مقالاتمقالات مختارة

التكامل في الاختلاف وأدبه بين الصحابة (عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد أنموذج)

التكامل في الاختلاف وأدبه بين الصحابة (عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد أنموذج)

بقلم د. محمد بن عبدالله السلومي

الاختلاف[1] بين البشر في خَلْقِهم وطِباعهم وخصائصهم النفسية، بل قوة إيمانهم وضعفه من السُّنن الإلهية والحِكَم الربانية للخالق جل وعلا، ولهذا جاء ما يسمى بالفروقات الفردية وتوظيفها بالتكامل بين البشرية، وهذا من عظمة الخالق سبحانه وتعالى لعمارة هذا الكون، والمهم في هذه الحقيقة عن تنوع صفات البشرية وقوَّتهم وضعفهم: أن يكون التعاطي الأمثل مع هذا الجانب المهم حول هذا التنوع الإنساني.

ومن هذا التعاطي الصحيح – مثلاً – ما يتعلق بتولية خالد بن الوليـد رضي الله عنه بعض الولايات وقيادة الجيوش الجهادية زمن أبي بكر الصـديق وعمر بن الخطـاب رضي الله عنهمـا، ثم قرار عمـر عزل خالد رضي الله عنهما، وسواء أكان هذا العزل الأول عام 13هـ أم العزل الثاني عن قنسرين عام 17هـ، وسواء أكان هذا عزلاً عن ولاية أم كان عزلاً عن إمرة جيش وجهاد؛ فقد كان قبول خالد ورضاه تجاه هذا الأمر، وهذا العزل ربما يُعدُّ من الأحداث المهمة تاريخياً عند بعض المؤرخين خاصة المغرضين منهم، ولهذا لا بد من وِقفة تحقيق ودراسة لجلاء ما ورد حول هذا العزل، ولا سيما أنه قد سالت أقلام وخيالات أعداء هذا الدين وخصـومه قديماً وحديثاً بروايات وتفسيرات لا تنهض على قوة في السند، ولا على منهج صحيح في تفسير الحدث أو توضيح أسبابه؛ بينما هذا العزل فيه من المناقب الكثيرة ما يُلغي ما يُثار من شبهات ومثالب!

ولهذا تعمدتُ في هذه الورقة ألا يكون عنوانها عن عزل خالد؛ لارتباط عنوان العزل في الغالب بالمثالب دون المناقب عند أهل الأهواء من المؤرخين، وكذلك لأن هذه الورقة معنيَّة بما هو أكثر وأهم من هذا العزل، حيث الاختلاف وأدبه فيمـا بين الصـحابة، وكيف كان استثماره في التكامل في تسلُّم المهام والمسؤوليات.

فأقول مستعيناً بالله كـ (أنموذج) للتكامل والاختلاف وأدبه بين الصحابة: تمَّ عزل خالد بن الوليد، وقد ورد هذا بروايات تاريخيـة متعددة الأسانيد يقوي بعضها بعضاً في كشف أسباب العزل الحقيقية. وفي الإسلام ما يؤكد على عدم الخوض بسوء فيما حدث بين الصحابة رضي الله عنهم؛ كما قال تعالى {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134]، ويدخل فيه عدم الخوض في موضوع عزل خالد بن الوليد، لا سيما بالروايات الضعيفة أو الموضوعة وما يترتب على ذلك من إساءة بحق الصحابة، وهذا مما يُعدُّ من الأسس المهمة في قبول الروايات وتفسير الأحداث أو رفضها. وهو ما يجهله أو يتجاهله أعداء هـذا الدين وخصومه قديماً وحديثاً تجاه بعض الروايات التاريخية وتفسيرها.

وبجمع الروايات حول عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه ودراستها دراسة علمية تتضح بعض المعاني الكبيرة والحِكَم البالغة لسياسات الحكم الرشيد لأبي بكر ثم عمر رضي الله عنهم جميعاً، وسواء أكان العزل الأول لخالد أم الثاني كما قسَّم بعض المؤرخين، كما أن أسباب العزل ذاتها تكشف بصورة أكبر عن مفاهيم ومعاني ذات قيمة إدارية وأخلاقية.

وأسباب العزل تكاد تكون أربعة أسباب رئيسة، وقد تكون مرتبطة ببعضها، كما قد تكون منفردة عن بعضها، وهي أسباب ظاهرة واستنتاجية تجلَّت بصورة واضحة من خلال ألفاظ الروايات أو مفاهيمها وشروحاتها، وهذه أبرز الأسباب:

السبب الأول: حِرْصُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه على حماية جانب العقيدة لدى خالد بن الوليد رضي الله عنهما، فقد يَحدُث اغترار خالد بشجاعته، وهو ما يؤدي إلى افتتانه بنفسه بسبب انتصاراته المتتابعة، وهو سبب استنتاجي من بعض ألفاظ الروايات: «حتى يعلما» «وليس إياهما».

فهذا التصرف من عمر رضي الله عنه قمة المحبة لخالد بن الوليد رضي الله عنه، وربما الشفقة والرحمة، وقد أدَّى خالد واجبه ولم يتخلَّ من نفسه، وهو اجتهاد من عمر أراد به أن تتركز وتتأصل لدى عامة الناس وخاصتهم مفاهيم هذا الانتصار وأنه بالمنهج أولاً وبالرجال ثانياً وليس العكس، وأن الانتصار ليس مرهوناً برجل واحد مهما كان هذا الرجل. وقد عزله عمر رضـي الله عنه من القيادة فقط ولم يعزله عزلاً تامّاً كما سيأتي في الاختلاف على مسألة قَسْم الغنائم. فقد روى ابن سعد: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى، مثنى بن شيبان حتى يعلما أنَّ الله إنما كان ينصر عباده، وليس إياهما كان ينصر»[2].

ورواية أخرى تؤكد هذا المعنى أوردها ابن عساكر بإسناده، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «أما والله! لأن صيَّر الله هذا لأمر إليَّ لأعزلن المثنى بن حارثة عن العراق وخالد بن الوليد عن الشام، حتى يعلما أنما نصر الله دينه ليس إياهما نصر»[3].

كما أورد ابن عساكر رواية أخرى بسنده تؤكد هذا المعنى، بعد ولاية عمر رضي الله عنه، وفيها قال: «لأنزعن خالداً حتى يعلم أن الله إنما ينصر دينه» يعني بغير خالد[4]. واستحضار هذه النصوص لا سيما مع واقع خالد بأنه لم يُهزم له جيش قط سواء في الجاهلية أم الإسلام، مع ما أعطاه الله من سلامة الرأي ومكيدة الحرب والتخطيط والقوة والشجاعة وكلها في شخص واحد، إضافةً إلى أنه كان من أبرز قادة الفتوحات الإسلامية الكبرى. كل هذا مما يؤيد هذا السبب للعزل، وأنه كان لمصلحة أكبر.

والسبب الثاني: أن مصلحة الأمة المسلمة تتطلب الحفاظ على صفاء عقيدتها ونقائها، وهو أمر بالغ الأهمية في الإسلام وعند عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصفة خاصة؛ فنقاء العقيدة أغلى من نتائج قرار متعلق بفرد، وقد أصدر عمر قراره ولم يترتب على تنفيذه أي أثر ضار على خالد رضي الله عنه شخصياً ولا على أمة الإسلام، حيث تسمو المصلحة العامة وتُقدَّمُ على غيرها. كما أنه لا يغيب عن بال أي مسلم بعض القواعد الشرعية المشهورة، ومنها (درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح) و (ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما سائغ شرعاً). وربما كان بقاء خالد بن الوليد في الولاية أو القيادة فيه شيء من المفسدة، لكن خوف عمر من نشوء الفتنة في عقيدة الأمة وتوحيدها دعاه إلى هذا الإجراء. فقد ورد في عدة مصادر أن عمر رضي الله عنه كتب في الأمصار: «إني لم أعزل خالداً عن سخطة أو خيانة، ولكن الناس فُتنوا به فخشيت أن يُوكَلوا إليه ويُبتلوا، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وأن لا يكونوا بعُرْضِ [بطريق] فتنة»[5].

بل إن في رواية ابن كثير ما يؤكد ثقة عمر بن الخطاب بأمانة خالد وشجاعته وعدم الاستغناء عنه: «فلما انتهت الخلافة إلى عمر عزل خالداً وولَّى أبا عبيدة بن الجراح، وأمره أن يستشير خالداً؛ فجمع للأمة بين أمانة أبي عبيدة وشجاعة خالد»[6].

والسبب الثالث: ما تواتر عن شدة خالد، ومن هذا ما ورد أن عمر بن الخطـاب قال لأبي بكـر الصدِّيق رضي الله عنهما زمن خلافة الصدِّيق: «اعْزِله فإن في سيفه رَهَقاً، فقال أبو بكر: لا أشيم [أي لا أُغمِد] سيفاً سلَّه الله على الكفار»[7].

ومما روي عن شدته ما ورد عن قتله – اجتهاداً – أسرى بني جذيمة، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ مَرَّتَيْنِ»[8]، ولم يقل أبرأ إليك من خالد، كما لم يُعاقبه على اجتهاده، والبراءة من الفعل تعني تخطئة اجتهاد خالد في فعله، كما تعني التحذير لغيره من هذا الفعل. ومما ورد عن شدته كذلك قتله لمالك بن نويرة اجتهـاداً خاطئاً زمن حروب الردة[9].

وفي المقابل فإن بعض الروايات الأخرى ومفاهيمها ربما تمنح خالداً العذر حول أهمية الحاجة إلى الشدة، وذلك لإرهاب العدو من المشركين والمرتدين لا سيما في بعض الأحوال، ومن العذر له كذلك أنه بَشَر غير معصوم، وأن بعض اجتهاداته كانت خاطئة وكان فيها مأجوراً، وكفى شهادةً له بشدته المحمودة قول المصطفى صلى الله عليه وسلم  عنه: «خالدُ بنُ الوَليدِ سَيفٌ مِن سُيوفِ اللهِ، سَلَّه اللهُ على الكُفَّارِ والمنافقين»[10]، وكذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  بقوله: «لا تُؤذوا خالداً، فإنَّه سيفٌ مِن سيوفِ اللهِ، صبَّه اللهُ على الكفَّارِ»[11].

والسبب الرابع: الذي أدى إلى عزل خالد رضي الله عنــه عـن الولاية ما ذُكـر في هـذه الرواية، وفيها قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله: «فلم عزلته؟ قال: عزلته لبذله الأموال لأهل الشرف وذوي اللسان…»[12]، وفي الرواية الأخرى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «فوالله ما نقمت على خالدٍ في شيء إلا في إعطائه المال»[13].

وقد أورد ابن حجـر كذلك رواية تدل على أنَّ هذا الأمر كان من أسباب عزل خالد رضي الله عنه المرة الثانية. قال الزبير بن بكار: وحدثني محمد بن مسلم، عن مالك بن أنس، قال: «قال عمر لأبي بكر رضي الله عنه: اكتب إلى خالد ألا يعطي شيئاً إلا بأمرك. فكتب إليه بذلك. فأجابه خالد رضي الله عنه: إما أن تدعني وعملي وإلا فشأنك بعملك، فأشار عليه عمر بعزله، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فمن يجزي عني جزاء خالد؟ قال عمر: أنا، قال: فأنت، فتجهـز عمر حتى أنيخ الظهر في الدار، فمشى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  إلى أبي بكر فقالوا: ما شأن عمر يخرج وأنت محتاج إليه، ومالك عزلت خالداً وقد كفاك؟ قال: فما أصنع؟ قالوا: تعزم على عمر فيقيم، وتكتب إلى خالد فيقيم على عمله، ففعل، فلما تولى عمر كتب إلى خالد ألا تعطي شاة ولا بعيراً إلا بأمري، فكتب إليه خالد بمثل ما كتب إلى أبي بكر رضي الله عنهما فقال عمر: ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر لم أنفذه، فعزله، ثمَّ كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلا أن يخليه يفعل ما يشاء فيأبى عمر»[14]. وفي هذا الأثر ما يؤكد كذلك على حق الرعية والولاة في الاعتراض والتشاور وإبداء الرأي الآخر.

وذكر الطبري في خبر عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه سنة سبع عشرة رواية أخص مما سبق تدل على اجتهاد خالد في بذل المال، وفيها حيث موضع الشاهد: «وأدرب سنة سبع عشرة خالد وعياض فسارا فأصابا أموالاً عظيمة… فانتجع خالداً رجال من أهل الآفاق فكان الأشعث بن قيس ممن انتجع خالداً بقنسرين فأجازه بعشرة آلاف…»[15].

وقد أورد النسائي بإسناده ما يُقوِّي هذا السبب، وذلك في منـاقب خالد رضي الله عنه، أن ناشرة بن سُمَي اليَزَني، قال: سمعت عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس فقال: «إني أعتذر إليكم من خالد بن الوليد فإني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين، فأعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان، فنزعته وأمَّرت أبا عبيدة بن الجراح… إلخ الحديث»[16]. فهذه – تقريباً – أبرز الروايات التاريخيـة عن عزله بسبب بذله المال.

وبهذه الروايات مجتمعة حول عطاء خالد للأموال يتضح هذا السبب من أسباب عزل خالد رضي الله عنه وهو الاختلاف بين رأيين في أمر يسع الاختلاف حوله والاجتهاد فيه، ولكلٍّ حجته ودليله حول الأحقية فيما يُسمى بالصلاحيات بلغة العصر.

فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى من موقعه – وهو خليفة للمسلمين – الإشراف المباشر والدقيق على أمر الأموال، وأن التصرف في الشاة والبعير من حقه وليس من حق الولاة أو القواد أن يتصرفوا من عند أنفسهم، خلافاً لسياسة أبي بكر رضي الله عنه الذي أعطى لخالد وغيره هذا الحق أو هذه الصلاحيات، لأن الأمر اجتهادي، وكان خالد رضي الله عنه قد اجتهد في هذه المسألة ورأى أن إعطاء هؤلاء من التأليف لقلوبهم وانتفاع الإسلام بهذا العطاء، كما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم  أهل الشرف من المؤلفة قلوبهم في حنين وغيرها في سبيل تأليف القلوب ودفع بعض الشرور الممكنة.

ومن الأدلة على اجتهاده ما ذكره ابن سعد: «كنت في حرب ومكايدة، وكنت شاهداً وكان غائباً [يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه] فكنت أعطي ذلك، فخالفهُ ذلك من أمري»[17]، فكان خالد رضي الله عنه هو الشاهد ويرى ما لا يراه الغائب حسب قوله.

وعن هذه الأسباب جميعها فإن هذا الاختلاف كان في مسألة أو ربما مسائل لم يرد فيها نص قطعي الدلالة، وليست هذه الأسباب من مسائل الأصول، ويمكن أن يؤدي استمرار الاختلاف أو عدم السمع والطاعة – إن حَدَث – إلى خلاف أخطر قد يؤدي إلى افتراق في جسم الأمة الإسلامية كما حدث بعد ذلك في بعض فترات التاريخ، ولكن بعزل خالد رضي الله عنه والتزامه السمع والطاعة لأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يترتب على هذا الاختلاف بينهما افتراق وخلاف، فلكلٍّ دليله واجتهاده، وكلٌّ قد تعبَّد الله بما يراه صواباً. وسيأتي الحديث عن العلاقة وأدب الاختلاف بينهمـا بعد ذلك؛ وأن هذا الاختـلاف لم يُفسِد بينهما المحبة والمودة وبقاء الأخوَّة، بل كان عامل تكامل وقوه.

وهكذا تتجلى الأسباب الحقيقية الشرعية الثابتة بالأدلة النقلية والمنطقية المتفقة مع عموم الأدلة الواردة ومع الدلالات العقلية (الاستنتاجية)، وقد تكون كلها مجتمعة أو بعضٌ منها أدَّت إلى عزل خالد رضي الله عنه.

التكامل في الاختلاف الفطري والاجتهادي:

من الأسباب الاستنتاجية من الأدلة الواردة حول عزل خالد كـ (أنموذج): أن فيها صورة من صور العمل على توازن وتكامل الخلفاء مع ولاتهم، وهو ما يمكن أن يُطلق عليه التكامل الإداري بين القيادات، أو ما يُسمى تبادل الأدوار بين الشدة واللين مثلاً، كما أشار إلى هذا ابن تيمية رحمه الله حيث كان له فقه خاص في هذه المسألة وذلك في تولية الأصلح واختيار الأمثل فالأمثل في كل ولاية بحسبها. وكأني به يقول: إن أبا بكر رضي الله عنه مصيب في إبقاء خالد وكان رأيه سديداً، وعمـر رضي الله عنه مصيب كذلك في عزله وكان هذا العزل صحيحاً زمن خلافة عمر. فحينما يكون المُتولِّي ونائبه كلاهما متصفان بالشدة أو كلاهما باللين فإن الأمر لا يعتدل إلا باتصاف أحدهما بالشدة والآخر باللين. وابن تيمية كان حديثه في هذه المسألة من هذا الباب حيث قال رحمه الله: «وهكذا أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما زال يستعمل خالداً في حرب أهل الردة، وفي فتوح العراق والشام، وبدت منه هفوات كان له فيهـا تأويل، وقـد ذُكر له عنه أنه كان له فيها هوى، فلم يعزله من أجلها، بل عاتبه عليها لرجحان المصلحة على المفسدة في بقائه، وأن غيره لم يكن يقوم مقامه، لأن المتولي الكبير، إذا كان خُلقه يميل إلى اللين، فينبغي أن يكون خُلق نائبه يميل إلى الشدة، وإذا كان خُلُقه يميل إلى الشدة، فينبغي أن يكون خلق نائبه يميل إلى اللين، ليعتدل الأمر. ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُؤْثر استنابة خالد، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يؤثر عزل خالد، واستنابة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، لأن خالداً كان شديداً كعمـر بن الخطاب، وأبا عبيدة كان ليِّناً كأبي بكر، وكان الأصلح لكل منهما أن يولِّي من ولاَّه، ليكون أمره معتدلاً، ويكون بذلك من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم  الذي هو معتدل، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم  عن هذا التوازن المطلوب: (أنا نبي الرحمة، أنا نبي الملحمة). وقال: (أنا الضحوك القتَّال)، وأمته وسط»[18].

وإضافة إلى هذا (حول التكامل في الصفات الشخصية للصحابة والتوازن بين الرجال) فقد قال الذهبي رحمه الله في هذه المسألة معبِّراً عن جوانب الشدة واللين والمزج بينهما بين الولاة ونوابهم: «وكان نبينا صلى الله عليه وسلم  مبعوثاً بأعدل الأمـور وأكملها، فهو الضحوك القتَّال، وهو نبيُّ الرحمة ونبيُّ الملحمة، بل أمته موصوفة بذلك في مثـل قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، فكان النبي صلى الله عليه وسلم  يجمع بين شدة هذا ولين هذا؛ فيأمر بما هو العدل وهما يطيعانه فتكون أفعالهمـا على كمـال الاستقامة. فلما قبض الله نبيه وصار كلُّ منهما خليفة على المسلمين خلافة نبوة كان من كمال أبي بكر رضي الله عنه أن يولي الشديد ويستعين به ليعتدل أمره ويخلط الشدة باللين، فإن مجرد اللين يفسد ومجرد الشدة تفسد، ويكون قد قام مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يستعين باستشارة عمر، وباستنابة خالد ونحو ذلك. وهذا من كماله الذي صار به خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا اشتد في قتال أهل الردة شدة برَّز بها على عمر وغيره، حتى روي أن عمر قال له: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! تألَّف الناس. فقال علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى أم على شِعر مفتعل؟ وقال أنس: خطبنا أبو بكر عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم  وإنَّا لكالثعالب، فما زال يشجعنا حتى صرنا كالأسود. وأما عمر رضي الله عنه فكان شديداً في نفسه: فكان من كماله استعانته باللين ليعتدل أمره، فكان يستعين بأبي عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وأبي عبيدة الثقفي والنعمان بن مقرِّن وسعيد بن عامر وأمثال هؤلاء من أهل الصلاح والزهد الذين هم أعظم زهداً وعبادة من مثل خالد بن الوليد وأمثاله»[19].

بل إن مما يميـز هذا الدين تشريعاته في التعـادل والتكامل بين الكفاءات والقدرات في تولية الأعمال والولايات، ومن ذلك ما خاطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم  أبا ذر حينما قال له: «يا أبا ذَرٍّ، إنِّي أراكَ ضَعِيفاً، وإنِّي أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ علَى اثْنَيْنِ، ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يَتِيمٍ»[20]، حيث نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية؛ لأنه رآه ضعيفاً مع أنه قد قال عنه صلى الله عليه وسلم : «ما أَظَلَّتِ الخَضْرَاءُ ولا أَقَلَّتِ الغَبْرَاءُ أَصْدَقَ من أبي ذَرٍّ»[21]، وأمَّر النبي صلى الله عليه وسلم  مرة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل (استعطافاً لأقاربه الذين بعثه إليهم) على من هم أفضل منه، وأمَّر أسامة بن زيد؛ لأجل طلب ثأر أبيه، وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مع أنه قد يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان[22].

ومن الأسباب الاستنتاجية حول التولية والعزل كذلك ما ذكره الصادق عرجون رحمه الله عن أهمية توليد الطاقات وإنتاج الكفاءات… وهذا في الوقت نفسه نوع من التكامل بين الصحابة في القدرات، حيث قال: «وإذا كان خالد بن الوليد رضي الله عنه قوة باهرة من الكفاية والغَنَاء في باب البطولة والقيادة العسكرية، فليس من الخير لأمة ناشئة ناهضة أن تُوكَل إلى كفاية رجل وغَنَائِه مهما بلغ من العبقرية، بل الخير كل الخير أن يُفتَح الباب لغيره من أهل الكفايات والغَنَاء حتى يكون للأمة رصيد من البطولة تُنفق منه عند الحاجة»[23]، ولعل فيما ورد ما يوضح شيئاً من التكامل وأدب الاختلاف بين الصحابة، ومن ثَمَّ الدروس والعبر والنتائج حول مغزى هذا العزل لخالد، وهي التي لا تقل أهمية عن أسباب قرار عمر وامتثال خالد، رضي الله عن الجميع. وهو ما سوف يتناوله الجزء الآخر من المقال العدد القادم بإذن الله.

نتائج ودروس:

لقد ظهرت نتائج هذه السياسة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذ برزت كفاءات جديدة بتوازن أقوى بين الخليفـة وقادته. واستمرت الفتوح والانتصارات بعد عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه لأن السِّر في الانتصار سببه الإخلاص والصدق وحسن المتابعة، وهذا ليس وقفاً على أحد (على الرغم من أهمية مهارة القيادة) بل قد يكون أحياناً غياب رجل بعزلٍ أو وفاةٍ أو غير ذلك لظروف معينة من الزمان أو المكان، أو اختلاف في اجتهاد أو رأي… قد يكون ذلك خيراً للأمة المسلمة، بل يجب أن تتربى أمة الإسلام على الارتباط بالله وَفْق المنهج الصحيح وعدم التعلق بأشخاص هم أدوات وأسباب لانتصار المنهج وسلامته، وعلى الأمة الإسلامية أفراداً وجماعات أن ترهن حياتها وعملها ومصيرها بالله مخلصة له مستعينة به عاملة له وحده لا شريك له. وقد أدى خالد بن الوليد رضي الله عنه دوره في مرحلة ربما يصعب أن يقوم بها غيره، كما أنه قد يصعب أن يستمر هو بالمرحلة التالية بعد كثرة الفتوحات واتساع البلاد الإسلامية وبعد تولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه مقاليد الخلافة الذي ينتهج سياسة أخرى مع الولاة والقادة، كما مرََّ عن الاختلاف وطبيعة عمر رضي الله عنه.

فهذه قمة الإخلاص والتجرد أن يتحول قائد إلى جندي تحت قيـادة أبي عبيـدة، ثم عياض رضي الله عنهم جميعاً. بل إن هذا من الدروس أن يعمل خالد قرابة أربع سنوات تحت إمرة القائد ثم القائد من عام 13 حتى عام 17هـ. وكل هذا لأن العمل لله، ولا حظ للنفس فيه؛ فاستوى عنده الأمران وتساوت عنده الحالتان، والمهم في هذا أن عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه وغيره حق من حقوق الخليفة الذي يسعى لمصلحة الأمة المسلمة، وهو أمر معتاد بين الخلفـاء والولاة في تحقيق المصالح ودفع المفاسد دون النظر إلى ذات الأشخاص فحسب. فالعزل والتولية حق للخليفة متى شاء مع من شاء، وقد عزل المثنى بن حارثة، وشرحبيل بن حسنة، والمغيـرة بن شــعبة، كما عزل سعد بن أبي وقاص عن الكـوفة بالرغم من أنه قال عنه إنه لم يعزله عن عجز أو خيانة، بل وضعه من أهل الشورى عندما حضرته الوفاة[24]، وولَّى أمراء وقُوَّاداً آخرين ولم يكونوا بأقل كفاءة ممن سبقهم.

وقد أجاد من كَتَبَ عن العدالة الاجتماعية كدروس وعبر من حياة الصحابة، ومما قاله حول عزل خالد رضي الله عنه: «إنها قصة عزل خالد عن إمارة الجيش في الشام وتوليتها أبا عبيدة رضي الله عنه، وخالد هو القائد الذي لم يُهزَم إلى ذلك اليوم في موقعة قط، وهو الجندي الذي تجري الجندية في كيانه في الجاهلية والإسلام، خالد هذا يُعزَل من الإمارة فلا يضطغن، ولا تأخذه العزة فينسحب من الميدان – ولا نقول يحاول الثورة – بل يظل في المعركة بالعزيمة ذاتها وبالرغبة في نصرة دين الله والاستشهاد في سبيل الله، لا يُلقي بالاً إلى هذه الاعتبارات كلها في الموقف، لأن اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على ضمير الفرد والحساسية المرهفة التي يُثيرها في ضميره فوق كل الاعتبارات، وفوق كل الملابسات»[25]

والدروس في هذه الروايات وهذه الأحداث التاريخية كثيرة سواء ما يتعلق بأبي بكر الصـديق أم بعمر بن الخطاب أم بخـالد بن الوليـد أم بغيرهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا سيما حول التوازن والتكامل بين الصـحابة زمن أبي بكر، ثم عمر، والقراءة والكتابة عن فقه الصحابة عامة في التعاطي مع الفروقات الفردية في المهارات، وعن سياسات عمر الإدارية، كل هذا مما يستحق الكثير من الأبحاث العلمية والدراسات التحليلية غير التقليدية.

من أدب الاختلاف وثمراته:

انعكس هذا الأدب بين الصحابة في جميع حالات اختلاف الرأي، وبرز هذا في آثار ونتائج عـزل خالد على الطرفين بأخلاقيات حسنةٍ عالية تجاهلتها الروايات المغرضة والتفسيرات المنحرفة من قبل المستشرقين وتلاميذهم.

ففيما يتعلق بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ورد أن عمر قال لخالد: «يا خالد والله! إنك عليََّ لكريم وإنك إليَّ لحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء»[26].

وورد عن تقدير عمر رضي الله عنه لمهارة وخبرة خالد وحرصه عليه ما يجب أن نقف عنده، حيث كتب عمر إلى أبي عبيدة رضي الله عنه عندما ولاَّه إمارة جند الشام بدل خالد رضي الله عنه «ومن احتجت إليه في حصـارك فاحتبسه، وليكـن فيمن يُحتبَس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه»[27]، وفي هذا الأثر الذي عليه مدار التعليق قال ابن سعد: «لما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه موت خالد بن الوليد رضي الله عنه استرجع مراراً ونكَّس وأكثر الترحم عليه وقال: «كان والله سدَّاداً لنحور العدو ميمون النقيبة»[28]. وقال في إحدى الروايات: «فوالله ما نقمت على خالد في شيء إلا إعطائه المال، والله ليته بقي ما بقي بالجماء حجر»[29]، والجماء جبيل من المدينة على ثلاثة أميال من ناحية العقيق إلى الجرف، فهو يتمنى زيادة بقائه. وفي الأثر عنـد ابن سعد قال عمر بن الخطاب حين بلغـه وفاة خالد رضي الله عن الجميع: «قد ثُلم في الإسلام ثلمة لا تُرْتَق»[30] .

وبالرغم من قول عمر رضي الله عنه وفعله المخالف لرأي أبي بكر رضي الله عنه إلا أن عمر قال: «يرحم الله أبا بكر، كان أعلم بالرجال مني، والله إني لم أعزله عن ريبة، ولكن خشيت أن يوكل الناس إليه»[31]، وكما أن هذا القول يعكس أدب الصحابة واحترامهم الرأي المخالف في الاختلاف فإنه يكشف عن التكامل كذلك فيما بينهم.

وأما ما يتعلق بخالد تجاه عمر رضي الله عنهما فقد ورد في ترجمة خالد في طبقات ابن سعد، ما يكشف عن رؤية خالد لعمر، وفيه قال خالد لأبي الدرداء رضي الله عنهما: «نِعْم العون هو [أي عمر] على الإسلام، والله يا أبا الدرداء! لئن مات عمر لترينَّ أموراً تنكرها…» إلى أن قال خالد: «كنت وَجَدتُ عليه في نفسي أموراً لَـمَّا تدبرتها في مرضي هذا وحضرني من الله حاضر، عرفتُ أن عمـر كان يريد الله بكـل ما فعل». إلى أن قال: «فرأيته فعل ذلك بغيـري من أهل السابقة ومَن شهد بدراً، وكان يُغلظُ عليَّ، وكانت غلظته على غيري نحواً من غلظته عليَّ، وكنت أُدِل عليه بقرابة، فرأيته لا يبالي قريباً، ولا لوم لائم في غير الله، فذلك الذي أَذهبَ ما كنتُ أجد عليه». وقد توَّج خالد رضي الله عنه هذه العلاقة والمحبة والمودة مع من عزله بقوله: «وقد جعلت وصيتي وتَرِكَتي وإنفاذَ عهدي إلى عمر بن الخطاب»[32].

والأمر المهم في هذا أن عمر رضي الله عنه لا يريد إلا الله بكل ما فعل كما قال خالد رضي الله عنه، وهذا هو المنطلق والميزان في التغيير والتبديل والتولية والعزل. وخالد يُحسن الظن ويُصرِّح لأبي الدرداء بما أراده عمر رضي الله عنه رغم أنه قد وَجَدَ في نفسه عليه بطبيعته البشرية التي لم تتعد دائرة الوجْد عليه لفترة محدودة مع حسن الظن، فلم يمنعه هذا الوجد من قول الحق؛ فرضي الله عن الجميع.

والخلاصة في أمر عزل خالد بن الوليد رضي الله عنه: أنَّ من أهم الأسباب والدروس هي: حماية جانب الإخلاص لدى خالد وعند الأمة المسلمة والخوف عليهم من الفتنة، وكذلك استيعاب الصحابة لمسائل الاختلاف الفطري البشري، والتعاطي مع هذه بأنها من مسائل الاجتهاد، وفي كل هذا تقدير اختلاف الطباع والجِبِلاََّت البشرية، وقد تربى الصحابة على أن العمل لله وحده قائداً كان أو جندياً متحولاً من القيادة؛ ففي الأمرين كليهما مجال للعبادة والطاعة بإخلاص، وإضافة إلى هذا فإن من فوائد هذا العزل الذي كان لخالد أنه كَشَف الطاقات الكامنة وأظهرها، وفي هذا ما يحقق التوازن والريادة في رصيد الأمة من القيادات جيلاً إثر جيل، ولَتربية الأمة على أن المبادئ والمنهج والمصلحة العامة للأمة الإسلامية أهم وأثمن، ومن ثَمَّ فهذه مما تُقدَّم على غيرها من الاعتبارات أيّاً كان الشخص المعني.

كما أن من الدروس أهميةً تربية الأمة بأن الانتصار على الأعداء في شتى الميادين مرتبط بأسباب أكثر وأعم من مهارة قائد أو والٍ، وهي سياسات تُؤدي إلى ميلاد المهارات في دماء جديدة وطاقات أخرى ملتزمة بالإخلاص كذلك، فتملأ الساحات المسلمة من أرصدتها المكنونة وطاقاتها المغمورة!

ومن الخلاصة: أن الحدث ونتائجه ليس خاصاً بخالد رضي الله عنه فحسب؛ وإنما على مرِّ التاريخ فكانت قيـادات أمة الإسلام تتغير ويصحبها النصر، لأن السر في سلامة المنهج في هذا الشأن، وليس في منهج السلامة، وكم هي الدروس والعبر في هذه الحادثة التاريخية تحـديداً؛ فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يرسم به منهجاً للأمة؛ إذ اختلف مع خالد على مسألة أو مسائل، لكن لم يهضمه حقه، فقد أوصى عمر به خيراً وأن يستفيد منه القائد الجديد «فإنه [أي خالد] لا غنى لك عنه»، ثم عبارات الثنـاء والقول العدل عن خالد حيّاً وميتاً. وقد مرَّ ذكر بعضها، وأعظم من ذلك أن خالداً المعزول قد قال عن عمر رضي الله عنه ما يجب أن يفهمه أرباب التسيد وطلاب المجد والشهرة «كان [أي عمر] يريد الله بكل ما فعل»، وقال: «لئن مات عمر لترين أموراً تنكرها». وقد التمس لنفسه العزاء ولغيره العذر من طبيعة عمر حينما قدَّرها حق قدرها فقال: «فرأيته [أي عمر] فعل ذك بغيري من أهل السابقة ومن شهد بدراً، وكانت غلظتـه على غيري نحواً من غلظته عليَّ» إلى غير ذلك مما سبقت الإشارة إليه في حوار خالد مع أبي الدرداء عن عمر، رضي الله عن الجميع، ويختم حيـاته مودِّعاً دار الدنيا إلى دار الآخرة بأن جَعَلَ وصيته وتَرِكتَه وإنفاذ عهده إلى أعزَّ الناس وأقربهم إليه وهو عمر بن الخطاب، فرضي الله عن هؤلاء الصحابة الذين نسوا أنفسهم أمام عقيدتهم ومبادئهم.

ومن الخلاصة كذلك: أن عمر وخالداً وغيرهما رضي الله عنهم أدركوا أجمعين أن هذا الدين قد انتصر – بحمد الله – حينما أخذوا بأسباب النصر سواء بخالد أم بغيره، وكل واحد يمثل حلقة ضمن سلسلة طويلة من قافلة طائفة الحق المنصورة، والكل محتاج إلى هذه القافلة قائداً أو جندياً، وميدان العمل واسع ورحب، والخاسر الحقيقي من يتخلى عن الثغرات كبيرها وصغيرها بمزاعم الإعفاء من البشر! أو كثرة التحـديات والعوائق، دون أن يعلم أن الله لا يكلف عباده بأمر ويَسُدُّ جميع أبوابه، فخدمة دين الله وعبادته والدعوة إليه تتحقق للقائد والمقود في العسر واليسر والمنشط والمكره. وإغلاق باب خير لا يعني انقفـال الأبواب الأخرى، لكن هذا الابتلاء مرهون بمجاهدة النفس المسلمة وتحمُّلها أمر هذا الدين وتشريعاته والدعوة إليه والصبر عليه كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، كما أن التوفيق بالهداية يتلازم مع مجاهدة النفس كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَـمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]، ثم بعد هذا يأتي اليقين بأن الله ناصـر دينه {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْـمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وأمر الله نافذ بِقَدَره وحده سبحانه {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: ٨٣]، وقطار الحق ماضٍ وسينتصر – بإذن اللَهَ – كلما أخذت الأمة المسلمة بأسبابه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم  في الحديث الصحيح: «لا تزال طائفة من أمتـي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة»[33]، وبهذه المفاهيم والمعاني عن النصر يتأكد لكل مسلم بأن النصر من عنـد الله، وأن المخلوقين إنما هم أسباب وأدوات لهذا النصر، كما أن الخَلْق ليسوا بأغير على دينه منه سبحانه وتعالى.

وكفى أن يعلم القارئ والمهتم أن المسلمين يعتقدون بأن الصحـابة بشر يُصيبون ويُخطئون، وأنهم ليسوا ملائكة معصومين من زلل الاجتهاد بالرغم من إيمان المؤمنين بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم  «عليكم بسُنَّتي وسنَّةَ الخلفاءِ الرَّاشدينَ المهديِّينَ من بَعدي»[34].

ومع وجوب السمع والطاعة للخلفاء من الصحابة والاقتداء بهم فإن ما ورد في مجمل الأحاديث والآثار في هذا الموضوع يكشف بوضوح كبير عن حق إبداء الرأي المختلف وحق التشاور السائد بين الصحابة أنفسهم مع الخليفة أو ولي أمر المسلمين آنذاك. كما كان هذا سائداً من الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  في أحداث كثيرة شهدت الاعتراض وإبداء الرأي المختلف بحرية مسؤولة وبقضايا كبيرة وصغيرة، لكن بما ليس عليه دليل قطعي من الكتاب والسنة، وذلك تعزيزاً للتفكير المستقل والرأي الحر والشعور بمسؤولية الجميع وشراكتهم تجاه قضايا الأمة التي هي حق للجميع.

 وتزخر الأحاديث النبوية وكتب السيرة بأمثلة كثيرة من التسامح والاحترام والأخذ برأي الآخرين، بل تقديم رأيهم – أحياناً – على رأي نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم  بكل أدب وتقـدير، ومن الأمثلة على ذلك ما حدث في غزوة الأحزاب: «فقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم  أن يَفُتَّ في عضد الأحزاب ويُفرِّق شملهم ليخفف عن أهل المدينة ضَنَك الحصار، بأن يصالح كبير غطفان عيينة بن حصن على سهم من ثمر المدينة لينسحب بمن معه من غطفان وهوازن ويخذل الأحزاب، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم  لذلك الأمر سَيِّديْ الأوس والخزرج من الأنصار: سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك، فقالا: يا رسول الله! إن كنتَ أُمِرتَ بشيء فافعله وامض له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف.

فقال صلى الله عليه وسلم : «لم أُؤمر بشيء، ولو أُمرت بشيء ما شاورتكما.. بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردتُ أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما». وسُرَّ صلى الله عليه وسلم  بقولهما، فقال لعيينة بن حصن، ورفع صوته بها «ارجع، فليس بيننا وبينكم إلا السيف»[35].

ومن الأحداث المشهورة عن التكامل في اختلاف الآراء ما ورد في السيرة النبوية حول قصة حفر الخندق وما فيها من احترام الرأي والمشورة، وفي الرواية: «أشار سلمان الفارسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم  يوم الأحزاب بحفر خندق حول المدينة، وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم  مشورته وأمر بحفر الخندق، وكان النصر للمسلمين»[36].

وبهذا يتضح نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم  على رأي الصحابة مُغيِّراً رأيه أحيـاناً أو متنازلاً عنه حيناً بلغة العصر، فاحترام الرأي المعترض بما ليس عليه دليل لدى الصحابة أمر مشهود ومعلوم في قضايا كبيرة وصغيرة، وقد قررَّ هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم  مع أصحابه حينما قال لهم: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»[37]، وهذا من أدبيات تقدير الآراء والتكامل في الاختلاف، وأخلاقيات التسامح بين المسلمين، وقيم السماحة في الإسلام، بل إن عدالة الخلافة الراشدة قامت على هذا من بعد عهد النبوة.

ومن المهم معرفة أن سياسة عزل الولاة والقـادة والاختلاف أحياناً؛ أمر معتاد بين الخلفـاء والولاة في أحداث مشهودة في التاريخ الإسلامي، وهي إيجابية وأفعال حسنة كما سبق إيضاحه حول تكامل القدرات والكفاءات، حتى قيل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنه لا يولِّي أحداً بأكثر من أربع سنوات، وهذا النهج الإداري هو ما تتشدق فيه بعض الأنظمة الإدارية الحديثة وقوانين الديمقراطية! وهذا مما ذُكر عن عمر من سياسات المحاسبة وتبادل الكفاءات «لقد هممتُ ألا أدع والياً أكثر من أربع سنين، إن كان عدلاً ملَّه الناس، وإن كان جائراً كفـاهم من جوره أربع سنين»، وبالرغم من عدم وصولي إلى مصدر يُوثِّق هذه المقولة إلا أن ابن حجر علَّق في فتح الباري، قائلاً: «مذهب عمر أنه لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين»[38] .

ومما يَحْسُن التنبيه إليه: أن كتـابات بعض المستشرقين أو كثير منهم فيها محاولات حثيثة لتشويه التاريخ الإسلامي بتضخيم بعض الروايات، أو تشويه بعض الأحداث التاريخية بتفسيرات خاطئة مما لا يتناسب ذكره مع موضوع هذا المقال، ولكن دوافع معظم هذه الكتـابات أغراض فاسدة في محـاولات تشويه النماذج الحيَّة والتطبيقات الناجحة من أعمال هذه الأمة وقياداتها؛ إذ كثير من التصريحات أو التلميحات والإيحاءات بنقل الروايات الضعيفـة والموضـوعة، وبالذات في كتابات المستشرقين، وهو ما يترك انطباعاً لدى القارئ بأن التطبيـق العملي لشعائر هذا الدين وأخلاقياته وقيمه غير ممكنة حتى عند الصحابة رضي الله عنهم؛ فكيف بمن جاء بعدهم؟ ولسنا هنا بصدد الرد على تلك الافتراءات فلذلك موضع آخر عند غيري من المتخصصين مشكورين مأجورين. وفي رأيي أن هذه المرحلة الاستشراقية المتصفة بالانهزامية الثقافية قد انتهت إلى غير رجعـة بإذن الله، فقد تجاوزتها أمـة الإسلام بصحوتها العلمية، ويقظتها الفكرية والثقافية، وباعتزازها بدينها، وثقتها بتاريخها المدوَّن بالأسانيد. ويمكن الرجوع – مثلاً – إلى ما كتبه الأستاذ محمد الصادق عرجون رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وذلك لمن أراد معرفة مدى افتراء المستشرقين والردود عليهم[39].

هذا ما أحسبه الصواب حول التكامل في الاختلاف وأدبه بين الصحابة وما يرتبط به من مسائل[40]، وهو ما يجب أن يكون فيمن بعدهم. وأسأل الله أن يحفظ علينا ديننا بحفظ ألسنتنا وأقلامنا من الوقوع في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكرمنا وإخواننا المسلمين بالاستفادة من هذه الكنوز العلمية والمعرفية في تاريخنا الإسلامي.

ويبقى أن أقول: إن هذا التقصي العلمي المتواضع إن كان صواباً فهو توفيق من الله ساقه ومَنَحَه، وإن كان خطأً فحسبي أنني أردت به الخير واجتهدت في الاستفادة محاولاً الإفادة مبتغياً مرضاة الله بكل ذلك، فأسأله – سبحانه – أن لا يحرمني أجره ونفعه.

 


[1] الفرق بين الخلاف وبين الاختلاف في الاصطلاح ذكرها أبو البقاء الكفوي في كلياته على أربعة وجوه: فالاختلاف: هو أن يكون الطريق مختلفاً والمقصود واحداً، وهو ما يستند إلى دليل، والاختلاف من آثار الرحمة، والمراد فيه اختلاف الاجتهاد، لا اختلاف الناس في الهمم، ولو حَكَم به القاضي لا يجوز فسخه من غيره، أما الخلاف: فهو أن يكون كلاهما مختلفاً، وهو ما لا يستند إلى دليل، والخلاف من آثار البدعة. ولو حكم به القاضي يجوز فسخه (الكليات لأبو البقاء الكفوي: ص61).

[2] طبقات ابن سعد:3/384.

[3] تاريخ دمشق: 5/557، مختصر تاريخ دمشق: 8/20.

[4] تاريخ دمشق: 5/775، سير أعلام النبلاء: 4/378.

[5] تاريخ دمشق: 5/561، الكامل لابن الأثير: 2/537، البداية والنهاية: 7/116، تاريخ الطبري: 4/68.

[6] البداية والنهاية: 7/76.

[7] البداية والنهاية: 6/322.

[8] البخاري: 7189.

[9] البداية والنهاية: 6/323.

[10] سير أعلام النبلاء: 1/372.

[11] صحيح ابن حبان: 7091، مختصر تاريخ دمشق: 8/15.

[12] طبقات ابن سعد: 5/42-43، مختصر تاريخ دمشق: 8/26.

[13] طبقات ابن سعد: 5/43.

[14] الإصابة: 2/255، تاريخ دمشق: 5/558، سير أعلام النبلاء: 1/397،

[15] تاريخ الطبري: 4/67.

[16] السنن الكبرى كتاب المناقب: 5/77، تاريخ دمشق: 5/559، التاريخ الكبير للبخاري: 54، مسند الإمام أحمد: 3/476، المعجم الكبير للطبراني: 22/298، مجمع الزوائد للهيثمي: 9/350.

[17] طبقات ابن سعد: 5/42، مختصر تاريخ دمشق: 8/25.

[18] السياسة الشرعية لابن تيمية: ص30.

[19] المنتقى من منهاج الاعتدال: ص362.

[20] صحيح مسلم: 1826.

[21] سنن الترمذي: 3801.

[22] السياسة الشرعية: ص16.

[23] كتاب خالد بن الوليد: ص318.

[24] صحيح البخاري: 3/1356، تاريخ الخلفاء الراشدين لمحمد أبا الخيل: ص168-170.

[25] العدالة الاجتماعية في الإسلام: ص131 – 132.

[26] تاريخ الطبري: 4/68، تاريخ دمشق: 5/560، الكامل لابن الأثير: 2/537، سير أعلام النبلاء: 1/380.

[27] تاريخ دمشق: 2/126.

[28] طبقات ابن سعد: 5/42.

[29] طبقات ابن سعد: 5/43.

[30] طبقات ابن سعد: 5/43، وقال عمر أيضاً من رواية ابن سعد كذلك: «يرحم الله أبا سليمان لقد كنا نظن به أموراً ما كانت» طبقات ابن سعد: 5/43، مختصر تاريخ دمشق: 8/27.

[31] البداية والنهاية: 4/71.

[32] طبقات ابن سعد: 5/42.

[33] سلسلة الأحاديث الصحيحة: 1/478.

[34] أبو داود: 4607، الترمذي: 266.

[35] سيرة ابن هشام: ٣/٢٣٤، تاريخ الطبري: 2/٥٧٣، الاستيعاب: 2/32.

[36] ابن هشام: 3/175، تاريخ الطبري: 2/566.

[37] صحيح مسلم: 2363.

[38] فتح الباري: 2/755.

[39] خصص عرجون – مأجوراً إن شاء الله – الفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه: (خالد بن الوليد) للرد على هذه الافتراءات حيث قدَّم دراسة وافية من حيث الاستنباط والاستنتاج وتفسير بعض الروايات التاريخية، ولم تكن كذلك من حيث منهجية دراسة الأسانيد وجمعها – فجزاه الله خيراً على هذا العمل في دحض الشبهات عن التاريخ.

[40] كُتبت هذه الورقات عن هذه المسألة التاريخية زمن البحث في طبقات ابن سعد في دراسة الدكتوراه حوالي عام 1410هـ ولم تُنشَر، وكانت ترجمة خالد بن الوليد رضي الله عنه ضمن تراجم الطبقة الناقصة من المطبوع من طبقات ابن سعد، وقد تم مؤخراً مراجعتها علمياً، فكانت إضافات يسيرة عليها.

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى