مقالاتمقالات مختارة

التفسير البهلواني للقرآن

بقلم شريف محمد جابر

التفسير البهلواني للقرآن

البهلوان وظيفة يجسّدها شخص بهدف ترفيه البشر وإثارة إعجابهم، ولا أحد يأخذ حركاته على محمل الجدّ، حتى الأطفال، ربما يكون انبهارهم بما يقدّمه أكبر، ولكنهم مع ذلك يدركون أنه في نهاية الأمر مجرّد “بهلوان”، ليس جادّا فيما يقدّمه من حركات ومشاهد ترفيهية. العجيب أنّ بهلوانية البهلوان هذه قد انتقلت إلى حقول أخرى من النشاط الإنساني، وإنْ كان مَن يمارسها لا يلوّن وجهه بالألوان الفاقعة. وفي سياق التخلّف العربي الذي نعيشه نشأتْ البهلوانية في حقل من غير المتوقّع أن تنشأ فيه، وهو حقل تفسير القرآن! ففي ظلّ محتوى إعلامي يقدَّم للمشاهِد والقارئ العربي ولا يهدف إلا إلى الإبهار، لم تعدْ هناك أيّة قيمة لتقديم المحتوى المعرفي الجادّ والرسالي والهادف، بل صارت القيمة كل القيمة للغريب أو الـ exotic، وصارت القنوات التلفزيونية، التي تحرص على إبقاء حالة التخلّف العربي، تستقطب النماذج التي تقدّم هذا الطرح حول الدين والقضايا الاجتماعية، بهدف زيادة عدد المشاهدات وشعبية القناة، لا بهدف تقديم أي ذرّة من الوعي للجمهور!

يخرج علينا شخص غارقٌ في الكوارث اللغوية مثل محمد شحرور، مدعومًا بآلة إعلامية “خليجية” قوية، ليخبرنا بأنّ تفسير مطلع سورة الفجر هو على النحو التالي: {والفجر} هو “الانفجار الكبير”! {وليالٍ عشر} أي المراحل العشر التي مرّ بها الكون المادي حتى ظهر الضوء! {والشفع والوتر} أي النيتروجين! وسنغضّ الطرف عن المجازفات والمغالطات العلمية التي وقع بها، فليس هذا المقصود، بل المقصود ملاحظة هذه النزعة إلى بناء خطاب معاصر يستخدم مصطلحات علمية حديثة ويلعب لعبة الموافقات العددية واللفظية مهما كانت بعيدة ومضحكة.

قيم القرآن وأحكامه ورسالته التي يحملها تلائم إنسانَ كلّ عصر لكونها تخاطب الإنسانيّ الذي فيه، ولا تخاطب شكل ملابسه أو مستوى تقنياته أو كشوفاته العلمية

ويخرج علينا شخص يشبهه في ضعف أدواته اللغوية، وهو علي منصور الكيالي، ليفسّر سورة القدر تفسيرًا نسويّا له جمهوره، فيزعم أنّ الليلة المذكورة فيها لها طابع أنثوي وهو السكون، أما الفجر فهو ذكوري لأنه يأتي بصخب النهار! ولهذا فالطاقة الإيجابية في ليلة القدر -بزعمه- هي طاقة أنثوية، وقوله {سلامٌ هي حتى مَطلَعِ الفجر} أي حتى يدخل الصخبُ وعاملُ الذكورة، فينسحب حينئذ الملائكة عن توزيع هذه الطاقة الأنثوية! وفي سياق آخر تصبح آيات القرآن “وصفة صحّية” وتخرج عن دورها الرسالي القيمي، فيصبح قوله تعالى في سورة الواقعة {وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} دليلا على وجوب تقديم أكل الفواكه على المشتقات الحيوانية لصحّة الإنسان!

في هذه الحالات جميعا يلعب الجمهور “المخاطَب” دورًا كبيرا في بقاء الحالة البهلوانية وتعزيزها؛ لأنّ جمهور هذا الخطاب البهلواني هو جمهور يبحث عن “اللذّة” لا عن “الرسالة”. إنّه جمهور من أولئك الذين يشاهدون هذه المقاطع ويقولون: “بششش.. سبحان الله”، أو “شوف بيقلك بلا بلا بلا”، إلى آخر هذه الاستجابات “الانبهارية” التي تعكس نفسية متعطّشة للإبهار أكثر من كونها نفسية تبحث عن رسالة القرآن.

وفي ظلّ ذلك كلّه تغيب رسالة القرآن، تلك الرسالة التي قال عنها الإمام أبو بكر الآجري (ت 360 هـ) في كتابه “أخلاق أهل القرآن”: “ومن تدبّر كلامه عرفَ الربّ عزّ وجلّ، وعرفَ عظيمَ سلطانه وقدرته، وعرفَ عظيمَ تفضُّله على المؤمنين، وعرفَ ما عليه من فرض عبادته فألزمَ نفسَه الواجب، فحذِر مما حذّره مولاه الكريم، ورغبَ فيما رغّبهُ فيه. ومَن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره؛ كان القرآن له شفاءً فاستغنى بلا مال، وعزّ بلا عشيرة، وأنسَ بما يستوحش منه غيره. وكان همّه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها متى أتّعظ بما أتلو؟ ولم يكن مراده متى أختم السورة؟ وإنما مراده متى أعقلُ عن الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنّ تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة”.

وقد يقول أصحاب تلك الحالة البهلوانية إنّ القرآن نزل ليخاطبَ جميع البشر في جميع العصور، وليواكب التطوّر الحاصل في كل عصر، وإنّنا في عصرنا هذا لا يمكننا الاستناد إلى تفسيرات قديمة مرتبطة بأفق علمي ضحل، بل نحتاج إلى تفسير القرآن وفقا لآخر النظريات العلمية! وهو زعم باطل؛ لأننا لو جئنا إلى تلك التفسيرات سنجدها تتمسّح بالمصطلحات العلمية تمسّحا سطحيّا، ولا تصنع العقلية العلمية. وليس التطوّر ومواكبة العصر أن تأتي بنظريات واصطلاحات علمية حديثة وتربطها بخطاب إيماني قيمي كيفما اتّفق، بل تكون المواكبة في تقريب المفهوم القرآني والقيمة التي تحملها الآيات إلى عقول أبناء هذا العصر، حتى تصير فاعلة فيهم كما كانت فاعلة في الرعيل الأول من الصحابة (للمزيد راجع تدوينتي “العلوم والقرآن.. بحران لا يلتقيان”).

وعند التفصيل سنجد أنّ هذا الزعم لا قيمة له؛ فما علاقة التطوّر التقني مثلا بتغيير معنى الفجر والليالي العشر في سورة الفجر؟ ألم يعد أبناء عصرنا يشهدون ظاهرة الفجر والنهار والليل؟ وما المانع في أن تكون الليالي العشر عَشرَ ليالٍ ممّا نعرف لا مراحل كونية مزعومة؟ وما القيمة العلمية الجديدة التي يقدّمها شحرور في هذا التفسير البهلواني؟ وهل يظنّ أنه سيقنع بهذه التخرّصات المجتمعَ العلمي ليقول “وااو” ويدخل في دين الله أفواجا؟ أم -كما سيحدث في الواقع- سيُنظر إليه من الجادّين نظرةَ استخفاف، وسيرسّخ تلك النظرة إلى المسلمين المعاصرين بأنّهم يحاولون بطرق متعسّفة جعلَ القرآن الإلهي تبعًا للنظريات العلمية البشرية، كمحاولة بائسة لإقناع الناس به، تعكس اهتزاز الثقة بالقرآن وبقدرته الذاتية على مخاطبة أهل كلّ عصر!

 الواقع أنّ هذه الظواهر البهلوانية تنتمي إلى سياق التخلّف العربي في المجال الثقافي والعلمي، ولا علاقة لها بالتحضّر والتطوّر. ولو كانت جادّة في اتجاهها العلمي، وتسعى إلى الاستفادة من تطوّر أدوات البحث العلمي في النصوص لَبَنَتْ على جهود القدماء العلمية وطوّرتها كما يتم في أي حقل علمي في الأكاديميا اليوم، ولم تنتكس إلى هذا المستوى المضحك من الاستدلالات المتهافتة.

  

إنّ قيم القرآن وأحكامه ورسالته التي يحملها تلائم إنسانَ كلّ عصر لكونها تخاطب الإنسانيّ الذي فيه، ولا تخاطب شكل ملابسه أو مستوى تقنياته أو كشوفاته العلمية. والإنسانُ -مذ كان على هذه الأرض- يشهدُ ظاهرة النهار والليل المتعاقبين، فتصنع في نفسه شتى التأثيرات، والسورة نفسها تختم هذا السياق في مطلعها بقوله تعالى {هل في ذلك قَسَمٌ لذي حِجر}؟ فهي تدعو الإنسان إلى التفكّر في هذه الأشياء التي أقسم بها الله عزّ وجلّ ليُعلمك بأهميّتها وضرورة تدبّرها. وقد يخرج المتدبّر بحقيقة الحياة والموت المتعاقبين كالنهار والليل، كما قال سبحانه في سورة آل عمران: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وهو سبحانه القائل في نفس السورة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ}.

وفي هذا التفكّر بهذه الحقائق الكونية وبكونها آيةً للإنسان تدلّه على الخالق الحكيم، وإسقاطها على حياة الإنسان.. في هذا كلّه خيرُ تهيئةٍ لما جاء في السورة بعد ذلك مِن حكاية ما فعل الله بقوم عاد وثمود وفرعون الذين طغوا وأفسدوا ثم عذّبهم الله وأبادهم. ومِن تعاقُبِ حالتَي إغداق النعمة وتضييق الرزق على الإنسان وما فيهما من ابتلاء. ومِن ذكر الآفات الأخلاقية التي كانت تنخر في المجتمع الجاهلي: ظلم الأيتام والمساكين، والظلم في الميراث والتعلّق الشديد بالمال. ثم عرض مشاهد القيامة عرضًا يهزّ النفوس، ونهاية رحلة الإنسان في هذه الدنيا وندمه على ما فاته من عمل صالح فيها ينفعه في الآخرة. ثم مشهد النفس المطمئنّة، وخطابُ الله لها، ذلك الخطاب المؤنِس الرضيّ، وما فيه من تكريم ووعدٍ بالجنّة للمؤمنين.

هذا هو سياق السورة، وهو سياقٌ دافعٌ للإيمان، يخاطب الفطرة البشرية في كل عصر، وفيه من آفاق التفكّر ما يلائم الأعرابي الأميّ وما يلائم عالم الفلك الحاصل على جائزة نوبل! ولسنا بحاجة إلى ذلك التمسّح السطحي الزائف بالنظريات العلمية حتى نتحدّث عن مواكبة القرآن لكل عصر، فهذه الحقائق التي تذكرها السورة حول مشاهد الكون وطغيان الأمم السابقة وأحوال النفس الإنسانية والأخلاق المذمومة ومصير الإنسان بعد الموت؛ هذه الحقائق تخاطبُ كلّ إنسان في كل عصر، وتتوجه إلى الفطرة لتحثّها على نفض أتربة الأهواء عنها، فتتفكّر في آيات هذا الكون وفي حقيقة الإنسان وحقيقة الحياة والموت، لتفيء إلى ربّها وتطمئنّ، فترجع إليه راضية مرضيّة.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى