التمكين للعلماء هو السبيل لتجنب الانفلات في الفتاوى
بقلم أ. د. أحمد الريسوني
إن إمام المسجد وخطيب الجمعة ينقل فقط الفتاوى، يعرف ماذا قال الشيخ فلان والفقيه الفلاني في المذهب الفلاني وينقلها، لكن الفقيه المفتي لابد أن يكون له نوع من التصرف والتنزيل، فإذا كانت له هذه القدرة فهو فقيه، أما إذا كانت له قدرة أكبر وهي أن يستنبط الحكم مباشرة من أدلته وبنفسه فهذا فقيه مجتهد، أما الذي يسأل عمن جاء مسبوقا في صلاته، وعمن نسي فصلى بدون وضوء، وعمن مرض بكذا هل يتيمم؟، هذه الأسئلة يستطيع أي واحد ملم بنبذة من الأحكام الشرعية أن ينقلها كما قرأها في الكتب وفهمها.
ما هو مفهوم الفقيه؟
هناك خلط بين مفهوم الفقيه في المفهوم الاصطلاحي والفقيه عرفيا، فالعامة تطلق اسم الفقيه على من يؤمهم في الصلاة ومن يخطب فيهم، في حين أن الداعية والواعظ غير الفقيه، والباحث والمفكر ليس هو الفقيه، فالفقيه متخصص في الفقه وأصوله وأدلته، متبحر فيها ومحيط بمصادرها ومتمكن من الإفتاء بناء عليها، لأن الداعية الجديد أو القديم قد تكون له قدرة بلاغية وقدرة بيانية وتبليغية، لكن ليست له قدرة على إنتاج الأحكام الفقهية وتحريرها وتنزيلها، فلذلك تسمية الدعاة فقهاء هي تسمية عامية.
لكن ألا يمكن لهؤلاء الدعاة كما لإمام المسجد وخطيب الجمعة أن يقدم بعض الفتاوى في المسائل العبادية البحتة؟
هو فقط ينقل الفتاوى، يعرف ماذا قال الشيخ فلان والفقيه الفلاني في المذهب الفلاني وينقلها، لكن الفقيه المفتي لابد أن يكون له نوع من التصرف والتنزيل، فإذا كانت له هذه القدرة فهو فقيه، أما إذا كانت له قدرة أكبر وهي أن يستنبط الحكم مباشرة من أدلته وبنفسه فهذا فقيه مجتهد، أما الذي يسأل عمن جاء مسبوقا في صلاته، وعمن نسي فصلى بدون وضوء، وعمن مرض بكذا هل يتيمم؟، هذه الأسئلة يستطيع أي واحد ملم بنبذة من الأحكام الشرعية أن ينقلها كما قرأها في الكتب وفهمها. فهذه درجات تعليمية، هذا لا يسمى فقيها إلا في الاستعمال العرفي.
ما هو دور الفقيه ووظيفته اليوم في الواقع؟
وظيفة الفقيه اليوم هي وظيفته في كل يوم، في البداية كان العالم والفقيه شيئا واحد، إذا قلنا الصحابي الفلاني عالم فهو فقيه وإذا قلنا فقيه فهو عالم، واستمر هذا الوضع إلى قرن أو قرنين من الزمن، ثم ظهرت التخصصات فصار هذا أصوليا وهذا محدثا وهذا مفسرا، فلا يوصف أحد بالوصف الآخر إلا إذا كان له تمكن فيه. فإذن صار الفقهاء هم الذين يمارسون استنباط الأحكام وبيانها للناس وتنزيلها على الوقائع. فوظيفة الفقيه بالمعنى التخصصي الدقيق هي أن يستنبط الأحكام إن كان مجتهدا من أدلتها، وإن كان مقلدا أو يتصرف في نطاق مذهبي معين فهو يستخرج تلك الأحكام المقررة عند الفقهاء وينزلها ويهذبها ويفصلها وفق النوازل، لكن دون أن يكون صاحب الفضل الأول في استنباطها. إذن الفقيه عموما إما أن يكون مجتهدا ينتج الأحكام الشرعية من أصولها ومنابعها الأولى وإما أن يكون واسطة، لكن يقوم بعملية الملاءمة حتى يسمى مفتيا، أي يلائم بين الحكم الشرعي كما قرره الفقهاء قبله أو في زمانه ثم يقدمه للمستفتي حسب نازلته وظروفه؛ دون أن يكون هو منتج هذا الحكم، ودون أن يخرج عن أصول المذهب الذي يفتي من خلاله.
هل في الأمة كفاية من الفقهاء الربانيين أم أن هذه النوعية نادرة. وما السبيل لسد حاجة الأمة من هذه النوعية؟
هذه النوعية قليلة وقريبة من حد الندرة، وبطبيعة الحال فمن فروض الكفاية على الأمة وجامعاتها وأولي الأمر فيها أن يعملوا ببرامج ومخططات محددة لإيجاد هذه النوعية من العلماء الربانيين. وبالمناسبة فهناك سوء فهم لهذا اللفظ، فحينما يوصف عالم أو فقيه بأنه رباني يفهمون أنه هو الذي يكثر من العبادات والذكر والمجاهدة، لكن الرباني كما هو مبين عن العلماء والمفسرين هو الذي ينهج نهج الرب ويسلك سبيل الرب في معالجة الأمور، والرب معناها الذي يرعى ويدبر ويسود ويحل المشاكل ويقضي مصالح العباد، وأن يجعل من شرع الله تعالى وسيلة لرحمة الله وتحقيق مصالحهم.
كان للفقيه في الحضارة الإسلامية دور مركزي ومحوري، في حين أن الدولة الحديثة همشت هذا الدور. كيف يمكن أن نرسم العلاقة بين الفقيه والدولة؟
هذا يقتضي من الدول أن تراجع هذه القضية، فإذا أتاحت للفقه أن يأخذ مكانه ولو بالتدريج فسيعود الفقهاء إلى مكانتهم المحورية، أنا أتذكر أن بعض الدول الإسلامية لما أعلنت منذ عشر سنوات عن تطبيق المرجعية الإسلامية؛ هب كثير من القانونيين الذين كانوا قضاة ومحامين وأساتذة في الحقوق وتحولوا إلى فقهاء، وبدل أن ينكبوا على المدونات القانونية بالعربية والإنجليزية، انكبوا على كتب الفقه والمدونات الفقهية، إذن قرار الدولة ومرجعية الدولة في القضاء والحكم والتشريع والاقتصاد هو المحدد والنقطة المحورية التي تنبني عليها مكانة الفقيه. اليوم مكانة الفقيه توجد في المجتمع بالدرجة الأولى، أما مكانته في الدولة فهي أنه عنصر مساعد في الدولة بحسب حاجتها واعتمادها على الأداة الشرعية والدينية في تدبير الأمور. ففي جميع الأحوال تبقى وظيفته ثانوية إلا في بعض الاستثناءات القليلة.
يرى الكثيرون أن الفقيه اليوم لا يواكب عصره ولا يتفاعل مع المستجدات. كيف تنظر إلى هذا الأمر؟
هناك عزل وإبعاد للفقه والفقهاء عن مرجعية الدولة، وهذا يؤدي تلقائيا إلى غياب الفقيه عن ميادين الحياة، رغم ذلك فنحن نطالب الفقيه بأن يفتي في الاقتصاد وفي القوانين الدولية وحقوق الإنسان وكل المجالات المستجدة، لأنه صاحب رسالة وعليه أن يقتحم مختلف المجالات، فالفقيه عندما يكون في القضاء والإعلام والشركات والبرلمان والبنوك مفتيا وموجها وشريكا حينئذ سيكون تلقائيا عارفا بعصره، فلذلك نجد أن الصحافي اليوم يعرف قضايا عصره بأضعاف المرات التي يعرفها الإمام الأكبر والشيخ والعلامة وسماحة كذا..لأن مهنته تجعله كذلك، وقديما ومنذ مائة سنة تقريبا ذكر الفقيه العلامة المغربي محمد الحجوي الثعالبي أن عملية الاجتهاد مرتبطة بوضعية المجتمع، فحينما يكون المجتمع نفسه متحركا وفيه حرية ومبادرة، والفقيه مندمج في هذا الواقع هذا يهيء للاجتهاد، أما إذا انكمش المجتمع أو أبعد الفقيه فهذا سيؤدي إلى تخلف الفقه وبعده.
الفتوى هي بيان الحكم الشرعي لحالة معينة أو لشخص معين أو نازلة معينة. وهي قد تحتاج إلى اجتهاد، إذا كانت الحالة المستفتَى بشأنها جديدةً أو كان فيها عناصرُ جديدة. وقد تكون الفتوى مجرد بيان وتنزيل تطبيقي للحكم الشرعي المقرَّر سلفاً عند العلماء. وفي جميع الأحوال فإن الفتوى لا تكون إلا من العلماء الفقهاء، العارفين بحقيقة الواقعة والحالة التي يفتون فيها.
(المصدر: إسلام أونلاين)