مقالاتمقالات مختارة

التمكين بين الخلافة والوراثة والاتباع

بقلم د. أسعد بن أحمد السعود

ولقد انتهينا إلى هذا العنوان بعدما قطعنا شوطاً في الاستدلال على تمكين دين أمة محمد على الأرض، وإلى زمن مقصور عند رب السماوات والأرض ما دامت هذه السماوات وهذه الأرض، وهذا الاستدلال قادنا إلى أن تمكين الدين هو أعلى مراتب الاصطفاء على وجه الأرض، وخلال التاريخ الإنساني كله.

والعنوان الذي نريد البحث في موضوعه كما أشرنا إليه، في موضوع التمكين التي ورد بآيات الله في القرآن العظيم، وأن نجتهد في البحث في مفرداته اللغوية والشرعية، وأن نتساءل ونحاول أن نجد الإجابة عن التساؤل: هل مفردات العنوان التمكين والخلافة والوراثة والاتباع، تشكل مفردات عشوائية أو استنباطية أو مستقاة من منبعها؟ وما الصلة وما الروابط بينها؟ وهل الصلة بينها شرعية أم ابتداعية؟ وخصوصاً إذا قلنا أن الخلافة والوراثة والاتباع حاصل تحصيل لما سبقها بتعبيرها اللغوي المباشر، فمثلاً يخطر لنا الآن خاطر السؤال التالي:

هل الخلافة أو الوراثة أو الاتباع هم شكل لباس للتمكين أي (شكل قميص) أم ماذا؟ وإذا كان أي منهم يشكل لباساً، فما هو هذا اللباس لباس دنيوي مادي أم لباس تقوى غير مادي؟ وهكذا.

وللبداية عن الحديث نرجع إلى آيات الله، ونبحث عن مفردات العنوان اللغوية الحرفية فيها، ونجمعها ونضعها في إطار السياق ذاته الذي نتبعه، ومن أجل ذلك علينا العودة إلى السورة (الأم) في مقالتنا التي هي النبع المصدر لهذه المفردات، ألا وهي سورة الأعراف.

وسورة الأعراف: المباركة توفرت بها كل مفردات عنوان البحث هذا ونبدأ بذكرها بتسلسلها بالترتيب بداية.

1- ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾ [الأعراف: 3].

2- ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 10].

3- ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا ﴾ [الأعراف: 43].

4- ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾ [الأعراف: 69].

5- ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 74].

6- ﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا ﴾ [الأعراف: 100].

7- ﴿ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ ﴾ [الأعراف: 128].

8- ﴿ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 129].

9- ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ﴾ [الأعراف: 137].

10- ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142].

11- ﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾ [الأعراف: 150].

12- ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ﴾ [الأعراف: 157].

13- ﴿ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ﴾ [الأعراف: 157].

14- ﴿ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].

15- ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ﴾  [الأعراف: 169].

16- ﴿ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا ﴾ [الأعراف: 169].

17- ﴿ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [الأعراف: 175].

18-﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ [الأعراف: 176].

19- ﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ ﴾ [الأعراف: 193].

20- ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ﴾ [الأعراف: 203].

التصنيف:

يتبين لنا من خلال كل المفردات اللغوية التي حصرناها وقد ورد ذكرها في الآيات الكريمات أنها عمت غالبية موضوعات سورة الأعراف، وأنها ذات طابع عام، وانتفى منه الخاص بمعنى أنه لا توجد أحكام خاصية تتعلق بشريعة معينة تخص حقوق مادية خاصة لإنسان ما.

وأن الإنسان كفرد غاب كلية عن أحداث ما تعنيه المفردات التي نهتم بذكرها، وأن الوراثة كانت بأمر مباشر من الله وخصت بالذكر الأرض + الكتاب المكتوب، وأن الخلافة خصت بالذكر نشوء أمة جديدة أو قوم بدل أمة أو قوم كانوا وهم غير، ولا يرتبط بينهم رابط.

وأن الوراثة والخلافة لا يجتمعان في هذه الحالة.

وأن الاتباع يجتمع فيه العام والخاص، ولا تجتمع فيه الوراثة ولا الخلافة.

• وأن الوراثة زائلة وغير دائمة.

• وأن الخلافة زائلة وغير دائمة.

• وأن الاتباع دائم وغير زائل.

المعاني:

1- تبع: تعني مشي خلفه أو مرّ به فمضى معه وتبعه لحقه وتابعه على الأمر، وتبع بعضهم بعضاً وتتابعت الأحداث جاء بعضها إثر بعض ولاحظنا المعاني حيث افترقت إلى المكان والمادة والزمان ولم يحدد شيء فيها. (المصباح المنير).

2- خلف: خلف فم الصائم تغيرت ريحه (إما من الصوم أو المرض).

وخلف الطعام تغيرت ريحه أو طعمه، وخلفت جئت بعده وأخلف الرجل وعده وإذا تخلف الرجل عن القوم قعد عنهم ولم يذهب معهم، وتخالف القوم واختلفوا إذا ذهب كل واحد خلاف ما ذهب إليه الآخر.

3- ورث: ورث مال أبيه، وهو يرثه وراثة، والمال موروث والأب موروث أيضاً ورث الرجل فلاناً مالاً توريثاً إذا أدخل على ورثته من ليس منهم فجعل له نصيباً.

الأمثلة والمعاني من آيات الله:

1 – تَبِعَ: وبالنظر إلى معان الاتباع المتعددة والمتشعبة والتي لا يمكن حصرها، فإنا نقصر خصوصية الاتباع بما يفيد موضوعنا بشكل مباشر، بحيث يمكن القول أن الذي يبرر الاتباع بحسب الوازع الديني للأمة وللفرد معاً هو الحق وليس الباطل، فكل ما هو حق هو يتبع وهذا يحصر المعنى ومثله في آيات الله في القرآن العظيم، وإن أول من يتبع هو هدى الله وهذا الهدى قال عنه رب العزة في البقرة آية (2) ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾، وقال تعالى أيضاً في البقرة آية (38) ﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾، وإن الذي يأتي بالمرتبة الثانية في الاتباع هو الرسول، والنبي الذي تقع على كاهله حمل أمانة الهدى وإيصالها وشرحها لبقية الناس قال تعالى في آل عمران آية (31) ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾.

وثالث من يأتي بالاتباع هم الراسخون في العلم من المؤمنين حيث يختصهم الله بذكره الكريم في آل عمران آية (7) ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾، ويقول تعالى في آية (68) من آل عمران ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.

وبعد إلى ماذا يفضي هذا الاتباع وإلى أي مدى هو باق ذلك ما جاء في قول الله عز وجل في سورة آل عمران آية 53 – 55 ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾.

إذاً هذا هو القول الحق الساطع ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 55] وهذا هو التمكين في الحياة الدنيا، فمن هؤلاء الذين اتبعوا عيسى وآمنوا به، وجعلهم الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، أولئك هم الذين جاء ذكرهم بآيات الله ذكراً صريحاً بيناً وخاصة، لما أخبرنا القصص الحق من القرآن العظيم أن تلك الطائفة من بني إسرائيل والتي نصرت عيسى بن مريم وهم الحواريون وهم على قلتهم، فإن من هؤلاء من خانة وأعان على محاولة قتله، ومنهم من قتل بعد رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، ومنهم من ظل مختفياً هارباً لا يأمن على نفسه إلى أن توفي، وضاع ما جاء وأنزل على عيسى من الإنجيل، وحرف فيما بعد عندما حاول عدد ممن ادعى أنه من أنصار عيسى كتابته، ولم يقف الأمر عند التحريف كما ذكر بل امتد التحريف والتزييف إلى شخص النبي عيسى عليه السلام، وقد اعتبروه ابن الله وأشركوا به الله وبوالدته مريم عليها السلام، وهكذا وقد قال تعالى في سورة آل عمران آية (79) ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾.

وجاء في الآية (84) من آل عمران تكملة العهد والشهادة للذين نصروا الله من أمة محمد ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.

ونعود إلى سورة الصف ونذكر الآية (14) مرة أخرى وقول الله عز وجل ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾.

فالذين اتبعوا عيسى ونصروه: هم أولئك القلة كما ذكرتهم آيات الله، وكذلك هم أولئك الذين اتبعوه من أمة محمد، واتبعوا النبي الأمي وآمنوا بموسى وبما نزل عليه، وكل الأنبياء وظلوا كذلك ظاهرين إلى هذه الساعة وإلى قيام الساعة.

ولتوضيح ولتبيان اتباع عيسى كيف تم،علينا الرجوع إلى قول عيسى عليه السلام عندما أبلغ الملأ من بني إسرائيل بنبوته، وهو لا زال في المهد في سورة مريم آية 30 – 31 قال تعالى: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ وكذلك أبلغهم بالحدود كما جاءت سورة آل عمران آية 50 – 51 قال تعالى: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾.

فهل اتبع بنو إسرائيل، وغيرهم من الأقوام والأمم، الذين يزعمون أنهم نصارى كل ما قاله لهم عيسى بن مريم؟

هل: اتبعوه وآمنوا به على أنه عبدالله.

هل: اتبعوه وآمنوا به على أنه نبي الله.

هل: اتبعوا الله وآمنوا به على أنه الواحد الأحد لا شريك له.

هل: اتبعوا ما جاءهم به في الإنجيل، وحرموا ما حرم عليهم وحللوا ما حلل لهم.

هل: اتبعوا عيسى كما علمهم الصلاة والزكاة.

إن من يدعون على أنهم نصارى وهم يشركون بالله، وهم يملكون القوة والغلبة، إنما هم يستعلون في الأرض كما استعلى فرعون من قبل، وإن ما نراه ونعيشه ليس هو التمكين وليسوا هم بالظاهرين أبداً، وقد خاب من كفر وإن الذين ظهروا وأمكن الله دينه هم كما عرفناهم وتعرفنا عليهم والله أعلم.

2-خَلُفَ:

إن المحور الرئيسي الذي تتواجد حوله معيشة الإنسان على ظهر الأرض في الحياة الدنيا هو كما جاء في قول الله جل علاه في سورة البقرة وابتدأ به علة الوجود كله آية (30) ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ وقد أطلق الله اسم خليف وخليفة على الإنسان الذي يعيش بما مكن له من عوامل تمكين الحياة على الأرض كما مر معنا وهي لهذا الخليفة وحده وليس لسواه على الإطلاق، وذلك بشرط إلهي واحد قرنه تعالى بعلة وجود الخلافة وهو الإصلاح وعدم الإفساد وسواء إن وجد الإصلاح سوف تنتفي اسم الخليفة بالاسم والمعنى وإن وجد افساد سوف ينتفي أيضاً اسم الخليفة بالاسم والمعنى.

وذلك لقول الله عز وجل في البقرة آية (36) ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾.

فالإصلاح ومن يتبع سبيل الشيطان هما أعداء ولا محالة.

والصحيح كذلك هو الذي يصلح ويتبع سبيل الاصلاح، يمكن الله له وله مستقراً، ولا خوف عليه ولا يحزن أبداً في الحياة الدنيا والآخرة، وأما الذي يفسد، فهو يتمتع بشهوات الدنيا إلى حين مقدر فقط عند الله ثم مصيره جهنم وبئس المصير.

وهكذا كان حال هذا الإنسان، فهو خليفة وخلاف بكل ما أعطاه الله من صفات وقدرات، وهو لا يمكن ولا بأي حال من الأحوال أن يكون إلهاً أو آلهة، ولا يمكن بما أعطانا من خيال للتفكر كخلق من خلقه، أن نتصور أو نعقل أن إلهاً يعيش معنا يأكل ويشرب ويتمتع مثلما نحن على بساط الأرض ويتعرض للجوع والخوف وللفقر وللقتل وللحرق والمرض أبداً بأي حال من أحوال الأرض، وإلاّ إذا كان إلهاً حقاً فليدرأ عن نفسه كل ذلك بل لماذا يجبر أن يكون بيننا أساسياً!!؟

وعلى هذا فإن الخلاف هو الأساس، فالإنسان هو خلاف الإله لذلك قال الله عن الإنسان أنه خليفة، وهذه قاعدة فكر وتفكر ابتداءً، وقد وهبنا عز وجل هذه القاعدة لأنه علم آدم مسبقاً بالذي سوف يلقاه أبناؤه، وقد علمه أنه سيكون من أبنائه من سيخالفه، ويقول عن نفسه وهو إنسان على سطح الأرض أنه إله، وهذه هي سخرية الإنسان من نفسه، والدلائل التي ساقها الله عز وجل في آيات القرآن عن هذا العلم المسبق، وعن هذه السخرية من النفس لذاتها، ما يكفي للتفكر أساساً أولاً، وكخليفة ثانياً قال تعالى في صورة المؤمنين آية (91) ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾.

ولنتأمل ولنتفكر كذلك في هذا القول الموجز عن كل ما قلناه وما سوف نقول عنه في الآية (62) من سورة النمل قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾.

ومثلما اتبعنا في الكلمة السابقة، فإننا ننهج ذات النهج لأنه هو المراد ونقول أن ما يتوافق مع الحق سوف نتعرض له، أي ما سوف ينتظم قولاً وفعلاً مع علة جعل الإنسان خليفة، ونبدأ المثال بخلافة الإنسان فردًا.

الإنسان الفرد خليفة.

ومن أجل غاية العبودية لله الخالق أن خلق الأرض، وما يمكّن للإنسان العيش المقدر عليها قالت الملائكة في الآية (30) من البقرة قال تعالى: ﴿ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ﴾.

ومن أين جاء علم الملائكة بهذا البشر، الذي سوف يعم الأرض بالفساد وسفك الدماء، ولا يقيمها بطاعة وعبودية الخالق؟ ذلك هو علم الله الذي علمه لعباده الملائكة مسبقاً، وهم المكلفون مسبقاً بمتابعة حياة الإنسان صغيرها وكبيرها على سطح الأرض ويشهدون على ذلك، عندما تبدأ الحياة الدنيا بهبوط آدم وزوجه إلى الأرض.

ولما كانت حياة الإنسان الفرد في الحياة الدنيا محدودة ومقدرة، ولما كان هذا الإنسان كما أنه يكون عابداً أو فاسداً، فإن حياة هذا أو ذلك سوف تنتهي بزمنها وعمرها، ولكن موت هذا الإنسان وانتهاء حياته، سوف لن يترك فراغاً في الحياة، وكذلك لن ينتهي عقبه، وسوف لن تنتهي الحياة طالما هي مستمرة بأمر الله إلى أجل يوم القيامة، وإنما هناك من يحيا بالقرب من مكانه، وهناك من يولد وهناك من سيعيش ويكمل إلى أجله، وهكذا هنا إنسان وهناك إنسان، هذا صغير وذاك كبير هذا سلطان وهذا وزير وذاك من يبيع وهذا من يشتري، كل واحد يأخذ دوره في الحياة والحياة دائرة ومستمرة لا انقطاع ولا توقف واليوم سلطان قد مات، وغداً يقف سلطان مكانه وهناك تاجر كبير وهنا تاجر صغير، اليوم طفل مات وبعده ولد طفل، وكأن الناس كل الناس منتشرون على سطح الأرض بتوازن عددي، قد أحكمه الخالق وأبدع في إحكامه.

وعن هذا التوازن في علة الوجود فقد استهل عز وجل حكمته في خلقه في سورة الأنعام آية (133) قال تعالى: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾.

وهكذا هو تناوب البشر بعضهم يخلف بعض على سطح هذه الأرض، في حياتهم الدنيا بالرغم من درجات فضل الله عليهم، هذا مؤمن وهذا فاسد وهذا غني وهذا فقير، وهذا سلطان وهذا محكوم، قال تعالى في الأنعام آية (169) ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

وكما قلنا إن الحق معيار وميزان علة وجود الإنسان خليفة، وإن الحق هو فضل الله على الإنسان وإن فضل الإنسان يرتفع درجة وينخفض درجة، بما يحقق من قرب وتقرب بالحق، وهو عبودية وشكر الله على تفضله، وإن هذه الدرجات التي ارتفع بها الإنسان بميزان الحق، تحقق له علة الخلافة على الأرض، وفي الوجود هو يختلف أيضاً عمن سواه، وعمن يعيش معه وعمن سبقه وعمن سوف يلحق به، إنهم كلهم خلفاء وخلائف، وكذلك سوف يكونون خلفاء وخلائف، إذا ما اجتمعوا بقوم أو أمة فإنهم كلهم سيخلفون بعضهم بعضاً، وسوف يختلفون عن بعضهم بعضاً وإن الرفع هنا هو درجة الاصطفاء.

القوم الأمة الخليفة:

قال تعالى في سورة الأعراف آية (69): ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.

إن هذه الآية الكريمة فتحت لنا خطاباً جديداً، عن الخلافة لم يكن مذكورًا من قبل.

ولقد عرفنا من الفقرة السابقة أن الخطاب كان عاماً موجهاً من الخالق عز وجل للإنسان على الأرض عامة، وبشكله المباشر بين العبد وربه، ولكن في هذه الآية (69) اختلف الخطاب كلية، حيث جاء من بشر إلى بشر: أي من إنسان إلى إنسان وليس ذلك فحسب: بل أصبح الخطاب موجهاً من إنسان فرد واحد إلى مجموعة أو قوم محددين زماناً ومكاناً، عدة وعدداً ونعود إليها لنعرف كيف وما جاء فيها من خطاب جديد:

1- يحتوي هذا الخطاب على (ذكر) جاء من الله عز وجل وهو (الحق).

2- يحتوي هذا الخطاب على تذكير القوم أنهم خلفاء الأرض من بعد الطوفان (خلفاء قوم نوح).

3- يحتوي هذا الخطاب على ذكر (الابتلاء) وهو ﴿ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ﴾ [الأعراف: 69].

والأمر الأول: الذي يعنينا هو أن قوماً كانوا خلفاء قوم، وقوماً كفروا بالحق لما جاءهم فأماتهم الله بالغرق (الطوفان) وخلفهم قوم مؤمنين (نوح وبعضاً من أهله وقلة من آمن به) ثم بعد موت نوح عليه السلام، كفر هؤلاء القوم ومن نسلهم وقد اجتمعوا على كفرهم وضلالتهم، حتى جاءهم من يذكرهم (هود عليه السلام) باستخلافهم وهذا (أول درجات الفضل) والاقتراب من الحق ثم زادهم بأجسادهم قوة هائلة، وهذا هو الابتلاء ليتقربوا من الحق أكثر أو يبتعدوا، والآية الكريمة ذكرت أن مجرد وجود نبي في هؤلاء القوم فهو الدليل القاطع على ابتعادهم عن الحق، بل على كفرهم الشديد. وهو إنذار على بداية بدء استخلاف جديد، مؤمنين يخلفون كافرين، فهم يختلفون عنهم إذا اقتربوا من الحق درجات وآمنوا بالرسول، وما جاء به وأولئك ابتعدوا عن الحق بإنكارهم الرسول وما جاء به.

وأما الأمر الثاني: هو أن هذا الاستخلاف لم يحدد بالزمان والمكان وإنما ارتبط بالاستجابة والتصديق أو الكفر والإنكار طال زمانهما أم قصر.

وأما الأمر الثالث: وهو أن استخلاف قوم لقوم كان متعاقباً زائلاً ولم يكن التمكين له أي إشارة.

وإن محتوى هذه الآية ينتقل بنا إلى تناوب الاستخلاف في سورة الأعراف، إلى عهد موسى عليه السلام، وقصة الحق مع بني إسرائيل وقوم فرعون.

جاء في الآية (129) من السورة قال تعالى: ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾.

وخطاب التذكير: قد أضيف عليه دعم جديد إضافي حيث أن موسى عليه السلام ينبئ قومه بأن الاستخلاف سوف يعود إليهم، إذا ما صدقوه وآمنوا به خاصة بعدما أصبحوا مستضعفين عندما فقدوا خلافتهم الأولى، التي نالوها في عهد يوسف عليه السلام وذلك بابتعادهم عن دين يوسف، الذي مكن الله له أرض مصر، وإن هذا الفضل الذي هو إيمانهم برسولهم موسى وما أنزل إليه سوف يرافقه ابتلاء، وهو هلاك عدوهم الذي كان يستضعفهم أمام أعينهم وفي حاضرهم، وهذه النبوءة التي بشر بها موسى عليه السلام قومه، بدأنا نلمح بداية عهد جديد في موضوع استخلاف قوم لقوم، وكأن الاستخلاف هذا أصبح يلفظ مبررات وجوده بأمر إلهي، بعدما قطعت البشرية على وجه الأرض طورًا جديداً غير الذي مضى، وهذا العهد الذي نستوضحه من الآيات الكريمة، نلاحظ أن الاستخلاف بدأ يتناوب داخل القوم ذاته وذلك بتناوب نزول الرسل والأنبياء تباعاً في بني إسرائيل ذاتهم، وبه يكون الاستخلاف لأمة من قوم قد سبقها قد بدأ.

قال تعالى في الأعراف آية (168) ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.

والآية التي تتبعها (169) ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى ﴾.

ومن داخل بني إسرائيل تأتي امة تأخذ بالكتاب الذي نزل على موسى ثم تخلفها أمة تنكر بعضه ثم أمة تذكره كله وهكذا.

درس وموعظة في الاستخلاف.

وقد ضرب الله بهذا المثل، ليكون درساً وموعظة لكل إنسان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، درس يعم كل حاكم أو سلطان يؤمن بالله، ويعم كذلك كل محكوم من أهل الرعية يخاف الله ولا يخاف فيه لومة لائم، وباختصار القول: إن هذا المثل ضرب لتتعظ به أمة محمد وخاصة منها تلك الطائفة المصطفاة، وأما ما سبقها فقد انتهى كل شيء من أمرها، وأصبح في علم الغيب وبين يدي المولى عز وجل، وكما قلنا أن هذا المثل هو ما ورد في ذكر الله القرآن العظيم، يقرؤه كل مسلم ليل نهار، ويسمعه كل مسلم ليل نهار، ومنذ نزوله إلى الآن، وإلى قيام الساعة، ولهذا قلنا أن المعنيّ بهذا المثل:

هو أمة محمد لا غيرها.

قال تعالى في الأعراف آية (142) ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾.

وفي هذه الآية الكريمة يفتح لنا المولى عز وجل صفحات من التذكر والتفكر في نبوة موسى عليه السلام وأخيه هارون، وبالرغم من ذكر دعاء موسى من ربه بأن يرسل معه هارون أخاه ليعينه على أمور ذكرتها آيات الله وعرفناها، إلا أن هذه الآية العظيمة تذكر وتضيف أسباب أخرى مهمة لوجود هارون عليه السلام إلى جانب أخيه، وفي هذه المرة ليس لمجادلة فرعون وقومه، الذي انتهى أمره بل لمعاونته على قومه بني إسرائيل، وإن هذه الآية تكشف صدق نبوة موسى، ومعرفته المسبقة بأحوال قومه، وأن هذه الفترة القليلة من الزمن والتي ذكرها القرآن بالميقات، قد استكثرها بنو إسرائيل وطال عليهم الأمد فيها بغياب موسى عنهم، وإن هذه الأيام التي تم فيها لقاء موسى ربه، شهدت على بني إسرائيل المشاهد العظام وإننا نستقي ونأتي على ما ذكر في هذه الآية لنحصر أهمية الموعظة منها في موضوع الخلافة.

1- كان الخطاب من نبي إلى نبي مباشرة.

2- الأمر في ظاهره من إنسان إلى إنسان.

3- أمر الخلافة كان من حاكم أو قائد باسم الله ومن الله إلى حاكم أو قائد بأمر الله أيضاً.

4- مدة أو فترة سريان أو بقاء الخلافة معلومة ومحددة بينهما.

5- محتوى أمر الخلافة كان واضحاً محدداً ﴿ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142].

6- كان المحتوى (وأصلح) هو نهج العمل والحكم والتذكير أي (اتبعني أو اتبع ما يوحى إلي ولا تتبع ما يعمله ويأمر به المفسدون من القوم).

7- إن القوم في أمر الخلافة هذا لا يظهر مآلهم إلا بالاتباع.

8- وإن الخلافة تنتهي بانتهاء المدة أولاً: وانتشار الفساد وعدم الاصلاح ثانياً وخير دليل على هذا ما جاء في الآية (150) من الأعراف ﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾.

وكلام موسى عليه السلام هنا بـ (خلفتموني) كان تصديقاً لكلام الله عز وجل بجعل كل إنسان خليفة بالإصلاح فإذا أصلح أصبح يقال له خليفة وإذا لم يصلح يقال له مفسد وتنتهي خلافته، وعلى هذا قال موسى ﴿ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي ﴾ [الأعراف: 150] لأنهم لم يصلحوا بل أفسدوا بعبادتهم العجل وعصيان الرسول.

4-وَرِثَ:

مرة أخرى وثالثة يأتي التأكيد الإلهي بأن الإنسان في الحياة الدنيا وهو يعيش متمكناً على سطح الأرض بما فضل الله عليهم وسائل تمكين الحياة، وهي التي ذكرت مستهلة سورة النبأ (الآيات 6.. ) وكذلك وبما يتاح له خلال فترة سنين عمره المقدرة سواء كثرت أم قلت. ونعود للقول أن هذا التمكين يأخذ شكله ومقداره حينما يدخل بصورة متاع الحياة الدنيا وأنه زائل لا محالة ولكن عندما تدخل العلة من وجود الإنسان، وهو الحق وفضل الله عليه، عندها يصبح متاع الحياة الدنيا منظماً بضوابط قد علمنا بعضاً منها في الفقرات السابقات، وسوف نتعرف على بعض ما بقي منها خلال الحديث عنها في هذه الفقرة وخاصة فيما يتعلق بالرابطة بينها وبين عنوان فقرتنا هذه (ورث) وللاستهلال بالبداية نرجع إلى الآية (14) من سورة آل عمران ونذكر منها الكلمات ذات المعاني والدلائل التي ضمنها الشرع بالإرث وهي: البنين – القناطير المقنطرة من الذهب والفضة – الخيل – الأنعام – الحرث.

وسوف نبحث عن الآيات في القرآن الكريم التي ضربت المثل بالإرث ونتحدث عن دلائلها وروابطها بالتمكين الذي عرفناه وحددناه بوعد الله عز وجل.

ونقول حصراً أن الآيات التي جاءت بسورة الأعراف والتي حصرت الإرث بنوعين:

أولهما: وراثة الأرض ومن ثم الجنة.

وثانيهما: وراثة الكتاب.

فنجد أن الحديث عن وراثة الكتاب ووراثة الأرض كان يخص بالذكر بني إسرائيل ولم نستدل من خلال ما ذكر في كل آيات الله أن التمكين كان متزامناً مع الوراثة تلك إلاّ في حالة.. من حكم سليمان عليه السلام وسوف نزيد الحديث عن هذا الجانب لنستقرأ أحوال هذه الوراثة وذلك بذكر الآيات من القرآن العظيم في أيما سورة منه.

1- نذكر دعاء النبي زكريا عليه السلام ربه والذي جاء بسورة مريم آية (5 – 6) قال تعالى ﴿ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾.

والنبي زكريا عليه السلام وهو العالم بأحوال قومه، وما آلوا إليه وما آلت إليه أحوال الأرض المقدسة،من استباحة وتدمير واستعباد ومن انحراف وجهل علماء بني إسرائيل، وقد بلغ من الكبر عتيا وقد نضبت النفوس من دين الله، وجفت المآقي بالنداء والدعاء إلى الله، وسكنت بيوت الله وخلت من عبادها ولم تصل إلى اسماع هذا النبي الشيخ رأي أنباء عن ولادة نبي، أو حتى ذكر من أحد الأسباط أو البيوت التي بقيت فيها بقية مما يذكر اسم الله فيه، وحتى بيت آل عمران المقربين والقريبين من عيناه ومن حناياه، فقد ولدت لهم أنثى وها هي تترعرع في كنفه متعبدة قانتة لله ذاكرة له ليل نهار، وعندها وفي هذه الساعة من الخلاء من أحوال الدنيا، ذرفت عيناه وبكت من خشية الله ومن الخوف من ضياع دين الله في هذا المآل لغير أهله، فتذكر النبي زكريا وراثة النبي سليمان لملك أبيه داود وكيف منحه الله الملك ومكن حكمه وملكه ودينه في الأرض، فما كان منه إلاّ أن دعا الله عز وجل أن يهبه ولياً يرثه ويرث نبوته ليعود إليه ملك آبائه من بني يعقوب داود وسليمان، ويمكن الله له الدين والأرض كما كانت.

لكن ما ذكرته آيات الله في القرآن العظيم، أوضحت أن علم الله فوق كل علوم بني آدم وأن نبي الله زكريا كان صادق الوعد مع الله أميناً في دعائه خاشعاً، ولم يكن له علم ما في اللوح المحفوظ في سدرة المنتهى، عند العرش العظيم، فقد آلت أحوال الدنيا في ذلك الوقت وخاصة ببني إسرائيل، إلى مآل مكتوب ومقدر من المولى عز وجل، ولم يتمكن ولد زكريا النبي يحيى من الدين، ولم يتمكن الأرض، فقد انتقل العهد والميثاق إلى غير بني إسرائيل والبقية الباقية كما عرفناها والله أعلم.

2- قال تعالى في سورة النمل آية (16) ﴿ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾.

إن سليمان كان ابن داود عليهما السلام، وقد وهبه الله الحكمة وفصل الخطاب في سن مبكرة وكان مشاركاً لمجلس أبيه في حكمه ومملكته. ولما توفي النبي داود عليه السلام ورثه سليمان في الملك والحكم وقد بعثه الله نبياً إلى بني إسرائيل وإلى العالمين في ذلك الوقت، وقد ذكرت آيات الله في القرآن العظيم إسلام ملكة سبأ وقومها كدليل على دعوة سليمان للإسلام والجهاد في سبيل الله، والموضوع المهم الذي نحن بصدده هو كيف جاءت كلمة: (وورث سليمان)، أي أنها جاءت كلمة إخبارية عن فعل مضى والتعبير من كلام الله عز وجل، ولم تأتي بشكل دعاء من داود عليه السلام كتلك التي جاءت من زكريا ﴿ يَرِثُنِي ﴾ [مريم: 66] حيث لم يكن هناك أحداً، كان،أوقد وجد،أو خلق البتة، كذلك لم يرد في آيات الله ذكر أو إخبار عن داود عليه السلام أنه كان يسعى لجعل ملكه وراثة في عقبه، وهو النبي إلاّ علمه في أن النبوة والملك كانا في بني إسرائيل حصراً فإما نبياً أو ملكاً، كما كان العهد أسباطهم ولما كان داود عليه السلام كما ذكرت آيات الله عن كثرة تعبده ودعوته لدين الله وجهاده وشكره لربه، كان قد كرس حياته لدين الله والحفاظ على كتابه وكان يتلوه ويحسن تلاوته، وهذا هو إرثه الذي كان يحمل همه، لكن علم الغيب كان مكتوباً في اللوح المحفوظ وأن سليمان ابنه ورث منه الحكم والملك والنبوة، وقد زاده الله قوة وملكاً عظيماً، وكل ما آل إليه سليمان كان من مشيئة الله عز وجل، ووعد بني إسرائيل عندما انقذهم من فرعون وجنوده عندما بعث فيهم موسى عليه السلام، وإن ذكر الآية الكريمة (5) من سورة القصص ووعد الله فيها ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ وقد بدت هذه المشيئة بائنة ووعد الله كاملاً في وراثة سليمان لأبيه داود، ولم يقف هذا الوعد عند هذه الوراثة فقد قال تعالى في الآية (6) من القصص ﴿ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ حيث كان التمكين لبني إسرائيل كامل العقد في عهد وراثة سليمان وملكه ونبوته وقد توفرت الأرض المقدسة كحاضنة لملكه ونبوته التي حملت شرع الله وكتابه في التوراة والزبور، والقوة المؤلفة من جنود لا يعلمها إلا الله، واستمر هذا التمكين إلى أن مات سليمان، وانتهى بعد ذلك ملكه وضاع الكتاب وانتشر الفساد ولم تذكر لهم قائمة بعد ذلك أبداً.

3- إن الوراثة كما تبين لنا كان محصورًا في عقب الأنبياء والمثالين السابقين الذين عرفناهما كان لواحد منهما نصيب الوراثة الحقيقية فقط ولم تذكر آيات الله أي أمثلة أخرى عن وراثة حصلت في عقب أفراد من المؤمنين عاديين وقد مكن الله لها في الأرض أبداً، أما وقد زال كل شيء وزال كل خبر الآن، ولم يبقى أمامنا وفي هذه الحياة أي وراثة كان قد وعد الله فيها واكتملت فيها أركان التمكين أو عناصر قوته.

وأما ما ذكر في آيات الله عن التركة، وعمن يحصل عليها من مالكها الأول، ويقال عنهم أنهم (وراثة) و (موروث) وأن من يحصل على بعض أو على كل ما جاء في الآية (14) من سورة آل عمران يسمى (وارث) أو (وارثون) فإن كل ذلك لا يصل إلى معنى (وراثة سليمان لأبيه داود) وإن كل فرد من عامة المؤمنين يرث شيئاً مستحقاً ومتوافقاً لشرع الله فإنه ذلك يأتي للمحافظة على حدود الله وإنها جزءًا يسيراً من العبادة ولما كانت من إحدى متع الحياة الدنيا،( فإن ذلك يكون زائلاً ) سواء ذلك بموته أو بضياعه بإحدى السبل أو بيعه أو هبته أو التصدق به، وهكذا قال تعالى في سورة النحل آية (96) ﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.

الوراثة والأمة:

إن أمة محمد تكونت كما رأينا من بعد نزول القرآن العظيم على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأن روابط تكوين هذه الأمة، هو ما جاء من فعل وقول لأحد العبادات أو الشعائر من فرد واحد، ثم رأينا كيف تلزم هذه العبادة أو الشعيرة الفرد المسلم بموقعه الاجتماعي، إن كان أباً أو جداً أو أخاً أو ابناً أن يدعو وأن يوصل، وأن يؤدي أي عبادة أو شعيرة بأركانها منفرداً أو جماعياً، والأمثلة كثيرة جداً ولا سبيل لحصرها هنا إنما الذي نضربه مثالاً هنا لنحصر به موضوع عنوان فقرتنا هذه، هو شعيرة أو حدود الإرث لما لها من أهمية بالغة في الرابط الاجتماعي في الأمة، ويمكن أن نعتبر أن الإرث هو الرابط الوحيد الذي يربط المسلم بالمكان، إن كان على صعيد الفرد أو الأسرة، ومن ثم يرقى ويكبر ليكون مجتمع ومن ثم يكون أمة.

والمعيار أو العلة في ورود النص القرآني الحرفي لشعيرة الإرث:

اقتضت أن يكون فضل الله على الوارث والموروث والإرث نفسه سواء بسواء، وجعلت فضل الله هذا حدوداً يأتي بها المسلم ما بقي على قيد الحياة مثلها مثل أي (عبادة) ورد النص فيها، وعلى المسلم أن يكون مجتهداً مجاهداً في الحرص على فعل هذه العبادة، لا يفتر ولا يتخاذل أبداً قال تعالى في النساء آية (13) ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وقال تعالى في الآية (14) ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾.

ويضرب الله المثل بالذين حرفوا كلام الله (النص)، فأضاعوا الدين، وبالتالي ضاع حق الفرد منهم وضاع حق الجمع، وبالتالي ضاعت الأمة، ومثل النص الذي يحذر منه القرآن العظيم، هو النص الذي يرد به الإرث وقسمته وتوزيعه ولهذا كما قلنا حرفياً (النص القرآني ).

وأوردت الآيات التي تذكر توزيع وتقسيم التركة في سورة النساء بالتتالي مع حب الشهوات ومع وسوسة الشيطان، مع الآيات التي ذكرت تحريف بني إسرائيل والنصارى لكلام الله، وكيف بعد ذلك زال التمكين منهم وأضاع الوراثة وراثة الأرض والكتاب والملك، وذلك بعدم الاتباع وإطاعة الرسول وإن سورة النساء من أولها إلى آخرها، جاء موضوعها متكاملاً مترابطاً يفسر عناوين فقرات متتالية..

إن الله وعد أمة محمد بتمكين دينها وإن تمكين الدين وحده الذي يفضي إلى اتيان الشعائر والحدود قولاً وفعلاً، وحب الشهوات في الحياة الدنيا زائل بزوال حياة الإنسان، وإن المتاع متغير وزائل بانتقاله من فرد إلى فرد وإن تمكين دين أمة محمد لا يزول حتى قيام الساعة، وذلك كما قال تعالى في سورة النساء آية (174) ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ﴾.

والآية (175) ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾.

وآخر قول الله في سورة النساء الآية (176) ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.

يبقى السؤال الأكثر أهمية هنا:

هو أن هناك وفي أمة محمد من لا درهم عنده يمتلكه، ولا ذهباً ولا فضة ولا خيلاً ولا حرثاً، ولا حتى بيتاً أو مسكناً يأوي إليه وله أسرة زوجة وأولاداً ذكوراً وأناثاً، وهذه الحالة موجودة بوجود الحياة على سطح الأرض فقراء يعيشون على الكفاف، وآخرين لا يحسبون على هؤلاء ولا على هؤلاء وآخرين متنوعين بين الغنى الفائض على الحاجة، وبين الذي يسد حاجته بعمله، وبين هذا وذلك من عنده درهماً وآخراً من عنده أموالاً وخيلاً والثالث من عنده حرثاً، وهكذا تتناوب وتتنوع أحوال البشر في أمة محمد، وكل من هؤلاء يؤدي فرائض دينه وشعائره، ويشهد بعضهم على بعض بالصلاح والتقوى واستقامة الوازع، ومنهم عند النفير تجدهم لا يبخلون بالمال أو النفس هكذا، ولكن عندما نعود ونضع من يشهد له بالاستقامة والصلاح والتقوى بدين الله، ولا يمتلك كما ذكرنا شيئاً يورثه عندما يحضره الموت والأمثلة كثيرة كما قلنا، وخاصة تكثر عند العلماء والصلحاء من الأقوام، ومن كان ينفق بالسر والعلن وبالسراء والضراء.

فاين نضع ميزان الإرث وعلته في استمرار الدين؟

وتمكينه بالأمة.؟

والأمة هنا مجموع والمورّث فرد؟ ونقول للجواب أن الإرث هنا مستثنى والتمكين بوجود وازع الدين في الأمة مستمر أي أن الإرث غائب (زائل) وتمكين الدين موجود مستمر. كما رأينا وتبين لنا..

هذا والله أعلم…

وصلي اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. والحمد لله رب العالمين.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى