التطبيع مع إسرائيل ومقاطعة تركيا .. واختلال “السياسة العربية”
بقلم عبدالله معروف
بكل المقاييس تُعتبر تركيا دولةً متقدمةً في مختلف المجالات وحتى في الوزن الجيوسياسي أكثر من إسرائيل، فلماذا تحاول تلك الدول قلب الصورة وتبرّر ابتعادها عن تركيا واقترابها من إسرائيل بحجج واهيةٍ من قبيل الاستفادة من التقنيات والتقدم الإسرائيلي؟
“على جميع التجار الإماراتيين تحويل علاقتهم التجارية من تركيا إلى إسرائيل”، هذه التغريدة التي تشبه الأمر العسكري نشرها القائد السابق لشرطة دبي ضاحي خلفان تميم في 14 أغسطس الماضي، في اليوم التالي مباشرة لإعلان التوصل إلى اتفاق تطبيع العلاقات بين الإمارات وإسرائيل.
اللافت أن هذه التغريدة نُشرت قبل إعلان توقيع اتفاق التطبيع وقبل القيام بأي شيء على الأرض في هذا الخصوص، وتتابعت بعدها تغريدات ضاحي خلفان لتمدح جودة المنتجات الإسرائيلية وأسعارها التي اعتبرها منطقية، وهو أمر غير صحيح في الواقع لأن سعر المنتج الإسرائيلي يُعتبر مرتفعاً جداً. وأصرّ يومها ضاحي خلفان على حشر تركيا في حملته، ليدعو يوم 17 أغسطس تجار الإمارات أن يحولوا تجارتهم من تركيا بالذات إلى إسرائيل!
تبع ذلك كمية مبتذَلة من المديح لاتفاق التطبيع مع إسرائيل من مختلف المسؤولين الإماراتيين والتبشير بالسمن والعسل من خلال وصلات مديحٍ للتقدم الإسرائيلي في مختلف المجالات العلمية والزراعية والطبية وغيرها! بما يوحي للسامع أن خيرات دولة الاحتلال ستصبّ فوق دول التطبيع صبّاً، مع حملات تشويه للفلسطينيين الذين “أضاعوا الفرصة” في الحصول على خيرات الاحتلال الإسرائيلي.
والغريب أن هذه العملية انتقلت بشكل غير مفهوم إلى السعودية، التي نشط فيها بعض الكتاب المحسوبين على التيار الليبرالي في شيطنة الفلسطينيين، والتبشير بالتطبيع القادم بين السعودية وإسرائيل، والإسهاب في الحديث عن منافع التطبيع التي ستصل إلى السعودية وتدعم الاقتصاد السعودي وتجعل السعودية في مصافّ الدول المتقدمة! وتترافق تلك الحملة مع هجوم غير مسبوق على تركيا، ربما بسبب موقفها الصلب من مسألة التطبيع المجاني الذي يبدو أن بوادره تلوح في الأفق السعودي.
وتتصاعد موجة العداء السعودي-الإماراتي ضد تركيا حالياً لتصل إلى محاولة الترويج لمقاطعة المنتجات التركية، بل إن الأخبار التي يتناقلها بعض الصحفيين بشكل غير رسمي تفيد بأن السلطات السعودية تشدّد حالياً الخناق على شركات السياحة السعودية وتمنعها من إجراء حجوزات سياحية إلى تركيا.
وقامت جهات مدعومة حكومياً هناك بتدشين أكثر من هاشتاغ يروّج مقاطعة البضائع التركية، ووصل الأمر في بعض الحالات إلى نوع من الطرافة، بل والابتذال أحياناً، كما هي الحال في شركة “هيرفي” السعودية للبرغر، التي أعلنت يوم 18/10/2020 في تغريدةٍ عبر تويتر أنها توقفت عن بيع ما يسمى “البرجر التركي” واستبدلت به “البرجر اليوناني”، والواقع أني لم أسمع يوماً بشيء اسمه برغر تركي أو يوناني!
لكنّ دراسةً بسيطةً وسريعةً للواقع الاقتصادي والسياسي تعطينا صورةً مغايرةً تماماً للسياسة الإسرائيلية الاقتصادية وأوضاعها ومكانتها التقنية والعلمية والصحية التي تختلف تماماً عن الصورة التي تبشّر بها تلك الأقلام، في مقابل الوضع التركي القوي والنافذ اقتصادياً وصناعياً، بل وطبياً.
فبينما كان المسؤولون الإماراتيون يبشرون بالتعاون مع إسرائيل في مجال مكافحة فيروس كورونا، فإن إسرائيل حسب مؤشرات منظمة الصحة العالمية في ما يتعلق بفيروس كورونا تبوأت موقعاً متقدماً بين أسوأ الدول تعاملاً مع المرض، إذ تُعتبر من أوائل الدول عالمياً من حيث نسبة الإصابات إلى عدد السكان، التي تبلغ حالياً أكثر من 33.000 حالة لكل مليون مواطن، فيما تبلغ هذه النسبة في تركيا نحو 4.100 حالة فقط لكل مليون مواطن، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على فشل ذريع في السياسة الإسرائيلية الطبية في مكافحة المرض.
والطريف أن هذه النسبة تبلغ في السعودية نحو 9.800 حالة لكل مليون مواطن، وفي الإمارات نحو 11.600 حالة لكل مليون مواطن، أي إن وضع هاتين الدولتين أفضل من وضع إسرائيل في مواجهة الجائحة، وبدلاً من أن تفكرا في التعاون مع تركيا التي تُعتبر متقدمةً جداً في مكافحة المرض، إذا بهما تتباهيان بالتعاون مع إسرائيل التي تعاني من وضع في غاية السوء في مواجهة المرض! كما أن إسرائيل لم تقدم للبشرية حتى الآن أي شيء ذي قيمة في ما يتعلق بجائحة كورونا، لا من قبيل البحوث المتعلقة بإيجاد علاج أو لقاح للمرض، ولا من قبيل إجراءات مكافحته، وهي في ذلك عالةٌ على الدول الأخرى.
إن ما لا يعرفه هؤلاء المبشرون بالتطبيع مع إسرائيل، أن إسرائيل لا تقدم لحلفائها شيئاً أكثر من المساهمة في الوساطة للحصول على بعض السلاح، وبأسعار مرتفعة للغاية، وبشرط أن لا يؤدي ذلك إلى تفوق أي دولةٍ أخرى عليها، فهي لا تسمح للأردن ولا لمصر بالحصول على أسلحة أمريكية متطورة، وتقول بمنتهى الوضوح إنها ترفض أي تفوق عربي عليها في هذا المجال خوفاً على أمنها، لأنها لم يسبق أن اعتبرت أي دولةٍ عربيةٍ آمنةً بالنسبة إليها!
كما أن إسرائيل وإن سوّقت نفسها للعالم منتجاً متفوقاً للتكنولوجيا، فإن هذه التكنولوجيا في الحقيقة ليست في أغلبها إسرائيلية، بل هي أمريكية وأوروبية تسوّق من خلال إسرائيل، فهي وسيط أكثر منها منتجاً، وتقوم فعلياً على تطوير ما لديها من تكنولوجيا مستوردة من الخارج تماماً كما تفعل أي دولة أخرى، لكن الفرق أن إسرائيل تسوّق نفسها بعد إعادة تصدير المنتج إعلامياً على أنها هي الأصل وهي الأساس وهي مكان الاختراع، فيما الحقيقة أنها في أغلب الحالات تمثل الوسيط والمطوّر فقط!
يضاف إلى ذلك بنية اقتصادية تعتمد أساساً على المساعدات الخارجية من الولايات المتحدة والدول الغربية، وبالتالي فهي لا تجد في هذه الدول العربية المستهلكة أكثر من مصدر للمال. وحتى في الزراعة فإن التكنولوجيا التي تعتمدها إسرائيل وتسوّق نفسها من خلالها للعالم العربي على أنها الأصل والأفضل والأكثر تقدماً فيها، هي في أغلبها تقنيات تعتمد على المعاهد الأمريكية والتقنيات المستوردة من الخارج التي يتم تطوير بعضها لتتناسب مع التطبيق في الداخل، وهذا أمر طبيعي في جميع دول العالم، لكن غير الطبيعي هو أن تقدم الدولة نفسها -كما تفعل إسرائيل- مهداً لكل تقنيات الزراعة والري، وهو أمر غير صحيح. وحتى منظومة القوانين الاجتماعية والبنيوية والبنية التحتية التي تفاخر بها إسرائيل العالم العربي، هي في أصلها منظومة بريطانية ورثتها دولة الاحتلال عن بريطانيا التي سلمتها فلسطين دولةً جاهزةً!
إن إسرائيل في الحقيقة دولة أمنية، والشيء الذي تبرع فيه بوضوح على مستوى العالم هو الخدمات الأمنية من قبيل بيع المعلومات والجاسوسية، حتى وصل بها الأمر إلى التجسس على أقرب حلفائها، الولايات المتحدة، كما حدث في فضيحة التجسس الإسرائيلية الشهيرة في أمريكا عام 2014 وفضيحة التجسس على البيت الأبيض عام 2019. وتنشط إسرائيل في بيع المعلومات لمن يشتريها من الدول التي تتعامل معها، وبالمقابل تجمع عنها المعلومات وتتجسس عليها، وهذه العمليات الأمنية التجسسية تُعتبر في الحقيقة أهم ما يمكن أن تتوقعه أي دولةٍ من إسرائيل، لهذا نجد أنها دولةٌ مفضلةٌ لدى الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، ولديها علاقات واسعة مع بعض هذه الدول.
إن الهالة الكبيرة التي تحيط بها هذه إسرائيل نفسها والتي تحيطها بها الدول العربية المطبّعة معها هي في الحقيقة شيء غير حقيقي، وذلك في مقابل تركيا التي تقدم نموذجاً حقيقياً لدولةٍ تعتمد على إمكانياتها الذاتية، لا المساعدات الخارجية كما تفعل إسرائيل. وتقدم لمحيطها الإقليمي الكثير مما يضيق الحديث عنه هنا، ويكفي لذلك فقط أن نعرف أن جودة المنتج التركي مع انخفاض سعره أصبح ماركةً مميزةً لتركيا في العالم، بما يدعو بعض الدول الغربية -على رأسها الولايات المتحدة- إلى التحول إلى تركيا بدلاً من الصين، حيث بلغت الصادرات التركية عام 2019 نحو 175 مليار دولار، مما وضعها في المرتبة 26 عالمياً، وذلك مقارنة بالصادرات الإسرائيلية التي بلغت في نفس العام نحو 60 مليار دولار وجعلها في المرتبة 46 عالمياً. فإذا علمنا أن حجم الصادرات التركية للسعودية والإمارات معاً العام الماضي لم يتجاوز 6.5 مليار دولار، بما لا يتجاوز 3.7% فقط من حجم الصادرات التركية، فإنه يتبين لنا أن هذه اللوثة لا تؤثّر بشكل ملحوظ في الاقتصاد التركي.
بكل المقاييس، تُعتبر تركيا دولةً متقدمةً في مختلف المجالات الاقتصادية والصحية وحتى في الوزن الجيوسياسي أكثر من إسرائيل، فلماذا تحاول تلك الدول أن تقلب الصورة وتبرّر ابتعادها عن تركيا واقترابها من إسرائيل بحجج واهيةٍ من قبيل الاستفادة من التقنيات والتقدم الإسرائيلي في مختلف المجالات؟! هذا سؤال يعرف القائمون على تلك الدول أن الإجابة عنه محرجة، لذلك يتجنبون الإجابة عنه، أمام شعوبهم على الأقل!
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)