التقلبات الفكرية في الصحوة الإسلامية: سيد قطب وعبد الله عزام نموذجًا
بقلم د. محمد جلال القصاص
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
بثلاثة مفاهيم أضافها الأستاذ سيد قطب، وهي “جاهلية المجتمع”، و”العزلة الشعورية”، و”الفئة المؤمنة”، حدث تحول في مسار الصحوة الإسلامية، من العداء للأجنبي المحتل والسلطة السياسية الموافقة له إلى العداء للمجتمع. دخل الأستاذ سيد قطب في صورة ذهنية متوهمة. ظنّ أنه يعيش العهد المكي حيث المجتمع جاهلي. وظن أن علاج هذا الظلام يبدأ من إيجاد عددٍ قليل من الناس يحققون الإيمان في أنفسهم فيتنزل عليهم النصر ويمكن لهم في الأرض.
واستقر في حس الذين أنصتوا له أنهم قلة مؤمنة تواجه الجميع، ومن هنا جاءت فكرة العزلة في مكان والتمدد منه لغيره، وذلك في محاولة لاستنساخ نموذج الفتوحات الإسلامية. ولاقت هذه الفكرة رواجًا عند “الأنساق المغلقة/ الجماعات” كما بينت من قبل [انظر للكاتب: “هل كان سيد قطب مجددًا”، و “سيد قطب والسؤال الأصوب”].
وبدأت التطبيقات العملية لأفكار سيد قطب، وكانت البداية منه هو نفسه فيما عرف بتنظيم 1965م، ولم يستطع شيئًا، فقد قضي على محاولته قبل أن يخرج من بيته؛ ثم حاول شكري مصطفى (مؤسس جماعات التكفير الحديثة في مصر)، وكان شابًا في العشرينات، ظن شكري مصطفى أن المطلوب هو تقليد السيرة النبوية بخطواتها. كأنه قد بعث في الكافرين كما بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، في أم القرى ومن حولها، فدعا سرًا، ثم علانية، ثم هاجر بمن أطاعه إلى مغارات في جبالٍ بمحافظة المنيا، وذلك لبناء مجتمع مسلم ينمو ويتمدد على غيره، وفي التفاصيل أنهم (شكري ومن أطاعه) كانوا يتعاملون مع أنفسهم فقط كأنهم مجتمع مستقل، وبعد هجرته وإقامته رفقة من حوله جلس ينتظر النصر والتمكين، وحدّث من حوله في السجن بأنه إن قتل (أعدم) فهو على غير الصواب. وقتل.
نسي شكري مصطفى أنه بدأ الدعوة صغير السن (بدأ في العشرينات وأعدم في السادسة والثلاثين) وأن الله أوحى إلى نبيه، صلى الله عليه وسلم، بعد أن تجاوز الأربعين، ولربما لو انتظر حتى تجاوز الأربعين لما أقدم على شيء مما فعل، فبلوغ الأربعين نضوج (حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَة) (الأحقاف:15).
وكان من رفقاء شكري مصطفى طه السماوي، بدأ صغيرًا كما بدأ شكري، متكئًا على لباقته ونشاطه الحركي، وحاول مثل الذي حاول: دعا وكون أتباعًا، ثم اعتزل في مكانٍ (الخطاطبة) وحاول بناء “الفئة المؤمنة” و “المجتمع المسلم” ثم انفضوا بعد قليل وعادوا من حيث جاءوا.
وظهرت محاولات أخرى في إمبابة ونحوها كانت، بشكلٍ ما، امتدادًا لذات التجارب التي خرجت من كتابات الأستاذ سيد قطب: فئة قليلة تحاول إقامة “المجتمع المسلم” وتواجه الجميع اتكاءً على أنها حققت الإيمان بالله.
وفي الحالة الجزائرية مثل ذلك، وذلك حين اجتمع أغلبهم على القتال بعد فشل التغيير من خلال المشاركة السياسية. كان أول ما فعلوه هو البحث عن جغرافيا يقيمون عليها “المجتمع المسلم”، فاتجهوا إلى العزلة في المناطق الجبلية وحاولوا تطبيق الشريعة الإسلامية في المناطق الخاضعة لهم والتمدد منها إلى غيرها، وذلك ابتداءً من فترة شريف القوسمي (أبي عبد الله) وهي الفترة التي اجتمعوا فيها على قيادة واحدة.
وذات الشيء حدث في جماعات “الساحل والصحراء” حين أتتهم قوة، وذلك بعد هلاك القذافي وانتشار السلاح، حيث حاولوا الاستيلاء على منطقة جغرافية وأنشأوا ما عرف بـ “إمارة تمبكتو” وسارعوا إلى تطبيق الشريعة وإنشاء مجتمع يدار وفقًا لرؤيتهم ويحاول التمدد على غيره. وذات الشيء فعلته الجماعات المسلحة الصغيرة في سوريا بعد ثورة 2011، وفي اليمن عدة مرات، والتجربة الأشهر هي تجربة تنظيم الدولة (داعش)، والذي استطاع الاستيلاء على مساحة جغرافية وحاول التمدد منها لغيرها.
وهذا التيار من الإسلاميين هو الذي خلا خياله من تصورٍ للدولة.. لم ير القائمون، والمنتسبون، لهذا التيار حاجة لمعرفة التحديات الخارجية والتعامل معها، فكل المطلوب عندهم هو تحقيق الإيمان وتكوين الفئة المؤمنة ثم العزلة وإقامة مجتمع يتمدد على غيره. وبعد إجهاض النظم المحلية لمحاولات هذا التيار المتكررة تراجعت الفكرة إلى العزلة داخل “بيت الدعوة”، كأن البيت هو “الفئة المؤمنة” التي ستواجه المجتمع وتتمدد عليه!!
والحقيقة أن ما يقال عن جماعات “شكري مصطفى” و “طه السماوي” و “داعش” يقال عن “بيت الدعوة” فالأسرة لا تستطيع أن تعتزل المجتمع وتواجهه، ولا تستطيع، أيضًا، أن تعزل المجتمع دون أن تواجهه، والمجتمع له أنياب حادة تمزق الأسرة، فمؤسسات التعليم التي تقوم بتغيير مفاهيم الأسرة من خلال المعرفة التي تبثها ومن خلال الاختلاط، ووسائل التواصل الاجتماعي التي جعلت الكل يتكلم فتاهت الحقيقة، وتم تقديم رموز جديدة بلا تأهيل حقيقي، وجعلت الوصول لكل أحد متاح… وغير ذلك مما حرّك المجتمعات في اتجاه النموذج الغربي، أو في اتجاه تبديد “بيت الدعوة”، كما فُعِلَ بالحركات والتنظيمات التي حاولت الاعتزال والتمدد…
لم تصمد واحدة من هذه التجارب في مواجهة نظم الحكم المحلية؛ إلى أن جاء الشيخ عبد الله عزام ودشن تجربةً جديدة على النقيض تمامًا من أطروحة الأستاذ سيد قطب. تجربةً تتصالح مع المجتمع (الجماهير) لا أنها تكفره وتصفه بأنه جاهلي.. فمن القول بجاهلية المجتمعات واستبطان تكفير العوام إلى الاصطفاف معهم ومحاولة قيادتهم إلى هدفٍ “مشترك”، ومن القول بالعدو القريب (التمدد من خلال الفئة المؤمنة للذين يلونهم من الجاهليين وأنظمة الحكم المحلية) إلى قتال القوى “العظمى” وذلك بعد تجربة الجهاد ضد السوفيت على أرض أفغانستان. حيث دعا عبد الله عزام إلى قيادة الجماهير (الأمة) لمواجهة (قتال) القوى العظمى (أمريكا وحلفائها) وإنهاء الوجود الأجنبي على أراضي المسلمين وخاصة الجزيرة العربية وبيت المقدس. والسؤال: كيف نشأت الفكرة في رأس الشيخ عبد الله عزام؟، كيف تحرك عبد الله عزام للاتجاه المعاكس الذي يسير فيه سيد قطب؟ يبدو لي بوضوح تام أن هذه الأفكار نبتت في رأس الشيخ عزام من قراءة للتفاعلات الدولية والإقليمية حال الحرب ضد السوفيت والحزب الشيوعي على أرض أفغانستان. ظنوا (هو والذين جاءوا من بعده.. تحديدًا أسامة بن لادن ومن شاركوا في تأسيس تنظيم القاعدة) أنهم هم الذين هزموا الاتحاد السوفيتي، برغم تأخر، وبرغم محدودية، مشاركتهم في الحرب ضد الحزب الشيوعي والسوفيت؛ وظنوا أن بإمكانهم هزيمة الولايات المتحدة وحلفائها.. وانتشر حديث عن ضعف قدرات المقاتل الأمريكي مقارنة بالمقاتل السوفيتي.. كأن الحرب ستكون وجهًا لوجه (رجلٌ لرجل بذات السلاح). وظنوا أن الجماهير تقف خلفهم وتؤيدهم، كما أيدوا المقاتلين الأفغان؛ وبالتالي يمكنهم قيادة الأمة لإنهاء سيطرة الولايات المتحدة وحلفائها والقضاء على أنظمة الحكم المحلية واستبدالها بنظم حكم خاصة!!
وهذا التفكير في غاية العجب، فلم يتجمع المقاتلون العرب في أفغانستان إلا بإذن ومعونة من النظم المحلية والقوى الإقليمية والدولية، ولم يخاطبوا الجماهير إلا من خلال الأدوات الإعلامية للنظم وفي المساحات التي أُتيحت لهم، ولم تتجاوب معهم الجماهير إلا بعد أن أفسحت السلطات المحلية الطريق لذلك، ومشهور جدًا الدعم السعودي لمن شاء الذهاب لأفغانستان ثم البوسنة والهرسك والشيشان، وأهم من ذلك أنهم لم يشاركوا في القتال ضد السوفيت إلا قليلًا، فقد تم تأسيس “مأسدة الأنصار” مع نهاية الحرب ضد السوفيت؛ بمعنى أن مشاركة العرب في القتال كانت محدودة جدًا، ولم تكن ذات أثر يذكر. ويظهر قلة عددهم وضعف قوتهم من هزيمتهم في معركة جلال أباد، حيث استأنس المقاتلون العرب من أنفسهم قوةً فحاولوا الهجوم على مدينة جلال آباد وحدهم.. دون القوات الأفغانية الصديقة، فتعرضوا لهزيمة مدوية، حيث كانت المدينة محصنة بمقاتلين يمتلكون تسليحًا يفوق ما عند العرب. وبعد الهزيمة في جلال أباد، لم يتجه عبد الله عزام وأسامة بن لادن للبحث عن الأخطاء ومعالجتها والوقوف على قوتهم الحقيقية في أرض الواقع، وإنما اتجها للتنديد بالولايات المتحدة الأمريكية والحديث عن أن هذه مؤامرة دبرت لهم من الخارج بالتعاون مع الباكستانيين.
وبدأ التنظير لهذا الإطار الفكري الجديد المتولد من قراءة عجولة للواقع، فخرجت أطروحة أبو مصعب السوري التي تنادي بعولمة الجهاد.. تنادي بأن يكون الجهاد فريضة على كل مستطيع في مكانه؛ والعجيب أن هؤلاء تصالحوا مع الجماهير وتخاصموا مع علماء الأمة فلم ينفك أبو مصعب السوري أن يعلن في كل مناسبة تكفيره لعلماء الأمة ودعاتها سواءً أكانوا سلفيين أم رسميين.
وبدأ التطبيق لرؤية عبد الله عزّام في اتجاهين: أولهما: استنساخ التجربة الأفغانية على أرض اليمن الجنوبي.. ضد بقايا الشيوعية. وفشلت التجربة.. أو بالأحرى لم تستطع أن تبدأ. مع أن اليمن أقل الدول العربية من حيث سيطرة السلطة المحلية على الأرض والشعب (لعامل القبلية، والجغرافيا الجبلية، وضعف إمكانات النظام المادية)، والثاني: هو إصدار فتوى تبيح قتل الأمريكان وحلفاءَهم في كل مكان، وهو ما أطلق عليه “الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين” [انظر: أيمن الظواهري: فرسان تحت راية النبي، ص185-187]، وبدأت مجموعة منظمة (القاعدة لاحقًا) تتحرك في اتجاه قيادة الجماهير لقتال القوى العالمية في كل مكان، فكانت أحداث 11سبتمبر2001م، ثم كان احتلال أفغانستان وانتهت تجربة تنظيم القاعدة سريعًا دون أن تحقق شيئًا من أهدافها، فلم تستطع توحيد المسلمين، ولا توحيد الحركات الإسلامية على مستوى الرؤية أو على مستوى الفعل، ولم تستطع هزيمة القوى الكبرى ولا النظم المحلية والإقليمية، ولم تستطع حشد الجماهير خلفها. وفقد التنظيم رموزه ونقاط ارتكازه وكثيرًا من المناطق التي حقق فيها انتشارًا. ومن المفارقة أنّ الذي استفاد من فترة صعود التنظيم وحضوره إقليميًا ودوليًا كان قوى أخرى معادية له مثل إيران والنظم السلطوية التي انقضت على أنشطة الحركات الإسلامية المسالمة وقضمتها ثم هضمتها وتغذت عليها وسمنت بها، وكذلك القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وجدت مبررًا للقدوم إلى وسط أسيا ومحاصرة الصين ومزيد من التأمين لمصادر الطاقة في الخليج والتي تتحكم بها في الصين وغيرها، فقد وفرت رعونة الحركات الإسلامية فرصًا عديدة لخصومهم.
ثم اختفت فكرة قيادة الجماهير بعد أن فشلت، وظهرت من جديد فكرة الفئة المؤمنة التي تتمركز في مكانٍ ثم تنمو وتتمدد منه لغيره، وفي هذا السياق بدأ الحديث عن “إدارة التوحش”، بمعنى البحث عن منطقة فوضى (توحش).. منطقةٍ بلا سلطة مركزية كي يستطيعوا بناء كيانٍ فيها وينطلقون منه لغيره، فكانت العراق هي هذه المنطقة، ومعلوم أن التنظير لفكرة “إدارة التوحش” جاء متأخرًا بعد أن بدأ التمركز في العراق، وأصل الفكرة هو “الفئة المؤمنة” / “النسق المغلق” الذي يتمركز ثم يتمدد، عادوا إلى تطبيقه بعد فشل القاعدة في تجربة نظريتها الجديدة (قيادة الجماهير ضد العدو القريب).
وتعثرت تجربة “الفئة المؤمنة” التي تكون مجتمعًا يتمدد على غيره مرةً أخرى، فقد قضي عليها بأيدي سنية محلية (الصحوات). ثم عادت فكرة الالتصاق بالجماهير بعد الانتفاضات الشعبية في 2010، 2011، تخلوا عن فكرة تكفير الجماهير وأصدر أيمن الظواهري سلسلة طويلة من الأحاديث للجماهير الثائرة، وبدأت مفردات جديدة تظهر على السطح من جديد، تعبر (هذه المفردات) عن اصطفافٍ مع الجماهير في صحوتها ضد النظم المستبدة. ثم لم تلبث أن فارقت الخيار الشعبي مرة ثانية بعد تعثر ثورات “الربيع العربي”
ماذا يحدث؟!
لماذا هذا التردد بين الأضداد؟!
ما يعنيني هنا هو أن الحالة الإسلامية في ورطة حقيقية، وتتحرك بين خياراتٍ محدودة كلها تكرر فشلها، ولابد من التفكير في إنتاج إطار فكري جديد، ونقطة البدء من التخلي عن أن الحركات الإسلامية كيان مستقل يواجه الجميع، إلى إطار مجتمعي، يعملون من خلاله في تخصصات المجتمع الطبيعة: المجال الديني بتفريعاته، والمجال السياسي بقوانينه المجتمعية، والمجال الاقتصادي… إلخ. ويكون الإصلاح لتخصصات المجتمع لا بإنتاج “فئة” تواجه الجميع…
سأعود مرةً أخرى إن شاء الله، لمناقشة ظاهرة الحركات الإسلامية من زاوية أخرى، أحاول في كل مرة الكشف عن حالة التخبط والعشوائية، وفقدان التراكمية في الخبرات من التجارب، وأن كل جيل يكرر أخطاء الجيل السابق، وأن الحركات الإسلامية بجملتها خروج عن السياق… والله أسأل أن تجد كلماتي هذه من يفكر ويتأمل ويصحح..
المصدر: طريق الإسلام