التمكين والشهود الحضاري الإسلامي
“التضرع إلى الله تعالى والدعاء شرطٌ للنصر والتمكين“
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
كان رسول الله (ﷺ) كثير التَّضرُّع والدُّعاء والاستعانة بالله، وخصوصاً في مغازيه، وعندما اشتدَّ الكرب على المسلمين أكثر ممَّا سبق حتَّى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا زلزالاً شديداً، فما كان من المسلمين إلا أن توجَّهوا إلى الرَّسول (ﷺ) وقالوا: يا رسول الله! هل من شيءٍ نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، فقال: «نعم، اللَّهمَّ!! استر عوراتنا وآمن روعاتنا» [أحمد (3/3)، والبزار (3119)، ومجمع الزوائد (10/136)].
وجاء في الصَّحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: دعا رسول الله (ﷺ) على الأحزاب، فقال: «اللَّهمَّ! منزلَ الكتاب، سريعَ الحساب، هازم الأحزاب، اللَّهمَّ! اهزمهم، وزلزلهم». [البخاري (2933)، ومسلم (1742 /20 و21)].
فاستجاب الله – سبحانه – دعاء نبيِّه (ﷺ) فأقبلت بشائر الفرج، فقد صرفهم الله بحوله وقوَّته، وزلزل أبدانهم وقلوبهم، وشتِّت جمعهم بالخلاف، ثمَّ أرسل عليهم الرِّيح الباردة الشَّديدة، وألقى الرُّعب في قلوبهم، وأنزل جنوداً من عنده سبحانه.
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9].
قال القرطبيُّ – رحمه الله -: وكانت هذه الرِّيح معجزةً للنَّبيِّ (ﷺ)؛ لأنَّ النَّبيَّ (ﷺ)، والمسلمين كانوا قريباً منها، لم يكن بينهم وبينها إلا عرض الخندق، وكانوا في عافيةٍ منها، ولا خبر عندهم بها…، بعث الله عليهم الملائكة، فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب الفساطيط، وأطفأت النِّيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيول بعضُها في بعضٍ، وأرسل الله عليهم الرُّعب، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر؛ حتَّى كان سيِّد كلِّ خباءٍ يقول: يا بني فلان! هلمَّ إليَّ، فإذا اجتمعوا؛ قال لهم: النَّجاءَ، النَّجاءَ! لما بعث الله عليهم الرُّعب (القرطبي، 1965، ص 14/144).
وحرَص الرَّسول (ﷺ) أن يؤكِّـد لصحبـه، ثمَّ للمسلمين في الأرض: أنَّ هذه الأحزاب الَّتي تجاوزت عشرة الاف مقاتلٍ لم تُهزم بالقتال من المسلمين – رغم تضحياتهم – ولم تهزم بعبقرية المواجهة، إنَّما هُزمت بالله وحده ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ [الأحزاب: 9].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله (ﷺ) كان يقول: «لا إله إلا الله وحدَه، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده، فلا شيءَ بعدَه». [البخاري (4114)، ومسلم (2724)].
ودعاء رسول الله (ﷺ) ربَّه، واعتماده عليه وحدَه، لا يتناقض أبداً مع التماس الأسباب البشريَّة للنَّصر، فقد تعامل (ﷺ) في هذه الغزوة مع سنَّة الأخذ بالأسباب، فبذل جهده لتفريق الأحزاب، وفك الحصَار، وغير ذلك من الأمور الَّتي ذكرناها (الغضبان، د.ت، ص 503).
إنَّ رسول الله (ﷺ) يعلِّمنا سنَّة الأخذ بالأسباب، وضرورة الالتجاء إلى الله، وإخلاص العبوديَّة له؛ لأنَّه لا تجدي وسائل القوَّة كلُّها إذا لم تتوفر وسيلةُ التَّضرع إلى الله، والإكثار من الإقبال عليه بالدُّعاء، والاستغاثة، فقد كان الدُّعاء والتَّضرُّع إلى الله من الأعمال المتكرِّرة الدَّائمة الَّتي فزع إليها رسولُ الله (ﷺ) في حياته كلِّها (البوطي، 1991، ص 222).
المراجع:
- البوطي، محمد سعيد رمضان، (1991)، فقه السيرة،الطَّبعة الحادية عشرة، 1991 م، دار الفكر، دمشق – سورية.
- الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 209-213.
- القرطبي، أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري، (1965)، تفسير القرطبي، دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت – لبنان، 1965 م.
- الغضبان، منير، فقه السِّيرة النَّبويَّة، معهد البحوث العلميَّة، وإحياء التراث – مكَّة المكرَّمة.