مقالاتمقالات مختارة

التطبيع مع الكيان الصهيونيّ – رؤية شرعية

التطبيع مع الكيان الصهيونيّ – رؤية شرعية

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لم يكن الإعلان الإماراتيّ بشأن التطبيع مع الكيان الصهيونيّ سوى عملية كشف وإظهار لما كان قائماً من زمن بعيد، ولم يكن تأخر الكيانات العربية عن مصر في مسيرة التطبيع سوى انتظار للدور حسبما يأمر الحاكم بأمره، ولا زالت كلمات الشاعر أحمد مطر بعد زيارة السادات للكنيست تدوي في سمعي: “اسمعوني قبل أن تفتقدوني يا جماعة .. لست كذابا فما كان أبي حزبا ولا أمي إذاعة .. كل ما في الأمر أن المرء صلى اليوم وحده وأن الجماعة سيصلون جماعة!” وبالفعل؛ لم تلبث إلا قليلاً تلك الكيانات الفارغة حتى تهاوت كلها على مائدة “مدريد” ثمّ توالت الانتكاسات والنكبات السياسية؛ حتى صارت إسرائيل متربعة وحدها على عرش الشرق الأوسط وعلى كنوزه وخيراته، بينما تموج من حولها بلادنا كلها بالفتن والمحن والضغائن والإِحَن.

   وما كان وضع كهذا ليقوم ويدوم وسط محيط إسلاميٍّ إلا بمباركة من رجال الدين الرسميّين وغير الرسميين، ولكنّ الأمّة لم تمت ولن تموت مادام فيها من يقفون على الثغور ويبلغون الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وقد كان لكثير من العلماء الفضلاء موقف آنذاك، والبعض قال كلاما عاما مجملا أُسِيءَ فَهمُه وتوجيهُه؛ من أجل ذلك أحببت أن أُبَيَّنَ الحكم الشرعيّ، وذلك في سطور أختصر فيها ما أفردت له بابا كاملا من كتابي “الأحكام الشرعية للنوازل السياسية” الذي نُشر قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير بعام واحد.

    وفي البداية أُجْمِلُ فأقول: إنَّ الأئمةَ الأربعة وعلماءَ الأمصار كافَّةً متفقون على أمرين، الأول: أنّ الهدنة (الموادعة – المصالحة) مع دار الحرب جائزة بشروطها، الثاني: أنّ جوازها مرهون بشروط لا بدّ من توافرها، ومن تأمل هذه الشروط أيقن أنّهم لو عرضت عليهم مسألة التطبيع مع الكيان الصهيونيّ كما هي الآن لاتفقوا على رفضها ولحكموا ببطلانها بلا خلاف أو نزاع، ولولا خلاف الظاهرية الذين قالوا بأن الموادعات منسوخة بآية السيف لاستعملت مصطلح الإجماع وأنا هادئ البال ساكن الخاطر.

   كان هذا هو الموجز وإليكم التفصيل بلا إملال ولا تطويل: فعقد الهدنة جائز بشروطه الشرعية، عند كافة المذاهب الإسلامية «الحنفية([1])، والمالكية([2])، والشافعية([3])، والحنابلة([4])، والزيدية([5])، والإمامية([6])، والإباضية([7])، وغيرهم([8])» وقد نُقل الإجماع على جوازاها بالشروط المقررة عند العلماء([9])، لكن دعوى الإجماع يردها أن الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم قالوا بأن المهادنات كلها منسوخة ([10]).

   وقد استدلوا على ذلك بأدلة منها: قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[الأنفال: 61]، أي: “وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحرب – إما بالدخول في الإسلام وإما بإعطاء الجزية وإما بموادعة ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح – فمِلْ إليها وابذل لهم ما مالو إليه من ذلك وسألوكَه”([11])، كما استدلوا على ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية هادن قريشاً؛ وتعاهد معها على وضع الحرب عشر سنين، وقد رويت أخبار هذه المعاهدة في كتب الحديث والسيرة([12])، وردوا دعوى النسخ بأنّ: “شروط النسخ معدومةٌ فيها”([13]).

   وقد اشترط العلماء لصحة الهدنة أو الصلح شروطاً، اتفق عليها القائلون بجواز الهدنة، فإذا إضيف لاتفاقهم أنّ الظاهرية خالفوهم في جواز الهدنة من حيث الأصل؛ فيكون القدر المجمع عليه هو عدم جواز المصالحة مع دار الحرب إذا غاب شرط من الشروط التي اشترطها العلماء، أول هذه الشروط: أن يكون في المصالحة مصلحة للمسلمين، فإن لم يكن فيها مصلحة للمسلمين لم تجز؛ لأنّ الأصل مع دار الحرب إمضاء الجهاد([14])، وثاني هذه الشروط: «ألا يشتمل عقد الهدنة على شرط فاسد» وهذا الشرط ورد ذكره في كافة المذاهب الإسلامية، إما بالنص عليه مباشرة، أو بذكر أمثلة للشروط الفاسدة التي لا يصح معها العقد، وهي لا تقل عن التصريح بالشرط([15]).

    وثالث هذه الشروط: يرى جمهور الفقهاء « المالكية والشافعية والحنابلة والزيدية»([16])، أن عقد الهدنة لا يجوز أن يعقده مع المشركين إلا الإمام أو من ينوب عنه، لأنه عقد يترتب عليه تعطيل الجهاد وهو من المصالح العامة التي لا يقف عليها غير الإمام، وخلاف الحنفية ضعيف لا دليل عليه، ورابع هذه الشروط ألا يكون العقد مؤبداً، ومن تأمل أقوال المذاهب يتبين له أنهم لم يختلفوا في عدم جواز التأبيد، وإن كانوا قد اختلفوا هل يشترط تحديد المدة أم يجوز أن تكون مطلقة، واختلف القائلون بعدم جوازها مطلقة: هل لها مدة محددة في الشرع أم أن تحديدها يرد إلى نظر الإمام وإلى حاجة المسلمين؟([17])، وجماع الأقوال: « أنها تجوز مطلقة ومؤقتة، فأما المطلقة فجائزة غير لازمة يخير بين إمضائها وبين نقضها، والمؤقتة لازمة»([18]).

   وفي ضوء هذه الشروط المفقودة الآن: هل يخفى على عاقل أنّ معاهدات السلام – التي هي أقل بكثير في مخاطرها ومفاسدها من التطبيع – لا تحظى من دين الله بأدنى شرعية ولا تسعد من شريعة الله بأدنى مستند؟! إنّ جميع معاهدات السلام التي لم تكن في حقيقتها سوى مقدمة للتطبيع بدءاً من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ومرورا بمدريد وأوسلو وانتهاء باتفاقات الإذعان الأخيرة؛ إن كل هذه المعاهدات باطلة شرعاً؛ لعدم توافر الشروط التي نص العلماء عليها واتفقوا على معظمها، ومعلوم أن فقدان شرط واحد من شروط العقد يبطله ولو وجدت سائر الشروط، فالشرط ما يلزم من عدمه العدم، فكيف وقد عدمت الشروط جملة بما يعدم هذه الاتفاقيات من أساسها ويقتلعها من جذورها.

    وإذا كانت تلك المعاهدات الساقطة المنعدمة مقدمة للتطبيع، فإنّ التطبيع الذي مَكَّنَ العدو الصهيونيّ من التغلغل والتوغل والتغول في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية وغيرها؛ هذا التطبيع مقدمة للمشروع الكبير، مشروع صفقة القرن الذي يستهدف إعادة هيكلة المنطقة برمتها؛ بما يجعل جلوس إسرائيل على عرش المنطقة مستريحا وآمنا، وبما يجعل قوائم عرشها منغرسة في عمق التربة العربية والإسلامية، وبما يقضي على حاضر الأمة ومستقبلها وعلى دين الناس ودنياهم.

   ومن هنا نقول إنّ هذا التسابق البغيض من الكيانات العربية الهزيلة نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني هو بمثابة تساقط الفراش الهائم في النار الموقدة، أو تهافت الذباب الحقير على الوقوع على العذرة، وإنّ شعوبنا العربية والإسلامية بريئة من هذ الردة التي لا أبا بكر لها، ومن ثم فإن الواجب على الشعوب هو بذل الوسع للتخلص من هذه الأنظمة العميلة الدخيلة، التي لا تمثل أمتنا إلا بقدر ما يمثلها ترامب أو نتنياهو أو ماكرون الخبيث.

   إنّ الحقيقة أكبر من كل ما تعرضنا له، وإنّ الواقع أمرُّ من كل ما يبدو لنا أننا نعالجه، وإنّ ما تقدم من عرض المسألة في جانبها الفقهي ليس إلا على سبيل التَّنَزُّل مع الخصم، وإلا فالمسألة هجرت منطقة الفقه من زمن بعيد ولاذت بمقام العقيدة، إنّها بعد ما رأينا من حال أولئك الحكام الذين نزلوا مع أعداء الأمة وأعداء دينها في قلب النَّفق المظلم الذي يقبعون فيه جميعاً، وإنّ نداء الآيات المعلنة عن الحقائق والدقائق يصخ الآذان الآن: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (المائدة 51)، (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة 52)، (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (المجادلة 22)، وغيرها من الآيات التي فاض بها الكتاب العزيز وفاضت بالمعاني الكبيرة التي تنقل المسألة إلى ميدان العقيدة، وتكشف الفعال التي تسلب الإيمان وتجلب الكفران؛ حيث بلغت الموالاة حد المظاهرة للكافرين على الإسلام والمسلمين.


([1]) المبسوط للسرخسي (10/86)، بدائع الصنائع (7/ 108)، ونصب الراية (4/239)، شرح السير الكبير (4/1689) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق عثمان بن عليّ الزيلعيّ 3/245

([2]) التاج والإكليل 4/ 605، شرح مختصر خليل محمد بن عبد الله الخرشي (3/ 150) دار الفكر بيروت بداية المجتهد (1/512)، أشرف المسالك (1/113) حاشية الصاوي على الشرح الصغير – أبو العباس أحمد الصاوي 2/317 دار المعارف.

([3]) أسنى المطالب (4/224)، مغني المحتاج (6/86)، تحفة المحتاج (9/304) حاشية الجمل – سليمان بن منصور العجيلي المصري 5/228 دار الفكر بيروت، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج – محمد بن شهاب الدين الرملي 8/ 106

([4]) الإنصاف (3/211)، كشاف القناع عن متن الإقناع منصور بن يونس البهوتي(3/111) دار الكتب العلمية بيروت، شرح منتهى الإرادات منصور بن يونس البهوتي (1/655) عالم الكتب

([5]) التاج المذهب لأحكام المذهب – أحمد بن قاسم العنسي الصنعاني (4/449) مكتبة اليمن، البحر الزخار – أحمد بن يحيى بن المرتضي (ص446-447) دار الكتاب الإسلامي

([6]) شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام جعفر بن الحسن الهذلي(1/303-304) مؤسسة مطبوعاتي إسماعليان

([7]) جوهر النظام في علمي الأديان والاحكام للمسالمي (ص603).

([8]) انظر: سبل السلام (1/202)، الدرر البهية (1/339)، نيل الأوطار

([9]) انظر: أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224)، البحر الزخار (ص446)، والموسوعة الفقهية الكويتية (25/232).

([10]) انظر المحلي لابن حزم (7/357-358).

([11]) تفسير الطبري (م 6 ج 10 ص 43-44).

([12]) رواها البخاري برقم”2543″(ج5ص2112)، والإمام أحمد في المستد برقم”18528″ (ج16ص7608)، والبيهقى في الكبرى برقم”17307″(ج25ص12471) والبداية والنهاية (ج4ص168)، والسيرة النبوية لابن هشام (ج4ص284)،

([13]) أحكام القرآن لابن العربي (2/391-392)، وراجع كذلك: أحكام القرآن للجصاص (3/ 103-104)، وتفسير القرطبي (5/ 2879) وتفسير ابن كثير (4/175-176)

([14]) المبسوط للسرخسي 10/86 – شرح مختصر خليل للخرشي (150) – الأم محمد بن إدريس الشافعي 4/200 دار المعرفة بيروت – كشاف القناع (3/112) – التاج المذهب (4/449) – شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام (ص303-304) – جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام، عبد الله بن حميد السالمي (ص603).

([15]) شرح السير الكبير (5/ 1750). شرح مختصر خليل، للخرشي (ص151) – أسنى المطالب شرح روض الطالب (4/224)  – الكافي لموفق الدين ابن قدامة (4/231) – التاج المذهب (4/449) – شرائع الإسلام (1/304).

([16]) بداية المجتهد (1/283)، المهذب (2/332) حاشيتا قليوبي وعميرة أحمد سلامة القليوبي وأحمد البرلسي عميرة 4/238 دار إحياء الكتب العربية،الفروع محمد بن مفلح بن محمد المقدسي6/253 عالم الكتب، شرح منتهى الإرادات منصور بن يونس البهوتي 1/655 عالم الكتب، مطالب أولي النهى 2/585، التاج المذهب 4/449

([17]) راجع: شرح مختصر خليل للخرشي (/151)، والتاج الإكليل (4/406)- روضة الطالبين(9/141-143)، المجموع للنووي (21/373) – المغني لابن قدامة (12/591)، والكافي لابن قدامة (4/230)، الإنصاف (4/212)، كشاف القناع (3/112) – التاج المذهب لأحكام المذهب (4/449) – شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام (1/304).

([18]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح – ابن تيمية (1/176).

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى