مقالات مختارة

التطبيق العملي للدعوة الإسلامية عند أمهات المؤمنين

بقلم د. زلفى أحمد محمد الخراط

اصطفى اللهُ تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم خيرَ الصَّحْب وأطهره، نالوا الشرف وولجوه مِن أرحب أبوابه، إيمان عظيم، وخُلُق قويم، وهمة عالية، وحظُوا بمكانة سامية في نصوص الكتاب والسنة؛ إذ منحَتْهم هذه النصوص تزكية موثقة للنهوض بنقل هذا الدين ونشره، فكانوا واسطة خيرٍ بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن تبِعه إلى يوم الدين.

وفي مقدمة أولئك الصحب الكرام: أمهاتُ المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن؛ فقد حمَلْنَ مهمة الدعوة إلى الله تعالى على عاتقهن، وبذَلْنَ في خدمة هذا الدين العظيم قصارى جهدهن، وكنَّ من أعلم فقهاء الأمة الذين سجلوا بأقوالهم وأفعالهم وجهودهم علومَ الوحي الكريم وشرائع الدين الإسلامي، وكنَّ من أبرز دعاتها الذين سعَوا إلى هداية المجتمع إلى الدين الحنيف، والرقي به إلى السمو العلوي.

ولم تكن دعوة أمهات المؤمنين محضَ أقوال ومواعظَ فحسب، بل قرَنت أمهات المؤمنين في دعوتهن بين القول والعمل، وفي تطبيقهن العملي للدعوة إلى الله حرَصْنَ على توجيه الدعوة إلى مختلف طبقات المجتمع؛ من ولاة، وعلماء، وأقارب، وعامة.

1- دعوتهن لولاة الأمر:

عاصرَتْ أمهات المؤمنين عددًا من ولاة الأمر، وكان لهن مواقفُ وأقوالٌ معهم، ناصحاتٍ وواعظاتٍ؛ يأمُرْنَهم بمعروف ترَكوه، أو ينهَيْنَهم عن منكَرٍ ارتكبوه.

ومِن أشهر مَن خاطبت ولاة الأمر، وراجعتهم، ووجهت لهم الدعوة: عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – غيرَ هيَّابة أو وجلة، ومن الأمثلة على دعوتها لهم:

ما رُوِيَ أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: “واللهِ لأن أجد من المُحْرِم ريح القطرانِ أحبُّ إليَّ مِن أن أجد منه ريح الطيب”، فاستدركت عليه عائشة: “طَيَّبْتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأصبح وإن وبيصَ المسك في مفارقه”[1].

كما رُوِي أن عمر قال: “إذا رميتم وحَلَقْتم، فقد حلَّ لكم كل شيء، إلا النساءَ والطيب”، فبيَّنَتْ له عائشة خطأه بقولها: “طيبتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لحرَمِه حين أحرم، ولحِلِّه حين حلَّ، قبل أن يطوف بالبيت”[2].

ومِن نماذج دعوتها لولاة الأمر: ما كتبَتْه لمعاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنه – ناصحة له: “سلام عليك، أما بعد: فإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مُؤنةَ الناس، ومَن التمس رضا الناس بسخط الله، وكَله الله إلى الناس))، والسلام عليك”[3]، وكتبَتْ إليه أيضًا: “أما بعد، فإن العبد إذا عمِل بمعصية الله عز وجل، عاد حامدُه مِن الناس ذامًّا”[4].

وممَّن توجَّه بالنصح لولاة الأمر: أم سلمة – رضي الله عنها، ومِن ذلك كتابها لعثمان بن عفان – رضي الله عنه -: “يا بني، ما لي أرى رعيتَك عنك مُزْوَرِّين، وعن ناحيتك نافرين، لا تُعَفِّ سبيلًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَحَبَها،ولا تقدَحْ زندًا كان أكباها، وتوخَّ حيث توخى صاحباك؛ فإنهما ثكَما[5] الأمرَ ثَكْمًا ولم يظلما، هذه وصيتي إياك وحقِّ بنوَّتك قضيتها إليك، ولله عليك حق الطاعة، وللرعية حق الميثاق”[6].

2 – دعوتُهن للعلماء:

العالِم إنسان يخطئ ويصيب، وهو غير معصوم من الوقوع في الزلل والخطأ، وإن وقوعه في خطأ ما لا يسلُبُ مقامه، ولا يمحو فضائله، بل تُحفظ له مكانتُه، ويُثقَّل له قدره.

ولقد وعَتْ أمهات المؤمنين ذلك؛ فأسدَيْنَ النصح والتوجيه والتقويم للعلماء، فكانت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – في مقدمة أمهات المؤمنين اللاتي توجهن بالدعوة للعلماء؛ نظرًا لعمق فقهها، وسَعة علمها، ومن النماذج على توجيهاتها للعلماء: توجيهها لِمَن يتصدر لنصح الناس ووعظهم، قالت لعبيد بن عمير: “أمَا بلغني أنك تجلس ويُجلس إليك؟”، قال: بلى يا أم المؤمنين، قالت: “فإياك وتقنيطَ الناس وإهلاكَهم”[7].

كما قالت عائشة لابن أبي السائب قاصِّ أهل المدينة: “ثلاثًا لتتابعني عليهن أو لأناجزنك: اجتنَبِ السجعَ من الدعاء؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا لا يفعلون ذلك، وقُصَّ على الناس في كل جمعة مرة، فإن أبيت فاثنتين، فإن أبيت فثلاثًا، فلا تُمِلَّ الناسَ هذا الكتاب، ولا ألفيَنَّك تأتي القوم وهم في حديث من حديثهم فتقطع عليهم حديثهم، ولكن اتركهم فإذا حَدَوْك عليه، وأمروك به، فحدثهم”[8].

ووجهَتْ أحدَ العلماء إلى عدم الإسراع في التحدث أثناء الوعظ؛ ليفهم الناس ما يراد من وعظه: عن عائشة أنها قالت: “جاء أبو فلانٍ فجلس إلى جانب حُجْرتي، يُحدِّثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، يُسمعني ذلك، وكنت أسبِّح، فقام قبل أن أقضيَ سُبْحتي، ولو أدركتُه لرددتُ عليه؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرُدُ الحديث كسَرْدِكم”[9].

كما بيَّنَتْ لابن عمر خطأ المعلومة التي لديه عن اعتمار رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب؛ إذ قالت له: “يغفر الله لأبي عبدالرحمن، لعَمْري، ما اعتمر في رجب، وما اعتمر مِن عمرة إلا وأنا معه”، وابن عمر يسمع، فما قال: لا، ولا نعم، سكت[10].

ولغزارة علمها ووفور فقهها كان العلماءُ يحرصون على عرضِ ما لديهم مِن علم عليها؛ ليستوثقوا منها على صحته:

رُوِي أن أبا هريرة كان يُحَدث قريبًا من حجرة عائشة، ويقول: “اسمعي يا رَبة الحجرة، اسمعي يا ربة الحجرة”[11]، قال النووي: مرادُه بذلك تقويةُ الحديث بإقرارها ذلك وسكوتها عليه[12].

وأم المؤمنين أم سلَمة – رضي الله عنها – ممن وجَّهت العلماءَ التوجيهَ السديد الصائب:

رُوِيَ أن عمرَ بن الخطاب دخل على حفصة، فقال لها: يا بنيةُ، إنك لتراجعين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى يظَلَّ يومه غضبان، فقالت حفصة: واللهِ إنَّا لنراجعُه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله، وغضب رسولِه صلى الله عليه وسلم، يا بنية، لا يغرنَّك هذه التي أعجبها حسنُها حبُّ رسول الله إياها – يريد عائشة – قال: ثم خرجتُ حتى دخلتُ على أم سلمة؛ لقرابتي منها، فكلمتُها، فقالت أم سلمة: عجبًا لك يا بن الخطاب، دخلتَ في كل شيءٍ حتى تبتغيَ أن تدخل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه! فأخذَتْني والله أخذًا، كسرَتْني عن بعض ما كنت أجد)[13].

3- دعوتُهن للأقارب:

امتثلَتْ أمهات المؤمنين – رضوان الله عليهن – لأوامرِ الشارع الحكيم، فاهتمَمْنَ بأقاربهن، مشركين أو مسلمين، وبذلْنَ جهدهن في توجيههم على الأصعدة الشرعية والأخلاقية كافة؛ صلةً لرحِمِهن، وابتغاءً للمثوبة مِن الله تعالى.

ومِن أبرز النماذج على دعوة أقاربهن المشركين: ما رُوِيَ أن صفية بنت حيي – رضي الله عنها – ورثت مائة ألف درهم بقيمة أرض وعَرَض، فأوصَتْ لابن أختها – وهو يهوديٌّ – بثُلثها[14]؛ رغبةً في وَصْل رحمها، وتأليفًا له على الإسلام.

ومن ذلك ما روي أن أبا سفيان دخل على ابنته أمِّ حبيبة بنت أبي سفيان قبل فتح مكة، فلما ذهَب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوَتْه عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبتِ بي عن هذا الفراش أم رغبتِ به عني؟ قالت: بل هو فراشُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجلٌ مشرك نجس، ولم أحبَّ أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم[15]، ولقد كان لذلك أعظمُ الأثر في قلب أبي سُفيان، ومِن العوامل التي ساعدت على إسلامه فيما بعدُ.

ومِن الأمثلة على حرص أمهات المؤمنين على دعوة أقاربهن المؤمنين: ما رُوي أن ابن عمرَ أراد ألا ينكح، فقالت له حفصة – رضي الله عنها -: “تزوَّجْ؛ فإن وُلِدَ لك ولدٌ فعاش مِن بعدك دعا لك”[16].

وكانت أمُّ سلمة تعتني بأولادها، وتربِّيهم خير تربية، وحرَصت على الإنفاق عليهم، وتعليمهم العلمَ الشرعي النافع، وقد سألَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، هل لي مِن أجرٍ في بني أبي سلَمة أن أُنفِقَ عليهم، ولست بتاركتِهم هكذا وهكذا، إنما هم بَنيَّ؟ قال: ((نعم، لكِ أجرُ ما أنفقتِ عليهم))[17]، وكانت ابنتُها زينبُ مِن أفقهِ نساء أهل زمانها[18]، وقد بلغ أولادها عمرُ وزينبُ درجة من العلم، حتى إنهم روَوْا عنها عددًا من الأحاديث والعلم[19].

وميمونة – رضي الله عنها – ممن اعتنَيْنَ بذوي قرابتها، وحرَصْنَ على تقويم ما بهم من عوج؛ فقد رُوِي أن ذا قرابة لها دخل عليها، فوجدت منه ريح شراب، فقالت: لئن لم تخرج إلى المسلمين فيجلدوك أو يطهروك، لا تدخل عليَّ بيتي أبدًا[20]، وقد تعلم منها قرابتُها مِن محارمها ومواليها، وروَوْا عنها الكثير[21].

4- دعوتهن للعامة:

وممَّن توجَّهت أمهات المؤمنين بالدعوة لهم من فئات المجتمع: العامة، وهم السواد الأعظم فيه، وفي توجيههم إصلاحٌ للمجتمع، وتقويم لعِوَجه، فبذَلْنَ جهدهن ووقتهن في توجيه تارك المعروف وفاعل المنكَر، فتهيَّأت لهم سبلُ الخير والصلاح والرشاد.

من ذلك: ما رُوِي أن امرأةً سألت عائشة عن نَتْفِ شعرات في الوجه بغرض التزيُّن للزوج، فأجابتها: “أميطي عنك الأذى، وتصنَّعي لزوجِك كما تصنعين للزيارة، وإذا أمرَك فلتطيعيه، وإذا أقسم عليك فأبِرِّيه، ولا تأذني في بيته لمن يكره” [22]، وفيه توجيه منها – رضي الله عنها – بالاهتمام بالزوج، وأهمية مراعاته وإعفافه.

ومِن ذلك ما رُويَ عن نهيها لأحدهم عن التبتل، وبيانها للدليل الشرعي على ذلك النهيِ؛ إذ قالت: “لا تفعل؛ أمَا سمعتَ الله عز وجل يقول: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38]؟! فلا تتبتَّلْ” [23].

ونصحَتْ – رضي الله عنها – عبدَالله بن أبي قيس بقيام الليل، ورغَّبته فيه؛ مستدلَّة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: “لا تدَعْ قيامَ الليل؛ فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدَعُه، وكان إذا مرِض أو كسِل صلى قاعدًا”[24].

وكم غضبَتْ لما سمِعت مَن يشتم عثمان بن عفان رضي الله عنه، فعنَّفَتْهم وذمتهم، ثم بينت لهم مكانته الرفيعة ومنزلته السامية، فقالت: “لعَن الله من لعنه؛ فوالله لقد كان قاعدًا عند نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لمسندٌ ظهرَه إليَّ، وإن جبريلَ ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له: ((اكتُبْ يا عُثَيْم))، فما كان الله لينزلَه تلك المنزلة إلا كريمًا على الله ورسوله”[25].

وأم المؤمنين أم سلَمة تأمر بُسر بن أرطاة بمبايعة معاوية عندما امتنَع عن ذلك؛ درءًا للفتنة، ووأدًا لشرِّ أعظمَ، فقالت له: بايِعْ؛ فقد أمرتُ عبدَالله بن زمعة ابن أخي أن يبايعَ[26].

وبعد:

فلقد كان ما ذكرتُه قطرةً مِن بحر ما قدمَتْه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن مِن توجيهات دعوية، وإرشادات إصلاحية لمجتمعهنَّ بمختلف فئامه، أفاد منها المجتمعُ وارتقى، وحقق المرادَ من غايات الدعوة ومقاصدها، وجعَل منهن خيرَ أنموذج للدعاة عبر العصور.

———————————–

[1] الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة – 67.

[2] المرجع السابق – 65.

[3] سنن الترمذي – 4/ 188 – ح 2414.

[4] صفة الصفوة – 1/ 319.

[5] أي: بيَّناه وأوضحاه حتى تبين كأنه محجة ظاهرة؛ (لسان العرب – 12/ 78).

[6] بلاغات النساء – 9.

[7] مصنف عبدالرزاق الصنعاني – 3/ 219.

[8] مسند أحمد – 19/ 43 – ح 25820.

[9] مصنف عبدالرزاق الصنعاني – 3/ 219.

[10] رواه مسلم – 2/ 916 – ح 1255.

[11] رواه مسلم – 4/ 2298 – ح 2298.

[12] شرح النووي على صحيح مسلم – 18/ 129.

[13] رواه البخاري – 6/ 157 – ح 4913.

[14] الطبقات الكبرى – 8/ 128.

[15] السيرة النبوية – 2/ 396.

[16] مسند الشافعي – 273.

[17] رواه البخاري – 7/ 66 – ح 5369.

[18] الاستيعاب في معرفة الأصحاب – 4/ 1855.

[19] الإصابة في تمييز الصحابة – 8/ 344.

[20] الطبقات الكبرى – 8/ 139.

[21] تهذيب الكمال في أسماء الرجال – 35/ 312 .

[22] مصنف عبدالرزاق الصنعاني – 3/ 146.

[23] سنن النسائي – 6/ 60 – ح 3216.

[24] مسند أحمد – 43/ 218 – ح 26114.

[25] مسند أحمد – 43/ 228 – ح 26130.

[26] التاريخ الأوسط – 1/ 115.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى