بقلم د. مسعود صبري
اعتاد الناس أن يكون غاية العالم أن يكون له أتباع من الطلاب والتلاميذ، يتلقون عنه العلم، ويلتفوا حوله، ناشرين ما أخذوا عن شيخهم، حتى يكونوا امتدادا له، وتلك سنة محمودة؛ لأنها تمثل منهج التوريث العلمي، وهي من وسائل الحفظ، ومن أهم طرق تلقي العلم، كما عبر عنها الشاطبي في مقدماته بطريقة المشافهة، فيتلقى التلاميذ عن شيخهم مباشرة. وكان من المعتاد في تلك الطريقة أن يشرح الشيخ لطلابه كتابا في الفروع أو الأصول أو في غيرهما من العلوم.
ولم تغلب تلك الطريقة على شيخنا يوسف القرضاوي – حفظه الله، فلم يحفظ عنه أنه درس لطلاب تدريسا مباشرا بتلك الطريقة، إلا ما كان من تدريسه في المعاهد الدينية والكليات الشرعية، وهي الطريقة الِأكاديمية وليس الطريقة التقليدية التي عرفت قديما، ولكنه آثر غلبة التصنيف والتأليف، فتكوَّن تلامذته من خلال قراءة تصانيفه الماتعة، وكتبه الجامعة، والتفوا حوله من خلال أفكاره الساطعة، واجتهاداته المعاصرة، ومن خلال المقالات والبحوث المنشورة في الجرائد والمجلات وعلى مواقع الإنترنت، وكذلك الحلقات الإذاعية والفضائية خاصة برنامج ( الشريعة والحياة)، فتكون للقرضاوي من الطلاب مالم يتكون لغيره من معاصريه.
وبهذه الطريقة أصبح للشيخ القرضاوي مئات من التلاميذ في جميع أنحاء العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، من العرب والعجم وفي جميع قارات العالم، وكتب الله تعالى بفضله ومنه شهرة للشيخ القرضاوي قل أن تكتب لغيره.
ثم تنبه شيخنا القرضاوي إلى أن يجمع تلامذته من الدكاترة والباحثين من الرجال والنساء في ملتقى كل عام أسماه ( ملتقى التلاميذ)، بحيث يتدارس الطلاب كتب الشيخ في حضوره، فيكتبون عن فكره وعلمه في المجالات الشتى التي برز فيها القرضاوي، كالدعوة، والتربية، والإصلاح، واللغة والأدب، والشعر، والفقه، والأصول، والتفسير والحديث والإفتاء، وهي كتابات -في غالبها- حرة، لا تقف عند حد المدح، بل تتجاوز النقد والمراجعة، وتتم المناقشات المباشرة والمراجعات بين الشيخ القرضاوي وتلامذته، وهو ما يذكرنا بما كان يحصل من أبي حنيفة مع تلامذته من أئمة المذهب الحنفي، بحيث يسهم التلاميذ مع شيخهم في إرساء ملامح المنهج الوسطي، وإن كان له فيه القدح المعلى.
وقد قصد الشيخ القرضاوي من هذا الاطمئنان على المنهج العلمي لدى طلابه، ولم يكن القصد منه النقل عنه في مسائل العلوم الشرعية ، بل قصد الشيخ القرضاوي أن يكون هناك عشرات من شخصية القرضاوي التي تحمل المنهج الوسط للإسلام، بسماحته، ذلك المنهج الذي يجمع بين العلم والعمل، وبين الشريعة والحياة، وبين التدريس والتصنيف، وبين الوعظ والتوجيه، وبين إصلاح المجتمع الذي يعيش فيه، وبين الاهتمام بقضايا الأمة المسلمة في جميع أقطارها، فيكون التلامذة قادرين على تقديم الإسلام للإنسانة في أبهى حلة، وأنصع صورة.
والشيخ متابع جيد لما يكتبه تلامذته، يطلع على ما يكتبون وينشرون، ويقرأ عقول طلابه دون أن يخبرهم عن شيء من ذلك، ولا يظن كثير منهم أنه يتابع إنتاجهم العلمي، حتى لو لم يرسلوا إليه ذلك الإنتاج. والناظر لتلامذة الشيخ يجدهم يملؤون الدنيا، فمنهم رؤساء جامعات ، وعمداء كليات، فهم في المعاهد الدينية، والكليات الشرعية، والمؤسسات العلمية والإعلامية، والمراكز البحثية، بل أضحى للشيخ تلاميذ في غالب التخصصات بما في ذلك السياسة والاقتصاد والإعلام وغير ذلك مما قد لا يظن أن لعالم شرعي تلاميذ فيه.
لقد أدرك الشيخ القرضاوي أن أكبر ما يمكن أن يقدمه العالم لمجتمعه تلاميذ يحملون المنهج والعلم في آن واحد، وهو ما غاب عن كثير من العلماء في عصره، ولم يقف القرضاوي عند حد تلقين العلوم، فهو يلقنهم الأدب والسلوك قبل العلم، ويرون فيه الخشية القلبية، والحجة الشرعية، وكثيرا ما يكرر القرضاوي على طلابه ربط العلم بالعمل، وتزكية النفس، والتحرك في المجتمعات بالدعوة إلى الله تعالى، وأن تكون قصودهم خالصة لله تعالى دون النظر إلى متاع الدنيا.
ومن أجمل ما في القرضاوي مع تلامذته أنه يكره أن يذوب أحدهم في شخصيته، فهو حريص على استقلال كل منهم بشخصيته، فهو يكره التقليد، وليست التلمذة عنه أن يكون أحدهم إمعة له كما هو الحال في بعض الشيوخ في كل عصر، وهو مع كل هذا أب عطوف، متواضع مع تلامذته، فلا يعرِّف أحدا من طلابه نطقا أو كتابة إلا بأنه أخ له في الله، فيقول حتى عن أصغر تلاميذه ( أخونا فلان)، وعن طالباته وإن كانت في سن حفيداته ( أختنا فلانة)، فهو مثال للمربي الجليل، والعالم الفقيه.
وفي ظني أن تجربة القرضاوي مع تلاميذه بحاجة إلى تأصيل لتلك التجربة، للوقوف على معالمها وأسسها، حتى توثق تلك التجربة فيستفيد التلاميذ منها أولا، ثم يستفيد منها كل عالم يريد أن يسلك مع طلابه منهجا س
ويا في التكوين والتدريب.
إن القرضاوي -نحسبه والله حسيبه- من بقية السلف الصالح، ولا يعني ذلك عصمته، فهو بشر يخطئ ويصيب، لكن من عاشره أحبه، وإن اختلف معه في بعض الجزئيات والفروع، أو حتى في بعض مسائل التأصيل، لكن يبقى القرضاوي عالما وأستاذا ومربيا، من عايشه وجده رقيق القلب، سريع الدمع، محبا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، شفوقا على دينه، صادعا بالحق غير مبالغ بعواقب ذلك، موجها ومربيا، ناصحا بصدق، لا يحب الخصومات ولا يشغل نفسه بالانتقادات، رجل يعرف ماذا يريد، وكيف يحقق أهدافه وغاياته.
وليس أدل على خلق القرضاوي من أنه يلهج في كل مجلس بالذكر، ويختتم مجلسه بالدعاء، وأن أقصى أمنياته أن يختم الله تعالى له بالشهادة، ومع كل هذا، فهو يرى نفسه مقصرا في جنب الله، وتلك أخلاق العلماء الصالحين.
أسأل الله تعالى لشيخنا أن يطيل في عمره، وأن يحسن في عمله، وأن ينفعنا بعلمه وسيرته في الدارين آمين