التنازل عن الأرض المغتصبة: هدنة؟.. أم سلام؟؟
بقلم د. محمد عمارة
رغم كثرة مشكلات الأمة الإسلامية، وتعدُّد مآسيها – في مرحلة الاستضعاف التي تعيشها الآن – إلا أن لمأساة فلسطين خطرًا خاصًا ومكانًا متميزًا .
فالرباط بين المسجد الأقصى والبقعة التي باركها الله من حوله وبين الحرم الشريف، والقبلة التي تجمع الأمة وتهفو إليها قلوب المؤمنين، ليس مجرّد رباط جغرافي أو تاريخي أو حضاري أو قومي.. وإنما هو “دين” نتعبد الله به.. ثم هو، أيضًا، دنيًا ومصالح إسلامية معتبرة، تجسدت في التاريخ والجغرافيا والحضارة على مر تاريخ الإسلام.. ففي القلب من فلسطين تقوم أولى القبلتين، وثالث الحرمين. الذي لا تُشدُّ الرحالُ إلا إليه وإلى المسجد الحرام، ومسجد الرسول الله صلى الله عليه وسلم .. والقرآن الكريم شاهد على أن الرباط بين هذه البقعة من أرض الإسلام وبين قبلة المسلمين هو “آية” من آيات الله، سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي اَسْرٰى بِعَبْدِه لَيلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَولَه لِنُرِيَه مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الإسراء: آية1.
* وفي تاريخ “الفتح .. والتحرير” الإسلامي.. كانت كل المدن والبلاد المفتوحة، يتسلمها القادة الفاتحون، الذين يعقدون معاهدات الفتح والصلح والأمان مع أهل تلك المدن والبلاد.. إلا القدس، فلقد طلب أهلها عند فتحها سنة 15هـ – 636م – أن يعقد معاهدة صلحها، ويتسلم أمانتها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رغم أن قائد فتحها كان أمين الأمة: أبو عبيدة بن الجراح؟.. فهي “أمانة الفاروق” لدى الأمة الإسلامية..!
* وعلى مر تاريخ الإسلام كانت القدس وفلسطين مِحَكّ الصراعات والتحديات التي غَطّت قرونًا عدة من هذا التاريخ .. وعلى أرضها كان المد والجزر بين الإسلام واعدائه.. من “هرقل” والبيزنطيين.. إلى الصليبيين وأمراء الإقطاع الأوروبيين.. إلى “هولاكو” والتتر.. وحتى الحلف “الصليبي – الصهيوني” في العصر الحديث .
والصراع المعاصر والحالي بين أمتنا وبين الكيان الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين، ليس خاصًا بأهل فلسطين .. فهذا الكيان إنما يُمَثِّل قاعدة للمشروع الاستعماري الغربي، نشأ بروتستانتيًا غربيًا، مستندًا إلى أسطورة بروتستانتية تزعم أن عودة السيد المسيح u، ليحكم الأرضَ ألف عام ، قد اقترب أوانُها، ولابد لحدوثها من جمع اليهود في فلسطين وإقامة دولتهم، وشن حرب إبادة ضد العرب والمسلمين .. ولقد صادف تبلورُ هذه الأسطورة البروتستانتية قيام الغرب بغزوته الاستعمارية الحديثة على ديار الإسلام، وبحثه عن أقلية دينية تمثل بالنسبة له موطئ القدم، والشريك الأصغر في المشروع الاستعماري .. فروجت الأسطورة في الأوساط “الصهيونية الغربية” – الباحثة عن وطن يحميها من الاضطهاد الغربي ، فقام هذا الحلف “الصليبي – الصهيوني” ضد العرب والمسلمين على أرض فلسطين .. ليُمثِّل الطورَ المعاصر لذلك الصراع التاريخي الذي دار بين الإسلام وبين أعدائه على هذه الأرض التي باركها الله .
فالموقف الإسلامي من “الدولة اليهودية” ليس موقفًا من “اليهودية الدين” .. فاليهودية دين من الديانات التي جاء الإسلام مُصَدِّقًا لها، ومُصَحِّحًا لما حرف من عقائدها، ومهيمنًا هيمنة الرسالة الخاتمة عليها .. ومتعايشًا مع المتدينين بها.. وإنما موقف الإسلام من هذه “الدولة” هو موقفهم من “العنصرية” اليهودية، التي تحالفت مع الغرب الاستعماري ضد نهضة الإسلام ويقظة أمته، وأقامت في أرضه المقدِّسة قاعدة استعمارية استيطانية تقتلع المسلمين من ديارهم وتحترف العدوان المنظم لإجهاض النهضة والتقدم في وطن العروبة وعالم الإسلام.. مستغلِّين في ذلك أساطير توراتية حول وعد إلهي بني إسرائيل بأرض ما بين النيل والفرات .
وللإسلام من هذه القضية – قضية اغتصاب الأرض والإخراج من الديار – موقف حسمه القرآن الكريم عندما قال: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِيْنَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَّتَوَلَّهُمْ فَأُولـٰـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الممتحنة: آية9.
فلا موالاةَ ولا سلمَ بين المسلمين وبين من يُخرجونهم من ديارهم ويظاهرون على إخراجهم من الديار – وخاصة إذا كانت هذه الديار “أمانة الفاروق عمر بن الخطاب” التي أودعها لدى الأمة التي جعل الله سنام دينها الجهاد؟!.. وكان الأقصى وما بارك الله حوله في القدس وفلسطين.
وهذا الموقف الإسلامي، من هذه القضية، يتاكّد ويزداد وضوحًا وحسمًا، عندما نعلم أن المسلمين الأوائل، بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يحاربوا مشركي قريش لمجرد شركهم ورفضهم التديّن بالإسلام، فالحرب للإكراه على الدين مرفوضة إسلاميًّا، وهي لا تُثْمر “إيمانًا” وتصديقًا قلبيًا يقينيًا، وإنما تُثْمِر “نفاقًا” بدينه الإسلام.. وإنما حارب المسلمون المشركين؛ لأنهم اعتدوا على المؤمنين، وفتنوهم عن دينهم؛ ولأنهم أخرجوهم من ديارهم.. والذين يتأمّلون آيات القرآن التي جاء فيها “الإذن” بالقتال، بعد الهجرة، و”التحريض” على هذا القتال، يرون كيف كان “الأخراج من الديار” في مقدمة أسباب الإذن بالقتال والتحريض عليه ﴿أُذِنَ لِلَّذِيْنَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِيْنَ أُخْرِجُوْا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ﴾ سورة الحج: الآيتان 39، 40، ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِيْنَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَيُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثـَقِفْتُمُوهُمْ وأَخْرِجُوهُمْ مِن حَيثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ البقرة: 190، 191، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِه وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإخْرَاجُ أَهْلِه مِنْه أكْبَرُ عِندَ اللهِ والْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ﴾ سورة البقرة: آية 217، ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ الأنفال: آية 30، ﴿وَإِنْ كَادُوا لِيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا﴾ الإسراء: آية 76، ﴿أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَومًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَونَهُمْ فَاللهُ اَحَقُّ أَنْ تَخْشَوهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْنَ* قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيدِيْكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُوْرَ قَوْمٍ مُؤْمِنِيْنَ﴾ التوبة: الآيتان 13،14.
فمشروعية الجهاد، ووجوب القتال، ليس لمجرّد المغايرة في الاعتقاد – شركاً أو يهودية – وإنما للإخراج من الديار .
وإذا كان المشركون قد كانوا أشد الناس عداوة للمسلمين .. فلقد شاركهم في ذلك اليهود ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِيْنَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِيْنَ أَشْرَكُوا﴾ المائدة: آية 82 .
وإذا كان مشركوا قريش قد أضافوا إلى إخراجهم المؤمنين من ديارهم وأموالهم محاولتهم أن “يُثْبِتوا” رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن يحبسوه، أو يُثخنوه بالجراح.. فهذا ما تجاوزت فيه دولةُ إسرائيل الحدودَ مع العرب والمسلمين، على امتداد ما يقرب من نصف قرن حتى الآن؟!
وإذا كان مشركوا قريش قد أضافوا إلى إخراج المسلمين من ديارهم “فتنتهم” في الدين، فإن إسرائيل تعلن على الملأ أن دورها في “الشراكة الغربية” لم ينته بسقوط الشيوعية ونظمها وحكوماتها، وإنما دورها القائم والقادم في محاربة اليقظة الإسلامية ، لحساب الغرب، دور كبير، ولا يمكن للغرب أن يستغني عنه .. ورئيس دولتها هو القائل: “إن إسرائيل تصدّت في الماضي لخطر الشيوعية والاتحاد السوفيتي .. وإن لإسرائيل دورًا في المستقبل، بعد زوال الاتحاد السوفييتي، وهو التصدّي لخطر الأصولية الإسلامية على نطاق منطقة الشرق الأوسط كلها(1). إن العالم يجهل الخطرَ الأكبر الذي يُهدِّده، وهو الأصولية الإسلامية.. “(2).
* * *
إذن، فاغتصاب الأرض، والإخراج من الديار، وقتل المسلمين، وفتنتهم عن دينهم، وإجهاض كل محاولاتهم للتقدم والقوة والنهوض، هي جوهر أسباب الصراع مع دولة إسرائيل – كقاعدة لمشروع الهيمنة الغربية .. وأداة للإذلال الاستعماري للمسلمين .. وامتداد سرطاني للحضارة المادية العلمانية، في قلب الأمة الإسلامية، وعلى الأرض المقدّسة التي بارك الله فيها!.. ومن ثم فإن الموقف الإسلامي من هذه الدولة – ومن الذين يظاهرونها – هو الجهاد، فرض عين على كل مسلم ومسلمة ، حتى تحرير الأرض، وفكّ أسر المقدسات .
وقبل هذا التحرير، لا “صلح” ولا “سلام”.. وأقصى من يجوز لمسلم هنا هو “الهدنة” عند الاستضعاف، وحتى يزول هذا الاستضعاف، فيكون الجهاد للتحرير.. ذلك أن “الصلح” إذا عنى “السلم الدائم” كان تكريسًا لاغتصاب الأرض والإخراج من الديار، والفتنة في الدين .
أما إذا كان المراد “بالصلح”: “الهدنة” التي تَفْرِضُها توازنات القُوى، وضرورات السياسة والحرب، وملابسات الصراع، داخليًا ودوليًا.. فذلك جائز إسلاميًا، شريطةَ أن تُقَدَّر الضرورةُ بقدرها، وأن يتَّفق عليها أولوا الأمر – أي كل أهل الذكر والشوكة في الأمة .. وليس فقط الحكومات – وخاصة منها المقيّدة بقيود التبعية لأعداء الأمة – يتّفقون على ذلك بالإجماع أو بالأغلبية . وبشرط السعي الجادّ والحثيث لتسخير الإمكانات اللازمة لتجاوز عوامل هذه الضرورات وأسبابها .
لقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش هدنةً موقوتةً بعشرة أعوام “يتداخل فيها الناس ويأمن بعضهم بعضًا” – وسمّى المؤرخون هذه “الهدنة”: “صلح الحديبية” – لكنها لم تكن “سلامًا دائمًا” مع الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم وفتنواهم في الدين .. ولقد كرّس المسلمون جهدهم يومئذ في نشر الإسلام وتقوية الدعوة والدولة ، حتى جاء يوم الفتح المبين”!..
وفي “الهدنة” ترد “الترتيبات”، التي يجب أن لا يتكون عوامل لتكريس الواقع الظالم.. إذ لابد من دفع المواقع والملابسات نحو إزالة الضرورات التي فرضت مهادنة المغتصب للأرض، حتى يأذن الله بالجهاد الذي نسترد به الحق السليب..
فلا سلم ولا موالاة لمغتصبي أرض الإسلام ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عِنِ الَّذِيْنَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوهُمْ وَمَنْ يَّتَوَلَّهُمْ فَأُوْلـٰـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الممتحنة: آية9. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ آل عمران: آية 118.
هذا هو موقفنا من قضية الإسلام في فلسطين – وهي قضية فلسطين الإسلامية – التي تحدث عنها روّاد الصحوة الإسلامية فقالوا: “إن فلسطين وطن لكل مسلم، باعتبارها من أرض الإسلام، وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقرّ المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. ففلسطين دين للمسلمين لا تهدأ ثائرتهم حتى استعادة حقهم فيه..”(3).
الحواشي :
1- محمد سيد أحمد – صحيفة (الأهالي) القاهرية – في 8/4/1992م.
2- من خطابه في البرلمان البولندي بتاريخ 29/5/1992م.
3- (مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنّا) – رسالة المؤتمر الخامس – ص 184. طبعة دار الشهاب . القاهرة .
(المصدر: مجلة الداعي الشهرية دار العلوم ديوبوند)