مقالاتمقالات مختارة

التلذذ بالعبودية للطغاة!

إن الشعوب التي اعتادت حكم الطاغية لعدة آلاف من السنين، نجد لديها استعدادًا للتسليم بهذا الشكل من أشكال الحكم أسرع من غيرها، كما أننا نجدها لا تمانع في الحديث عن إيجابيات الطاغية وتمتدح أعماله الجليلة دون أن تجد في ذلك حرجًا ولا غضاضة!

ولا شك أن الأمم الشرقية أصبحت تنشد الحكم الاستبدادي، لطول إلفها له، وما زال أبناؤها يتسابقون في تدبيج القصائد التي تتغنى بأياديه البيضاء على الناس، ولم يعد الحاكم الشرقي يجد حرجا في تسخير الصحافة والإذاعة والتليفزيون وجميع وسائل الإعلام للحديث عن أمجاده وبطولاته وانتصاراته، حتى لو أنه مهزوم هزيمة منكرة-فيما أسماه “بأم المعارك” مثلا!

ومن مظاهر التقديس للحاكم عندنا أن تتصدر صوره جميع الصحف، وأن تكون تنقلاته وأخباره هي الخبر الأول في كل وسائل الإعلام فمثلا تسمع:

  • الرئيس يقود الدراجة!
  • الرئيس يتناول الفطور مع فقيرة!
  • الرئيس يصلى بخشوع ويبكي!
  • الرئيس يشاهد مسرحية كذا!
  • الرئيس يجهز لأولاده طعام الفطور!

وهكذا من توافه الأخبار وتوافه الحكام التي تتفنن في نشرها توافه لاعقي أحذية الطغاة والتي لا باس من تكرارها في كل وقت وفرصة. وهذه الأفعال من الطاغية وشعبه أصبحت ميراث في الجينات الوراثية للشعوب التي استمرأت العبودية والذل فنجد في سجلات مصر الفرعونية. وكيف أنَّ الرعايا المخلصون يزحفون على بطونهم لكي يتنشقوا عطر الملك.

وهكذا نجد أن السجود للطغاة في المجتمعات المستمتعة بالذل، أصبح التعبير الصارخ للطاعة والخضوع، والاستسلام، والاحترام والتوقير جميعا.

وجاء في إحدى أوراق البردي المحفوظة في مصر رسالة هي عبرة عن نصيحة كتبها أحد الفراعنة لابنه يقول فيها:

«ابتعد، واعزل نفسك عن الرعايا (الشعب) الذين يخضعون لك. لا تقترب منهم وأنت وحدك، ولا تشغل نفسك، ولا تملأ قلبك بأخ (مثال: طرد مبارك لشقيقه من بيته). ولا تعرف صديقا… وحتى إذا نمت نم وأنت تراقب بنفسك قلوبهم، لأن الإنسان ليس له أعوان في وقت الشدة.»

  أما كيف يتحول المقهورون إلى جموع السعداء في خدمة قاهرهم وكيف يتحول الخوف من الطاغية إلى ثقافة تسود المجتمع بأكمله، فيرى المفكر الفرنسي “لابويسي” أن الطاغية ببساطه يستقوي بخنوع الجموع السعيدة ويبتهج بانقيادهم وخضوعهم له، فيوظفهم كأشياء وقوالب معدة لخدمة خياله الشخصي ولتغذية إحساسه المفرط بالعظمة الذي لا يرتوي حتى يلبس التراب.

هذا الطاغية انقطع عنده كل شعور عاطفي يربطه بالإنسانية، ثمة شيء أسود يكمن في داخله وهذا الانقطاع شرط مهم للغاية لممارسة الطغيان المطلق الذي يجعل من الخوف المعنى الوحيد والأداة الوحيدة لممارسة السياسة؛ وبالتالي، تصبح الحرية وحدها هي ما لا يرغب الناس فيها!

يتحير “لابويسي” مثلنا في كيفية تحمل الناس لطاغية فرد هو في نهاية الأمر مجرد فرد (كيف أمكن لهذا العدد من الناس من البلدان من المدن من الأمم أن يحتملوا أحيانًا طاغية واحدًا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته. إنه لأمر جلل).

ويحدثنا “لابويسي” أيضًا عن (حبل الطغيان) الممدودة عليه العيون البصاصة والكفوف الصافعة والأقدام الدائسة، ويمسك بأحد طرفيه الطاغية ويحكم قبضته به على أعناق الجميع بمن فيهم البصاصون والصافعون الذين باعوا آخرتهم بدنياه. ويصف حال أولئك الذين يخضعون للطاغية بلا أي مقاومة يعيشون كالعبيد يتلقون الصفعات برؤوس منخفضة صاغرين حائرين غارقين في البؤس والأسى مستمتعين بوجودهم البليد.

ويقول “لابويسي”: (يا لذل شعوب فقدت العقل ويا لبؤسها، تسلبون أجمل مواردكم وأنتم على السلب عيان. تتركون حقولكم تنهب ومنازلكم تسرق وتجرد من متاعها القديم الموروث عن آبائكم! تحيون نوعًا من الحياة لا تملكون فيه الفخر بشيء حتى لكأنها نعمة كبرى في ناظركم لو بقي لكم نصف أملاككم وأسركم وأعماركم. كل هذا الخراب وهذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم لا على يد أعدائكم، بل يأتيكم يقينًا على يد العدو الذي صنعتموه أنتم. هذا العدو، الذي يسودكم إلى هذا المدى ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد، لا يملك شيئًا فوق ما يملكه أقلكم على كثرة مدنكم التي لا يحصرها العد إلا ما أسبغتموه عليه من القدرة على تدميركم.)

ويتابع: (فأنى له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم؟ أنى له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوى عليكم إن لم يقو بكم؟ كيف يجرؤ على مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم خونة لأنفسكم؟).

انتهى كلام “لابويسي” ولم ينته بعد عصر الاستبداد، والذل الخضوع والعبودية لغير الله، ولم تحتفل بعد ميادين الحرية بانتهاء عصر الديكتاتوريات وزوال الطغاة والمستبدين!.

وبالتالي أرى أن السنوات القادمة سنرى شعوب الشرق يركعون أكثر للحاكم وفيما بعد بقليل سيركعون لحلاق الحاكم وسائق الحاكم إلى أن يصلوا لكلب الحاكم إلا أن يريد الله بنا الخير فيغير من نفوسنا لنتغير.

(المصدر: أمة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى