بقلم أمير سعيد
في الحضارة الإسلامية، يهدف التقدم في التقنية والإبداع في العمران والمدنية إلى تحقيق مفهوم خلافة الإنسان في الأرض، بما يقتضيه ذلك من إقامة القسط وتحقيق قدر من الراحة وحفظ خصوصية المرء وحريته التي لا تصادم الشرع وحقوق الآخرين. في الحضارة الإسلامية يحكم التمدنَ والعمرانَ أخلاقُ الإسلام وآدابه الرفيعة وعدله الدقيق.
لكن في “الحضارات” الأخرى، ثمة استخدامات مجحفة للتقنية والتقدم العلمي تجعل كثيرين يتمنون لو أن مثل هذا التقدم لم يحصل، ولم ينتهك خصوصيات الناس ويجرح استقلالهم الذاتي، والأمثلة على الاستخدام غير الأخلاقي للأبحاث العلمية في مجالات العسكرية والصحة والأغذية ونحوها أكثر من أن تعد، حيث دفع مئات الملايين أرواحهم بسبب هذا الاستخدام غير الأخلاقي للتقدم العلمي الهائل الطارئ على البشرية خلال القرنين الماضيين.
نموذجان فقط من بين آلاف النماذج، التي استخدمت فيها التقنية للاستبداد، واختراق خصوصيات الناس، وتقييد حرياتهم، يكفيان للدلالة على هذا التعدي السافر الذي نجم عن تأخر المسلمين عن الريادة العلمية في العالم، بما أفسح المجال للعابثين بمصائر الشعوب في الإفادة من التقدم العلمي لكبت حريات الناس وترويض الشعوب وانتهاك حقوقهم الإنسانية البسيطة.
نموذج الأقصى المبارك، حيث استخدمت “إسرائيل” التي يحلو لمفكريها وكتابها وصفها بأنها “واحة الديمقراطية” وسط الديكتاتوريات (العربية)، التطور الهائل في وسائل المراقبة في تقييد حريات المسلمين، والتلصص على المصلين في المسجد الأقصى المبارك، وباسم الأمن ومكافحة الإرهاب وضعت مسجداً مقدساً وسط غابة من كاميرات وأجهزة التنصت والمراقبة الدقيقة للحؤول دون قيام المسجد بدوره الرائد في مجالات التعبد والتوجيه والإرشاد والتقويم والتوعية والتعليم. كما أخضعت المصلين الآمنين لأجهزة التفتيش الدقيقة وقيدت حريات المصلين وألزمتهم بالمضي إلى المسجد في طوابير طويلة لمجرد أداء صلواتهم اليومية!
هكذا استخدمت التقنية للنيل من حرمات المساجد، وانتهاك حريات المصلين، وانتزاع أمنهم وطمأنينتهم، ولولا أن الله يسر للفلسطينيين مناهضة هذا الاستبداد التقني بما يتوفر لهم من وسائل بسيطة فاعلة لظل القيد في أيدي المصلين في مسرى النبي صلى الله عليه وسلم.
نموذج آخر، هو النموذج التركستاني، حيث الاضطهاد الشديد على المسلمين في دولة تركستان المحتلة من قبل الصين يأخذ معنى جديداً مع الاستخدام الاستبدادي للتقنية في الصين؛ فلقد أرغمت سلطات الاحتلال مسلمي الإيغور في تركستان على تحميل برنامج “جينوانغ” على هواتفهم المحمولة، والذي وصفته وسائل إعلامية صينية بأنه “تطبيق الأخ الأكبر” تخفيفاً لأثر دوره التضييقي في مراقبة هواتف المسلمين، فالبرنامج يراقب الملفات الشخصية على الهواتف المحمولة بهدف ما دعته السلطات بـ”تحديد المواد الإرهابية والدينية غير القانونية، من فيديوهات وصور وكتب ومستندات إلكترونية”، كما يتلصص البرنامج على تطبيقات المحادثات وبياناتها، والمعلومات المخزنة على شرائح الهواتف المحمولة لنقلها إلى خادم تتحكم به الحكومة.
والعجيب أن السلطات مع فرضها لتحميل هذا البرنامج قد توعدت متجاهلي توجيهاتها المتعسفة تلك بالاعتقال لمدة 10 أيام، ووضعت حواجز لتفتيش الإيغوريين في الطرقات ومداخل المحطات والأماكن العامة لضمان تحقيق هذا الإجراء الاستفزازي القاهر.
هذان النموذجان لا يمثلان إلا قطرة في بحر الاستبداد التقني الصاعد الذي ينتهك خصوصيات الناس، ويكتم أنفاسهم، ويصادر حرياتهم، والذي يمتد في دول تدعي الديمقراطية وإطلاق الحريات العامة والشخصية، وأخرى لا تدعي هذا “الشرف” المزعوم. هذا الاستبداد قد يجعل من الحياة البدائية القديمة يوما ما أملاً وحلماً لساكني الكرة الأرضية، حيث نال التطور والتمدن والتقنية من أساؤوا استخدامه؛ فعمدوا إلى التضييق على حريات الناس وانتهاك خصوصياتهم الشخصية باسم تحقيق الأمن وضمان سيادة القانون!
(المصدر: موقع المسلم)