التعليم الإسلامي في آسيا.. جهود مخلصة تكافح للصمود
تعتبر قارة آسيا المخزون البشري الهائل للمسلمين، حيث يشكلون رقماً صعباً في الخريطة الديمجرافية للدول القاطنين فيها، ولما لهم من تأثير مباشر وغير مباشر في أحداث بلدانهم، فالمسلمون في الهند –مثلاً- يشكلون أكبر أقلية مسلمة بالعالم، وبالطبع يشكل التعليم –خاصة الإسلامي- الهاجس الأكبر لهذه الأقليات؛ حيث الحفاظ على الهوية الإسلامية.. في هذه السطور، نبرز أهم محطات التعليم الإسلامي بأوساط المسلمين في دولتين من آسيا؛ الهند وتايلاند.
الهند.. تاريخ مشرق وواقع مؤلم
المسلمون في الهند بالرغم أنهم أقلية تعاني كغيرها من الأقليات المسلمة حول العالم، فإن لها تاريخاً طويلاً في الهند شهد مشاركة واسعة للمسلمين في بناء الهند وإدارة أمورها لنحو ثمانية قرون، وبالتالي هذا الإرث شهد نهضة فكرية وتعليمية للمسلمين في الهند أثرت مكتبة الأمة الإسلامية.
بخصوص التعليم الإسلامي في الهند، يكفي أن أنقل هنا قبساً مما كتبه المفكر الإسلامي الراحل أبو الحسن علي الندوي في مقدمة كتابه «المسلمون في الهند»، حيث قال: «وتدلُّ كذلك على تقصير علماء الهند في القيام بمهمَّة التعريف بهذا القطر العظيم، وبهذه الأمة الإسلامية العظيمة التي مثَّلت دوراً رائعاً في تاريخ الإسلام وتاريخ العلم العام، وأضافت ثروةً ذات قيمة عظيمة إلى مكتبة الإسلام العامة، وأتحفتها بطُرَفٍ غالية تتجمل بها المكتبة العربية، وتزدهر بها على سعتها وغناها، وتفرَّدت ببعض العلوم الإسلامية، التي كانت ولا تزال فيها الهند زعيمةَ العالم الإسلامي وحاملةَ لوائها عدة قرون، كعلم الحديث والفقه وأصوله، في القديم والسيرة النبوية وعلم الكلام والدعوة إلى الإسلام في هذا العصر».
ورغم سقوط الحكم الإسلامي في الهند بيد الاستعمار البريطاني عام 1857م الذي أقام سداً على تيار فكري وتعليمي وسياسي واقتصادي، فإن الأمة المسلمة بالهند تماسكت أمام الطوفان، وشقَّت طريقها –بجهد جهيد وكد وتيد– إلى الأمام، وإن اختلفوا في وضع نظام تعليمي موحد، ما أوجد عدداً من النُّظُم التعليمية المعاصرة.
إن الاستعمار البريطاني عمل على استئصال الروافد الفكرية ومصادرة منابع العطاء الثقافي المتمثلة في المدارس الإسلامية، ووضْع منهاج تعليمي جديد، يرمي إلى تغريب وتنصير الهنود، ومنهم المسلمون، وأبعد التعليمَ الإسلاميَّ القديم عن النظام الحكومي الجديد ودوائره، ليصبح غير قادر على أداء دوره الفعال في تطوير البلاد.
اتجاهان
في هذا السياق، نشأ اتجاهان للتعليم الإسلامي في وقت مبكر، أولهما يرى أن النظام التعليمي الجديد بمثابة حرب على الدين والثقافة الشرقية، وأسس القائمون عليه مدارس إسلامية جديدة، ترفض تماماً كل مادةٍ تَمُتُّ إلى النظام الغربي بصلة، ومن أبرز رجال هذا الاتجاه الإمام محمد قاسم النانوتوي (1297هـ/ 1880م)، مؤسس الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند أكبر المدارس الإسلامية في الهند.
بينما الاتجاه الثاني يرى أن التعليم الإسلامي بشكله القديم سيزيد من عزلة المسلمين عن الجماعة الوطنية وحصرهم في إطار ثقافي ضيق؛ مما يؤثر سلباً على التعليم والاقتصاد والسياسة، وهنا لا بد من منهج تعليمي جديد، يجعل من المسلمين خادمين للوطن، موالين للنظام الجديد، ومن أبرز رجال هذا الاتجاه سيد أحمد خان (1817هـ/ 1898م)، مؤسس جامعة علي كراه الإسلامية.
وبالفعل كان لكلا الاتجاهين أثر فعال، فالأول قاد حركة التعليم الديني في شبه القارة الهندية، ونشر شبكة المدارس الإسلامية في طول البلاد وعرضها، بينما الاتجاه الثاني هو الآخر لفت انتباه الآباء والمربين، ووجد أعواناً له وأنصاراً، حيث انتشرت المدارس والكليات والجامعات الحكومية والأهلية في كل البلاد بشكل ملموس.
وبما أن الهدف ليس ترجيح اتجاه على الآخر، لكن بعد دراسة عميقة يبدو أن اختلاف المقاصد هو السبب الرئيس وراء اختلاف المنهجين المذكورين أعلاه، فاتجاهُ المدارس الإسلامية كان يهدف إلى تخريج علماء أكفاء، متمكنين في العلوم الإسلامية، قادرين على قيادة المجتمع الإسلامي من الناحية الدينية، بينما اتجاه المدارس العصرية يرمي إلى تخريج رجال ماهرين في العلوم الإنسانية، ليسهموا في بناء الوطن من جميع الجوانب، واضعين في اعتبارهم الفرص والإمكانات التي تتوافر لدى الحائزين على شهادات المدارس الحكومية والعصرية.
ولا شك أن كلاً من المنهجين نجح في تحقيق غاياته وأهدافه، فخرَّجت المدارس الإسلامية رجالاً، قادوا الأمة الإسلامية من الناحية الدينية والفكرية، وشغلوا مجالات العمل الإسلامي بجميع أنواعه، وبفضل هذه المدارس وجدتْ كلُّ حركة تجديدية وإصلاحية في الهند رجالاً، يقفون بجانبها ويحققون أهدافها، بينما اتجاه التعليم المدني قد نجح أيضاً في إعداد رجال، لهم مشاركات فعالة في مجالات القيادة السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والطب والتاريخ، والعلوم الإنسانية.
والمدارس الإسلامية الخالصة هذه هي التي تمثل التعليم الأهلي؛ إذ تعتمد في تغطية حوائجها على تبرعات المسلمين، ولا تتوافر لها نفس فرص المدارس العصرية، التي تمثل النظام الحكومي، وشهادتها تتميز بإتاحة الفرصة للحاصلين عليها لنيل الوظائف الحكومية، ونظامها يعتمد في تطبيقه على النظام الغربي ويشوبه أن طلابه يتخرجون ولا يعرفون عن الإسلام شيئاً، ولعل هذا دفع بعض العلماء إلى النصح بضرورة الجمع بين التعليم الإسلامي والتعليم الحكومي.
الواقع
ولفهم واقع التعليم الإسلامي، من المهم أن نشير إلى بيان النسبة التعليمية لدى المسلمين الهنود، حيث أكَّدت دراسة لجنة حكومية بقيادة القاضي «راجندر ساشار»، أجريت عام 2006م، أن الوضع التعليمي للمسلمين في الهند مصدر قلق، إذ كشفت أن 88% من المسلمين يتوقف تعليمهم عند المرحلة الابتدائية أو قبل هذا، أما الذين يتلقون التعليم في المدارس الحكومية فلا تتجاوز نسبتهم 8% من المسلمين، بينما الذين يدرسون في المدارس الإسلامية نسبتهم 4% فقط، وإن كانت نسبة المتعلمين قد ارتفعت خلال العقد الأخير، لكنها بحال من الأحوال لم تبلغ بعد 25%، وإن كان هذا يعود لعدة أسباب من بينها الفقر، وما يلقاه المسلمون من سخرية في الجامعات الحكومية وعدم تطوير المناهج، إلا أن هذا ليس مدعاة للعذر مطلقاً.
تايلاند.. مبادرات تنهض بالمجتمع
تمتد جذور التعليم الإسلامي في تايلاند لعدة قرون، فهو قديم في هذا البلاد كقدم وصول الإسلام إليها، فيقول «د. علي مهاما ساموه» في دراسة له بعنوان «الكتاتيب في جنوب تايلاند.. إيجابياتها وسلبياتها» التي أعدها لكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأمير سونكلا فرع فطاني جنوب تايلاند: إن التعليم الإسلامي في جنوب تايلاند قد مرّ بمراحل عديدة، كانت بداية أمره عبارة عن إقامة دروس في بيوت العلماء وقصور الأمراء، ثم تطوّرت إلى تكوين حلقات كبيرة تُعقد في المصليات أو المساجد، وكانت هذه الدروس تلقى بعد صلاة المغرب، مرة أو مرتين أسبوعياً.
وتضيف الدراسة: ثم زيدت فترة التدريس من المسائية إلى الصباحية، واختير يوم الجمعة للفترة الصباحية؛ لكونه يوم إجازة المسلمين، فكبرت الحلقات وزادت أعداد الحضور؛ حتى من أهل القرى الأخرى، وفي ظل هذه البيئة التعليمية تخرج عدد كثير من العلماء منهم: الشيخ وان موسى الفطاني، وهو أول من طوّر التعليم من كونه يعقد في المساجد أو المصليات إلى أن يكون تعليماً على شكل كتاتيب (فنادق)، وقد أسس رحمه الله في سنة 1002هـ/ 1539م فندقاً باسم «فندق سِنَا»، وقد اشتهر هذا الفندق، وكثر إقبال الطلاب عليه حتى أصبح مركزاً علمياً في جنوب تايلاند، بل تجاوز أثره التعليمي إلى جميع الأراضي الملايوية، وتخرج فيه عدد من العلماء والدعاة يحملون أمر الدعوة، وأسسوا فنادق أخرى في فطاني.
وبحسب الدراسة، يعتبر منتصف القرن التاسع عشر هو أقوى فترة ازدهار تعليم الفنادق في جنوب تايلاند، إذ بلغ عددها في عام 1959م على حسب الولايات ما يلي: ولاية فطاني 17 فندقاً، وولاية جالا 9 فنادق، وولاية ناراتيوات فندق واحد.
«دار الأرقم».. تجربة تستحق الإشادة
وبمرور الوقت، تطور التعليم الإسلامي في جنوب تايلاند وتعددت مؤسساته، لكننا هنا سنكتفي بتسليط الضوء على مبادرات تعليمية خيرية تستحق الوقوف عندها وإبرازها لتعميمها، ومن بين أهم هذه التجارب التي استوقفتنا تجربة مدرسة «دار الأرقم الإسلامية» في ولاية ناراتيوات جنوب تايلاند، وهي مدرسة أهلية مجانية تماماً معترف بها رسمياً، ومخصصة للأيتام وأبناء الفقراء والمحتاجين، تأسست عام 1401هـ.
وحول مدرسة «دار الأرقم الإسلامية»، قال «منير الدين ميسور أحمد»، صاحب المدرسة، لـ»المجتمع»: أسس والدي هذه المدرسة قبل حوالي 39 سنة، لإتاحة الفرصة أمام الأيتام والفقراء للتعليم، بدلاً من حرمانهم منه، موضحاً أن المدرسة داخلية؛ أي يقيم فيها الدارسون طوال اليوم يتلقون دروسهم، كما توفر المدرسة لهم السكن والطعام وأماكن مخصصة للنوم داخل المدرسة أيضاً والملحق بها مسجد، وهي من روضة الأطفال حتى المرحلة الثانوية.
وعن مواد الدراسة في مدرسة «دار الأرقم»، يقول «منير الدين»: إن التلاميذ يدرسون علوم القرآن الكريم والسُّنة والعلوم الشرعية، وبجانب كونها مدرسة إسلامية، فهي أيضاً تقوم بتدريس المواد الأكاديمية.
وبخصوص البرنامج اليومي للدراسة، أوضح «منير الدين» أن اليوم الدراسي بالمدرسة يبدأ بصلاة الفجر، يتبعها حفظ القرآن حتى السابعة صباحاً، ثم مراجعة القرآن من الثامنة حتى التاسعة صباحاً، يعقب ذلك حصص للمواد الشرعية والعصرية إلى الثانية عشرة، ثم صلاة الظهر، يعقبها حلقة قرآن لمدة نصف ساعة، بعد ذلك دراسات شرعية وأكاديمية من الواحدة والنصف ظهراً إلى الثالثة والنصف، ثم صلاة العصر، يعقبها تعليم قراءة القرآن والتجويد لنصف ساعة، ثم ممارسة الرياضة والنظافة لمدة ساعة، على أن تتم بعدها صلاة المغرب، التي يعقبها حفظ قرآن حتى صلاة العشاء، ثم محاضرة خفيفة قبل النوم.
دار القرآن
ومازلنا في محافظة ناراتيوات جنوب تايلاند، ومظهر تعليمي آخر لفتح الباب أمام جميع الأطفال للتعليم الإسلامي، هذه المرة في مسجد “الزبير بن العوام”، أو كما يُعرف بدار القرآن؛ حيث يتلقى نحو 70 من الأطفال حفظ القرآن الكريم ودروساً في تعلم القراءة والكتابة، بجانب أنشطة تربوية وتعليمية.
ويقول “محمد دوري بن إبراهيم”، القائم على تعليم الأطفال بالمسجد: إن برنامج اليوم الدراسي بالمسجد يبدأ في الخامسة مساء ويستمر حتى التاسعة، يتضمن تحفيظاً للقرآن والقراءة والكتابة وأنشطة متعددة، وتنتظم الدراسة أسبوعياً من الأحد حتى الخميس.
ويضيف “محمد دوري” أن أغلب أهل قريته “سارينج” لا يجيدون القراءة والكتابة، ومن هنا كانت فكرة نشاط المسجد في تعليم الأطفال، بالإضافة إلى أن بعض الكبار يتلقون على يديه حفظ القرآن الكريم بعد صلاة الفجر.
(المصدر: مجلة المجتمع)