التغيير الواعي فريضة إسلامية
بقلم كمال أبو سنة
لقد أفرز لنا حصار أو إضعاف العمل الدعوي التربوي الحكيم الذي لا يطمح إلى سلطة مهلكة أو إلى شهرة زائفة، ويؤمن بالتعاون بين كل العاملين في هذا الحقل الشريف تحت ظل قاعدة: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [سورة النحل الآية:125].قلت: أفرز لنا واقعا مريضا بأدواء ما كانت في آبائنا الأوائل وانحطاط أخلاقي خطير…
لقد ضرب الفساد في مجتمعنا أطنابه والغريب أن الناس يشتكون منه في كل مكان ولكنهم لا يتحركون إيجابا لمحاصرته والتخلص منه، أو الأخذ على أيدي الفاسدين المفسدين، حتى صار مثلهم كمثل قوم يركبون سفينة في وسط بحر لجيّ يتسرب إليها الماء بسب خرق أحدثه بعض ركابها الفاسدين، وهي توشك على الغرق وباقي الركاب يتعجبون ويضربون أخماسا في أسداس، فما أخذوا على أيدي الفاعلين من قبل، ولا أنقذوا السفينة من الغرق..!
روى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله في كتاب الشركة من صحيحه: (باب هل يقرع في القسمة والاستهام فيه) من حديث النُّعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا-وفي رواية المدهن أي المداهن-، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ، مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا”.
قال ابن القيم -رحمه الله-:”وليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأمور المحبوبة لله، وأكثر الديَّانين لا يعبئون منها إلا بما شاركهم في عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله وكتابه ودينه، فهذه الواجبات لا يخطرن ببالهم، فضلًا عن أن يريدوا فعلها، فضلًا عن أن يفعلوها، وأقل الناس دينًا، وأمقتهم إلى الله مَنْ ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعًا، وقلّ أن يرى منهم من يحمرّ وجهه، ويتمعَّر في الله، ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه، وأصحاب الكبائر أحسن حالًا عند الله من هؤلاء”.
ويقول الدكتور عبد الرحمن البر أستاذ الحديث وعلومه بالأزهر: “إذا علم المسلمُ المعروفَ والمنكرَ ثم قعد عن الأمر والنهي مراعاةً لجاه ذلك الشخص أو خوفًا منه أو استحياءً منه، فإنه عندئذٍ يدخل في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد وغيره عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “لاَ يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ: أَنْ يَرَى أَمْرًا للَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالٌ ثُمَّ لاَ يَقُولُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: رَبِّ خَشِيتُ النَّاسَ. فَيَقُولُ: وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ تَخْشَى”، وفي رواية “إِنِّي كُنْتُ أَحَقُّ أَنْ تَخَافَنِي”.
يقول الإمام أحمد: هذا الحديث فيمن يترك قولَ الحق خشيةَ ملامةِ الناس، وهو قادرٌ على القيام به والأمر والنهي.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أبي سعيد الخدري عند الترمذي: “أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ”. فَبَكَى أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْنَا أَشْيَاءَ فَهِبْنَا. وإذا كان أبو سعيد يبكي خوفًا ألا يحقق هذا الكلام، فما بالنا نحن أيها الإخوة.
بل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في رواية أحمد والطبراني في الأوسط: “أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ؛ فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ، أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ” إذا قامت الأمة بهذا الأمر فإنها بذلك تستحق رحمة الله تبارك وتعالى.
هذا فيما إذا لم يخشَ الإنسان على نفسه، إذا تعرَّض لسطوة ظالم لا يستطيع دفعها، أو يخشى حصول ضرر أكبر.
أما إذا كان مجرد خوف من بعض الإيذاء أو خوف من بعض الابتلاءات أو طمع في بعض ما في أيدي هؤلاء الناس؛ عندئذٍ يكون ترك الأمر بالمعروف سببًا من أسباب الفساد الكبير الذي نهى الله تبارك وتعالى عنه”.
يتحمل الحكام مسؤولية كبيرة في محاربة الفساد باليد فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ويتحمل معهم العلماء مسؤولية النصيحة وبيان الحق باللسان، لأنهم ورثة الأنبياء، والساكت عن الحق شيطان أخرس، فقد روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:” مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ”.
(المصدر: صحيفة بصائر الالكترونية)