التعليم العربي الإسلامي دراسة تاريخية وآراء إصلاحية
بقلم سامر رشواني
لا يخفى على الناظر في الحركة الثقافية الراهنة في العالم العربي، ذلك الاهتمام المتزايد بالتراث الإصلاحي وكتابات جيل النهضة التي انطلقت حركتها منذ مطلع القرن التاسع عشر. هذا الاهتمام الذي يعكس إحساس المثقفين بحالة التقهقر العلمي والارتداد الفكري عن أفق طموحات مشاريع حركات الإصلاح والنهضة، لا يخفي أيضا الرغبة السياسية في تغليب خطاب الإصلاح والنهضة المتصالح مع العصر ودعمه في مواجهة خطاب التطرف المفاصل له.
في هذا السياق يأتي إصدار كتاب موضوعه إصلاح التعليم والعلوم ألِّف في أوائل القرن العشرين هو “أليس الصبح بقريب” للعلامة التونسي محمد الطاهر بن عاشور (1296 هـ/1879-1393 هـ/1972).
ترجع أهمية كتاب ابن عاشور لاعتبارين:
الأول: أنه وثيقة تاريخية بالغة الأهمية في فهم حركة الإصلاح والتجديد التي شهدها العالم الإسلامي منذ نهايات القرن التاسع عشر. فهو يروي الهموم والمشاغل والرؤى التي حملها رجالات الإصلاح في قضايا التعليم والمعرفة باعتبارها مدخلا للإصلاح نظرا وعملا.
الثاني: على الرغم من أن فصولا عديدة من هذا الكتاب قد أصبحت جزءا من التاريخ؛ فإن كثيرا من الرؤى والأفكار التي طرحها ابن عاشور ما تزال قيمتها العلمية ثابتة، وجدارتها الفكرية قائمة، إن لم نقل إن هذا الحكم يصدق على نجاعتها العلمية وصلاحيتها التطبيقية، كما يقول محمد الطاهر الميساوي محرر الكتاب.
لقد عرض ابن عاشور رؤيته في إصلاح التعليم الإسلامي وبيانه لطرق إصلاح العلوم، بناء على نظر دقيق في مراحل تطور التعليم مناهج ومؤسسات، وتأسيسا على تحليل نقدي لمسارات تاريخ العلوم وإدراك منهجي لعوامل نشأتها ونموها وأسباب قوتها ووهنها، كل ذلك في إطار رؤية تاريخية على قدر كبير من الشمول والاستيعاب في استقصائها لمهمات الموضوع ومختلف جوانبه وسائر أبعاده عبر الزمان والمكان.
في تاريخ التعليم وتطوره
عرض ابن عاشور في هذا الباب لطرف من تاريخ التعليم والعلوم عند غير العرب، وعند العرب قبل الإسلام، وبيَّن أن تعليم الفصاحة واللغة كان له المقام الأول عند العرب، يلي ذلك تعليم الأخلاق والصفات العليَّة ثم الشعر والأنساب.
ثم استفاض في الحديث عن التعليم بعد ظهور الإسلام ونشأة العلوم العربية الإسلامية حتى القرن الثالث للهجرة. فأشار إلى تحول اهتمام المسلمين إلى تلقي علوم الشريعة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته، وأول ذلك حفظ القرآن وفهمه، ثم سنة رسوله وسيرته. ثم تحدث عن بدايات تدوين العلوم الإسلامية؛ تلك العلوم التي استحدثها المسلمون ونشأت مع مدنيتهم وهي اثنا عشر علما: تفسير القرآن والحديث والنحو والصرف والتصوف والوعظ والعروض والفقه وأصول الأدب والبلاغة والتاريخ. وحلل ابن عاشور أسباب ظهور كل علم من هذه العلوم، والاتجاهات التي غلبت عليه وكيفية تطوره، وأهم مؤسسيه وأعلامه الأوائل، وقدم في ذلك ملاحظات مهمة جدا.
فقد أوضح ابن عاشور أن ازدهار هذه العلوم قد اعتمد في طرف كبير منه على الحفاوة والدعم والإكرام الذي قدمته الدولة العباسية للعلماء؛ ثم لما رأوا هذه العلوم قد أخذت مستقرها التفتت همة الخلفاء العباسيين إلى نقل العلوم الفكرية عن الأقدمين من الفرس والهنود واليونان والنساطرة فنقلوا عنهم العلوم الرياضية والطبية والفلسفية وغيرها. وقد لاحظ ابن عاشور أن ميل العرب إلى العلوم النظرية أكثر من العلوم العملية هو ما جعل عنايتهم تكاد تنحصر في الفلسفة دون العلوم الأخرى.
كما لاحظ بن عاشور أن بداية القرن الرابع قد أسفرت عن تغير واضح في أحوال العلم والعلماء، وأن الناس أصبحوا مهيئين لحالة جديدة في أهل العلم. وذلك بسبب ظهور علوم الحكمة والعقليات وتوسع طرق النظر، وبسبب الخروج من طريقة النقل والحفظ إلى طريقة التأمل. فانكشف القرنان الرابع والخامس عن حالة جديدة في العلم وهي حالة النقد والتصحيح والتعليل والتمحيص. نبغ في ذلك الباقلاني والجويني والغزالي وغيرهم.. كما اضمحلت صفة الاختصاص العلمي والإمامة في علم معين فأصبحت تجد العالم يريد أن يكون فقهيا وأصوليا ونحويا وأديبا وشاعرا .. وانتفع العلم بهذه الحالة مدة طويلة، إذ انكب العلماء على النقد والتحرير فهذبوا العلوم والتآليف وأجادوا التقاسيم والتفاريع وكان أشد ظهور هذه المشاركة بالمشرق، أما إفريقية والأندلس فلم يزل أكثر علمائها يميلون للتخصص لاسيما في الفقه.
ثم إن الميل إلى المشاركة استفحل في طلبة العلم فأضر العلم بانصراف طلبته عن تحقيق العلوم، حتى أن من يكون في طبعه الميل إلى التحقيق إذا جمع بين التحقيق والمشاركة توزعت مواهبه، وانحصر اشتغالهم بالمباحث اللفظية، فوقفت العلوم عن الزيادة والتمحيص، ثم صارت التآليف منحصرة في طرر وحواش ونقود وردود.
صفة التعليم الإسلامي ومناهجه في التاريخ
إن مناهج العلوم كافة تختلف باختلاف العصور والأقاليم وصفاتها وبمقدار ما يتزايد من العلوم. وقد انقسم التعليم في بداياته الأولى إلى درجتين: درجة التعليم الابتدائي ويسمى التأديب ويسمى معلمه المؤدِّب وموضعه يسمى الكُتَّاب وتلامذته أبناء المكتب. ودرجة التعليم ما بعد الابتدائي: ويكون إما بإملاء العالم أو بقراءة تأليف معين أو طريقة السؤال والجواب، وكان المعلم لا يتصدى للتعليم حتى تثبت أهليته عند أهل العلم أنه عالم ضابط حافظ . وكانت صفة الدروس حِلقا ، يجتمع الطلبة إلى الشيخ فإما يقرأ عليه كتابه أو كتاب غيره، وإما قرؤوا عليه وهو يسمع. وأول ما ظهر التعليم في الإسلام كان غير معيَّن المحل فكان يعلم بعضهم في منازلهم وفي المساجد، وما ظهرت المدارس في الإسلام لمزاولة العلوم إلا في بغداد بعد التعرف على مدنية اليونان وطرقهم.
ومن الطريف أن ابن عاشور أفرد صفحات عن تعليم المرأة، فوجد أن شواهد التاريخ تدل على أنه “لم يوجد في تاريخ البشر قبل القرن الثالث عشر الهجري أمة حاولت إلحاق المرأة بالرجل بالمعارف ولا قبل القرن الرابع عشر إلحاقها به في التكاليف الاجتماعية. فكان تعليم النساء لا يجاوز به تلقينهن القرآن وفقه العبادات والمعاشرة وأنواعها من الأدب والأخلاق والكتابة. وذلك قصارى تعليم المرأة من أول ظهور الإسلام”. ورأى أن من خرجت منهن عن ذلك فتبحرت في العلوم وتوسعت إنما خرجت لعوارض مثل غزالة الخارجية وفاطمة بن طريف.
تحدث ابن عاشور بعد ذلك عن انتشار العلوم الإسلامية في أقطار المسلمين من مصر إلى إفريقية والأندلس وبلاد الفرس والمغرب الأقصى . واستفاض في الحديث عن حال التعليم وطرقه في الأندلس. ثم أفرد بابا خاصا للحديث عن صفة التعليم الإسلامي بتونس في العصور المتأخرة: فتحدث عن مواضع التعليم، وكيف تحولت من جامع الزيتونة وغيره إلى المدارس التي بدأت الدولة الحفصية بتخصصيها للتعليم، وجعلت الجرايات الكافية للمدرسين والتلامذة. كما ذكر عددا من رجالات العلوم على اختلاف مذاهبهم واختصاصاتهم.كما تحدث عن درجات التعليم ونظمه وبرامجه.
أسباب تأخر التعليم
“إن فساد التعليم ناشئ إما من فساد المعلِّم أو من فساد التأليف أو من جهة النظام العام وفساده”. أما فساد التعليم فقد رده ابن عاشور إلى أسباب عامة وأخرى خاصة. أما العامة فتتلخص في:
1ـ انعدام المراقبة: التي تميز الصالح من غيره، وعليه ينبغي أن يتولى أمر نقد التعليم من أنشاه ذلك التعليم نفسه (وليس المؤسسات الغربية التي تقوم اليوم بتقديم اقتراحات لبعض الحكومات لتعديل مناهجها التعليمية) عارفا بحاجات الزمان وغايات العلوم، ويرجع ابن عاشور تاريخ وضع المراقبة إلى أهل أوروبا مع تأسس الأكاديميات وإنشاء نظارة المعارف،التي من أعمالها تنظيم برامج التعليم ومراقبة المتعلمين.
2ـ عدم الضبط: فالتعليم اختياري في سائر أحواله: المتعلم يتعلم باختياره، والمدرس يدرس ما يروق له من الكتب ويقرر ما يختار من المسائل. “والتعليم لا يصلح الأمة ما لم يكن بصفة كلية عامة تسوي بينها في العوائد والأخلاق”. ومن المبادئ لضبط التعليم بصفة طردية أربعة أمور: جعله إلزاميا وضبط أوقات المدرسين وضبط محل التعليم وتقسيم التلامذة على العلوم والدروس.
3ـ ضعف الآداب والأخلاق: بسبب عروِّ التعليم عن مادة الآداب وتهذيب الأخلاق وشرح العوائد النافعة وغيرها.
4ـ انعدام حرية النقد: وهذا خلل بالمقصد من التعليم، وهو إيصال العقول إلى درجة الابتكار. وهذا داء أصاب التعليم الإسلامي في عصور الانحطاط ، حتى أصبحت متابعة كل ما يكتب فكرة سائدة في أهل العلم، وهو مما وسع دائرة الخلاف عندنا، لأنا مهما وجدنا غلطا أثبتناه رأيا ومذهبا.
وأما الأسباب الخاصة: فنذكر منها :
1ـ الغفلة عن إعطاء كل مرتبة من مراتب التعليم ما تحتاجه من الأسلوب اللائق بها. فقد كاد تعليم الزيتونة ينحصر في أسلوب واحد للمراتب كلها (الابتدائية والمتوسطة والعالية ) وهو أسلوب الإلقاء.
2ـ إهمال التمرين والعمل بالمعلومات كما هو الغاية من كل علم.
3ـ عروه من المصالح الصحية، مثل: الغفلة عن أمر الراحة الصيفية، ومثل الذي شاع من تقاليد الفئة العلمية أن من لوازم الصفة العلمية قلة المشي ومشي الهوينى وقلة الحركة، وإلا عُدَّ ذلك من خطل الرأي وسوء السيرة الأدبية.
4ـ عدم تقارب التلامذة الوافدين إلى التعليم في الحالة التعليمة التي يفدون وهم عليها، فمنهم من يرد حافظ القرآن وبعض المتون، قادرا على الكتابة والقراءة ، ومنهم من يفد على حالة دون ذلك.
5ـ استعجال التلامذة منذ الابتداء تحصيلَ الشهادة من غير تفكير في الأهم من ذلك، وهو الكمال العلمي. وذلك بسبب عروِّ تعليمهم عن التنويه بقيمة الكمال الذاتي، فيصير تعليمهم سطحيا ويقل العلماء المشاهير وينقلب الأذكياء النجباء إلى متواكلين مقصرين بعد دخولهم التعليم.
6ـ ضعف الملكات اللسانية أي القصور في اللغة .
7ـ عروُّ التعليم عما يفيد التلامذة اطلاعا على أحوال الأمم الماضية والتاريخ الإسلامي وتاريخ الأمم المعاصرة وتاريخ الحضارة، فيخرج الطلاب بعداء عن فكرة الإصلاح وضعاف البصائر ضيقي الأفكار.
أما مشكلة التآليف: ففي رأي ابن عاشور أن التآليف هي المعلم الأول للتلميذ ـ وأنها الفاعل القوي في نفس التلميذ، يقول: “ونحن نقتنع من إصلاح العقول الغضة بأن تطن على أسماعها الآراء الصائبة والعلوم المحققة ولا نخشى في خلال ذلك من صرف أذهانهم عنها بيد صارف، فإن لنور الحق سلطانا”. ومن الاقتراحات التي قدمها لإصلاح التآليف: ترك التطويلات، وتجنب ترك تخليط العلوم، وتشكيل لجنة للتأليف: تنظر خلل الكتب وإصلاحها، وترجمة ما نحتاجه من كتب العلوم التي تقدمت تقدما واسعا.
أسباب تأخر العلوم
لقد رأى ابن عاشور في وجود مسائل لا حاجة إليها يُطال بها التعليم وتُتوهم في صورة العلم، وإهمال مسائل وعلوم مهمة، أهمَّ الأسباب المؤدية لتدهور حال العلوم. وأضاف لذلك أيضا: الوقوف الفجئي الذي عرض للعلوم عند انطفاء مدنية الدولة بما قام من الفتن التي استأصلت الدولة العباسية. وتداخل العلوم وربط بعضها ببعض، خصوصا علم الكلام والحكمة. والتعصب للمذاهب والآراء، وطموح النفوس إلى المشاركة في جميع العلوم؛ مما جعل التآليف خليطا من المسائل التي يتوقف بعضها على فهم بعض .. مما حال دون تحقيق العلوم.
ثم شدد النكير على التقليد والإعجاب بآراء المتقدمين -كيف كانت – وتنزيهها عن الخطأ، على نحو أدى لانحصار العلم في الرواية والنقل، وسلب حرية التفكير في العلوم؛ يقول: “أما القواعد العلمية التي أسسها لنا السلف فإن الطالب يقرأها ويكتسبها لتخدم فكره لا لتستعبد أفكاره، ومتى استأسرت القواعدُ الأفكارَ بان خطأ النظر”.
أسباب تأخر العلوم الخاصة
لم يكتف ابن عاشور بعرض الأسباب العامة لتأخر العلوم بل أفاض في الحديث عن أسباب تأخر كل علم في ذاته ليكون ذلك تمهيدا لتأليف كتب قيمة في العلوم: فعلم التفسير مثلا أفسده الولع بالتوقيف والنقل والضعف في اللغة والبلاغة، والضعف في علوم يظنونها بعيدة عن القرآن وهي ضرورية مثل: التاريخ وفلسفة العمران والأديان والسياسة.
وأما علم الفقه فقد أفسده: التعصب للمذاهب والعكوف على كلام إمام المذهب واستنباط الحكم منه بالالتزام ونحوه. وإبطال النظر في الترجيح والتعليل ومن يسلك ذلك يُرمى بأنه يريد إحداث مذهب جديد. وإهمال النظر إلى مقاصد الشريعة من أحكامها وهذا موجب تشعب الخلاف.
كما تناول بالتفصيل أسباب تأخر علم الحديث وأصول الفقه والكلام وعلوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة.. وعلم المنطق والتاريخ والعلوم الفلسفية والرياضية.. ثم ختم ابن عاشور كتابه بتقديم رؤيته في إصلاح المعلمين ونظام الامتحانات، وعرض مشروع مقترح لإصلاح نظام التعليم.
وعلى الرغم من أن كثيرا من الاقتراحات التي قدمها ابن عاشور في إصلاح التعليم وتنظيمه قد تم الأخذ بها في معظم الدول العربية، لاسيما فيما يخص التعليم الشرعي، فإن الأزمة لا تزال قائمة، وإن اختلفت بعض وجوهها عن تلك التي عرضها ابن عاشور في زمنه. ولعل أبرز وجوهها أن التطور الذي حدث من جهة تنظيم التعليم وتطوير مناهجه، لم يترافق بقدر كاف من تطوير العلوم ومراجعتها وإصلاحها في العالم العربي والإسلامي.
الكتاب : أليس الصبح بقريب؟ التعليم العربي الإسلامي دراسة تاريخية وآراء إصلاحية
المؤلف: محمد الطاهر بن عاشور
توثيق وتقديم: محمد الطاهر الميساوي
الناشر: دار الملتقى ـ حلب.
الطبعة الأولى: 2010
عدد الصفحات: 448
(المصدر: إسلام أونلاين)