحص الخلل الذي أصاب المجتمعات المسلمة أفراداً وجماعات، والدراسات والمحاولات الفكرية لتشخيص هذه العلة مستمرة من داخل المجتمعات المسلمة من قبل المسلمين، وأيضاً من خارجها من قبل الباحثين المهتمين بدراسة الدين والظواهر الدينية والمجتمعات الدينية، وهذا مسار بحثي سوسيولوجي ابتداء من ابن خلدون، ويمتد إلى ماكس فيبر، وصولاً إلى فرع علم الاجتماع الديني بأكمله في اجتهاده لدراسة الدين داخل المجتمع، وتأثيراته المتعددة.
المسلم المستبشر بمستقبل زاهر للإسلام وللمسلمين ينطلق من الوعد الإلهي بالتمكين والنصر دون محاولة الأخذ بأسباب هذا التمكين والانتصار للإسلام، أي أن هذا المتفائل يقفز على جميع الأسباب العقلية والمنطقية التي يأمر الله بها عباده أن يعملوا بها لأجل الحصول على هذا المبتغى. المسلم الحالم بهذه الصورة الوردية للمستقبل هو أحد أعراض هذه الأزمة، وهو أيضاً نتيجة للتنظير الإيديولوجي المانح المعطي للكثير من الأمنيات التي من المستحيل أن تتحقق إلا في مخيلة فارغة من العقل والحكمة والمعرفة. وحال المجتمعات المسلمة أمام مرأى الجميع لا يسر لا القريب ولا البعيد، حروب وفقر وتخلُّف علمي ومعرفي وصناعي، وتبعية اقتصادية كاملة في ظل عالم محتدم بالصراعات السياسية والاستقطاب التي يُعتبر المسلمون فيها طرفاً ضعيفاً؛ حيث نحن على هامش التاريخ وخارج مساره بكل ما تعنيه الكلمة، ولا أدل على هذا إلا مجرد النظر في كل ما حولنا ابتداء من الجزيئات الصغيرة إلى المكونات الكبرى مادة ومحتوى.
لو قدر لنا بعمل لقاء واستفسار بريء حول انتصار الإسلام لإخواننا الحالمين بهذه الشعارات، حول كيف يعمل النظام الاقتصادي في بلدان تفتقد لبعض الموارد الأساسية كالماء والزرع؟ كيف سيواجه الإسلام المنتصر إشكالية الفقر والبطالة والفساد في ظل تفشي هذه الإشكاليات على خارطة المجتمعات المسلمة؟. نجد الكثير من المسلمين يكترث من قلبه وبكل مشاعره لهذه الإشكاليات، لكن عقله ومعرفته لا تعطيه أكثر من مجرد شعارات حول الطريقة العلمية والمهنية لمواجهة هذه الأزمات. جلد الذات هو عزيز على النفس؛ وهو أداة للإفاقة من الأحلام الوردية، وأيضاً من المهم أن نعلم كيف نسأل السؤال السليم لمواجهة هذه الإشكاليات بعد إقرارنا بوجودها.
بُعد المسلمين عن العلوم الاجتماعية والاقتصادية، وانجذابهم للتخصصات المادية (الهندسية والعلمية)؛ جعلت منهم أكثرية متفوقة تهتم وتعلم كيف تشغل الآلة الصناعية (المستوردة) في كثير من الأحيان، ومع جهل كامل لعلوم أساسية وجوهرية لمعرفة النفس البشرية، وطبيعة المجتمعات، حيث ينظر للعلوم الاجتماعية نظرة وضيعة من قبل المسلمين حكومات وشعوباً وقيادات وحتى مفكرين للأسف. تجد شيخاً مصلحاً ومهتماً بحال الإسلام وأهله، لكن يجهل بالحد الأدنى للمعرفة الاجتماعية والإنسانية، وكل ما له علاقة بتحليل الظواهر الاجتماعية. وأقسام العلوم الاجتماعية في البلدان العربية تتحمل جزءًا من إشكالية انكماش هذه العلوم، حيث لا يذهب لهذه الأقسام إلا أصحاب المعدلات الدراسية المنخفضة، رغم أن هذه العلوم تحتاج إلى قدر معين من النباهة العقلية أكثر من علوم الآلة، ولا مزايدة بتخصص على تخصص، لكن العلوم الاجتماعية يجب أن تكون لها أولوية في نشرها وتدريسها وخصوصاً من قبل المهتمين بـالتنظير والتحليل لإشكاليات المجتمعات المسلمة.
نؤمن أن الوعد الإلهي حق، وأن الإسلام سوف ينتصر، وهذا الوعد قائم طوال ١٤٠٠ سنة، فهل تحقق؟ يقال إنه من الصعب أن تعمل بنفس الطريقة وتتوقع حصول نتائج مختلفة، وهذا ما حصل على الأقل خلال المئة عام الماضية بكل وضوح بشكل معروض في الكتابات والوثائق المنشورة.
ختاماً التنظير الأيديولوجي هو مخدر، وزيادة في إمداد فترة الإغماء للعقل، وحجب الرؤية الحقيقة عن ما يحدث على أرض الواقع. من الكتابات التي تحاول فتح أبواب لمعالجة هذه الإشكاليات هي كتابات المرحوم مالك بن نبي في شروط النهضة ووجهة العالم الإسلامي؛ ربما هي من أقرب الكتب التي حاولت أن تلامس جذور إشكاليات المجتمعات المسلمة.
(المصدر: الاسلام اليوم)