التعليم الإسلامي التقليدي في شبه جزيرة القرم.. محاولات الإحياء تصطدم بجدران السياسة
ينتمي تتار القرم إلى مجموعة عرقية تركية تعد شبه الجزيرة الواقعة جنوب أوكرانيا الحالية موطنها الأصلي، وتعرضوا للتهجير القسري اعتبارا من 18 مايو/أيار 1944، نحو وسط روسيا، وسيبيريا، ودول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية، التي كانت تحت الحكم السوفياتي آنذاك.
وخلال المدة بين عامي 1944 و1967 خلت شبه جزيرة القرم من أي وجود للتتار بما في ذلك عائلات تتار القرم الذين يخدمون في الجيش السوفياتي، وعام 1954 أعلن الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف ضمّ القرم إلى أوكرانيا السوفياتية، بعد أن تم أجلاء المرحّلين في قطارات وعربات نقل إلى آسيا الوسطى، وبقيت مأساة تشريدهم حاضرة في أذهان أجيال عديدة، حتى أولئك الذين عادوا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي.
وفي مارس/آذار 2014 ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود إلى أراضيها، عقب استفتاء قاطعه تتار القرم الذين تعود جذورهم في المنطقة إلى قرون طويلة قبل وصول الروس إليها؛ إذ كانت شبه جزيرة القرم مركزا لخانية القرم في الحقبة من 1441 إلى 1783، وهي دولة عريقة كان لها ارتباطها الثقافي والسياسي بالإمبراطورية العثمانية.
إحياء التعليم التقليدي
وفي إسهامها بكتاب “المجتمع المسلم والسياسة والتعليم الإسلامي في الإمبراطورية الروسية السابقة” خصصت الباحثة ألميرا موراتوفا، الأكاديمية بجامعة القرم الاتحادية في سيمفيروبول، فصلا لدراسة نظام التعليم الإسلامي التقليدي الذي استمر قرونا طويلة في شبه الجزيرة.
وقالت موراتوفا إن المدارس الابتدائية التقليدية (الكتّاب) والمؤسسات الأعلى منها (المدرسة التقليدية) كانت شائعة في القرم قبل الحكم السوفياتي في عشرينيات القرن الماضي، لكن هذا النظام المكون من الكتاتيب والمدارس التقليدية لم يعد موجودا منذ التهجير الكبير لسكان القرم في زمن الحرب العالمية الثانية بتهمة التعاون مع النازيين أثناء احتلالهم شبه الجزيرة في الفترة بين 1941-1944.
وحسب الباحثة، لم يتمكن معظم تتار القرم من العودة إلى شبه جزيرة القرم إلا في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، وهكذا بدأ إحياء نظام التعليم التقليدي في القرم، وترافق ذلك مع إنشاء مؤسسات إسلامية محلية، وبناء مساجد، وإنشاء مقابر إسلامية والعناية بصناعة “الحلال”. وفي ذلك الوقت أيضا، بدأت الدورات الدراسية أساسيات الإسلام وأساسيات القراءة العربية، وفقا للأكاديمية مؤلفة كتاب “الإسلام في شبه جزيرة القرم المعاصرة: مؤشرات ومشكلات عملية النهضة”، (2008).
وفي وقت لاحق انتعشت الكتاتيب والمدارس التقليدية مجددا في ظل الدور الكبير للمعلمين الأجانب القادمين من تركيا والعالم العربي، وكانت إسهاماتهم حاسمة على مستوى تنظيم العملية التعليمية بشراء المباني، وتطوير البرامج التعليمية، وتوفير الكتب المدرسية، وما إلى ذلك. ومنذ منتصف العقد الأول من القرن الـ21 ، بدأ نشاط تتار القرم في مجال الإحياء الإسلامي بعد عقود من الإلحاد الذي فرضته الدولة خلال الحقبة السوفياتية، وشرعوا في بناء المساجد والتدريس في المدارس الإسلامية التي بلغ عددها عام 2012 ، 74 مدرسة تعمل يوم الأحد، حسب الباحثة.
وظهر مستوى التعليم الابتدائي في البداية في شبه جزيرة القرم ما بعد السوفياتية منذ أوائل التسعينيات، إذ كانت الدورات الإسلامية متاحة في المسجد المركزي بالعاصمة سيمفيروبول (كبير جامي) ومساجد أخرى في شبه جزيرة القرم قدمت تعليما تقليديا لأساسيات الإسلام والممارسات الدينية وقراءة القرآن.
وتجدر الإشارة إلى أنه بسبب النمو العام لاهتمام الناس بالدين في ذلك الوقت بعد انهيار الشيوعية، كان الطلب على مثل هذه الدورات كبيرا، وضمّت الأطفال والنساء والرجال من مختلف الفئات العمرية. وقاد عملية التدريب في المرحلة الأولية المسلمون الأجانب من الممثلين عن هيئة الشؤون الدينية في تركيا ومؤسسات عربية وتركية مختلفة. وفي أواخر التسعينيات وأوائل القرن الـ21 تقلصت أنشطة العديد من المؤسسات العربية بسبب تضارب وجهات نظرها مع التقاليد الدينية لتتار القرم؛ فأغلقت بعض المؤسسات، واضطر العديد من معلمي الإسلام إلى مغادرة المنطقة.
وخلال العقد الأول من القرن الـ21 أسهمت منظمتان بشكل كبير في التدريس التقليدي والتعليم الإسلامي، أولهما الإدارة الروحية لمسلمي القرم (DUMK) أو هيئة الإفتاء بالقرم التي أشرفت على المدارس القرآنية التابعة للمساجد. وكان المدربون من تلك المدارس دعاة أتراك بالأساس، حسب الباحثة.
وإضافة إلى ذلك، نوّهت الباحثة بدور اتحاد المنظمات الاجتماعية “الرائد” الذي أسسه طلاب عرب في الجامعات الأوكرانية منذ عام 1997، ونظم الاتحاد مبادرات عديدة في شبه جزيرة القرم بما في ذلك إنشاء مدارس الأحد الإسلامية والعناية بالأعمال الخيرية، لكن ذلك تغير كثيرا بعد عام 2014.
ثم جاء الاحتلال مجددا
وقبل عام 2014 كان في القرم مؤسسات نظامية للتعليم الإسلامي الذي يتألف من مستويين: المستوى الابتدائي (المدارس القرآنية والإجازات في المساجد) والثانوي (المدارس الدينية و ومدارس التحفيظ). ولبّى هذا النظام بوجه عام احتياجات شعب تتار القرم في الحصول على المعرفة الإسلامية. وكان الغرض من الدورات الأولية مساعدة المسلمين على دعم هويتهم، في حين تم بناء المؤسسات ذات المستوى الأعلى للتدريب المهني للأئمة، ورغم أنه لم يكن هناك تعليم إسلامي أعلى لإعداد علماء الدين الرسميين في القرم، فقد كان خريجو المدارس الدينية الذين يريدون مواصلة تعليمهم يلجؤون إلى وقف الديانة التركي أو إلى جامعات إسلامية خارجية، حسب الباحثة.
وفي مارس/آذار 2014 طويت صفحة في تاريخ تتار القرم الحديث في شبه الجزيرة التي أصبحت بعد الاستفتاء جزءا من الاتحاد الروسي، على الرغم من أن المجتمع الدولي لا يزال يعدها جزءا من أوكرانيا. وغيرت هذه الأحداث الوضع السياسي والقانوني لشبه جزيرة القرم وكان لها تأثير كبير في العديد من الممارسات في شبه الجزيرة، بما في ذلك وضع شعب تتار القرم، وثقافته ومؤسساته التعليمية التقليدية.
وتقول الباحثة إنه وبينما اضطلع المعلمون الأتراك والعرب بدور مهم في إحياء نظام التعليم التقليدي في القرم، الذي كان تأثيره كبيرا في الثقافة الدينية لتتار شبه الجزيرة الذين افتقدوا الخبرة والموارد المالية، ففي الوقت نفسه حدّ هذا التأثير من إمكانية قيام المبادرات التعليمية المحلية لتتار القرم. وبالإضافة إلى ذلك، أثيرت قضايا تتعلق بتوافق التقاليد الدينية للمسلمين من الخارج مع التقاليد الدينية لتتار القرم.
ومع ذلك تنتقد الباحثة أيضا تأثير احتكار الإدارة الروحية للتعليم الإسلامي في شبه الجزيرة، حيث ترى أنه ساهم في القضاء على الجهات الفاعلة الأخرى في هذا المجال، وتعتقد أن الدولة الروسية أيّدت ذلك “الاحتكار” فيما بعد، خاصة بتشجيع التعاون مع هيئة الإدارة الروحية والمؤسسات الدينية والتعليمية في جمهورية تتارستان الروسية وجامعات قازان الإسلامية.
وتشيد الباحثة في المقابل بالتعليم الديني المميز للنساء اللاتي كنّ ممثلات بشكل كبير في منظومة التعليم التقليدية.
ولكن الوضع تغير بشكل كبير بعد ربيع عام 2014، ويرجع ذلك إلى صرامة التشريعات الروسية في مجال الدين مقارنة بنظيرتها الأوكرانية، حسب تعبير الباحثة. وأدّت عمليات التفتيش الحكومية وسحب بعض المؤلفات الدينية وحتى ملاحقة بعض أنصار الجماعات الإسلامية والجمعيات مثل “الرائد” التي غيرت اسمها وتحولت إلى الأنشطة الاجتماعية، إلى تقليص تلك النشاطات التعليمية والتقليدية، خاصة مع رحيل العديد من المعلمين الأجانب مما خلق أزمة كبيرة في نظام التعليم الإسلامي كادت أن تصيبه بالشلل.
(المصدر: الجزيرة)