“التطبيع”.. مسلسل من التنازلات وثغور الأمة بلا رباط
بقلم آلاء يوسف
“الجولان لنا”.. هو هتاف الحلقة الجديدة من مسلسل الزحف الصهيوني على الأراضي العربية، بعد إعلان الإدارة الأمريكية سيادة “إسرائيل” على هضبة الجولان السورية؛ إلا أن مشهد اليوم، كانت موسيقيته التصويرية هي عزف النشيد “الإسرائيلي”، على أراضٍ عربية، بحجة المحافل الرياضية، في تبجح بتطبيع لم يُسبق من قبل في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
ومن المخجل أن يكون “التطبيع” مع الكيان الصهيوني، قضية قابلة للنقاش ، والانقسام بين مؤيد ومعارض، في أوساط من يصفون أنفسهم بـ “قادة الرأي” في العالم العربي والإسلامي، لا سيما في ظل ما يشهده حاضرنا من تنفيذ رسمي جليّ للدولة المزعومة الممتدة من النيل إلى الفرات.
صناعة صهيونية
ففي البداية لابد من التذكير بأن مصطلح التطبيع أُقحم في ملف الصراع العربي ــ الإسرائيلي، بشكل لا يخدم إلا مصالح الاحتلال، ومزاعم أحقيته في التواجد في منطقة الشرق الأوسط؛ إذ يشير في مجال السياسة الدولية إلى إعادة العلاقات بين دولتين، أو مجموعة من الدول إلى حالتها العادية والطبيعية بعد فترة العداء، أو الحرب بينهم.
لابد من التذكير بأن مصطلح التطبيع أُقحم في ملف الصراع العربي ــ الإسرائيلي، بشكل لا يخدم إلا مصالح الاحتلال، ومزاعم أحقيته في التواجد في منطقة الشرق الأوسط
ويوضح المحلل السياسي اللبناني سليم الحص، في مقاله” السلام والتطبيع.. أي مفارقة”، أن “التطبيع” لا يمكن تطبيقه على الصراع العربي ــ الإسرائيلي، إذ لم توجد علاقة طبيعية بين الطرفين لتعود الأوضاع إليها، ولم يكن يوجد كيان إسرائيلي أصلًا في المنطقة العربية، لتقام معه أي علاقة، بل تم إقحامه بخلق الصراع بينه والعرب، ولذلك لايمكن أن ينتهي الوضع تحت أي ظرف من الظروف إلى حالة التطبيع.
وتأسيسًا على ما سبق؛ فإن التطبيع الذي اختلقته “إسرائيل”، لم يكن هدفه بالطبع خلق السلام مع دول الجوار التي انغرست بينهم، لا سيما وأن خطتها طويلة المدى تتضمن السيطرة على تلك المناطق، بادئة ــ بعد احتلال فلسطين ــ بإعلان السيادة الرسمية الإسرائيلية على هضبة الجولان.
كما أن التطبيع بين “إسرائيل” وكل الدول العربية، لم يدل في أي وقت إلى مفهومٍ موحدٍ؛ فارتبط مدلوله بمصلحة “إسرائيل”، فاتجهت نحو إقامة علاقات ثقافية وتجارية ودبلوماسية، لترسيخ فكرة قبول الكيان الصهيوني، كدولة جوار في منطقة الشرق الأوسط، وكان المستهدف الرئيس من تلك الخطة، الشعوب الإسلامية والعربية، خصوصًا الملتزمين رسميًا بمعاهدات السلام، كالأردن، ومصر.
أما فيما يخص الشعب الفلسطيني تحديدًا، فكان مفهوم التطبيع مع الاحتلال، مساويًا لفكرة التسوية، لا سيما وأن التواصل مع عناصر الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، يفرضه الواقع منذ 1948م، لذلك فإن مسار التطبيع، لم يتوجه لتواصل ثقافي، بقدر توجهه لحرب المفاوضات، ثم التنازلات، فبدأ بالنكبة، مرورًا بالمطالبة الفلسطينية بحدود 67، وصولًا لتكهنات بشأن صفقة القرن، وتهجير أهل غزة، ومشاريع الوطن البديل.
هرولة عربية
وبالرغم مما سبق؛ إلا أنه من المؤسف ــ بل من ضروب الخيانة ــ أن نجد بعض القيادات العربية السياسية، والثقافية، والدبلوماسية تهرول نحو التقارب مع الكيان الصهيوني، وتعمد إلى التعامل معه باعتباره دولة قائمة لا تمت لاحتلال فلسطين، أو للاعتداء على الأمة الإسلامية والعربية بأي صلة!
من المؤسف ــ بل من ضروب الخيانة ــ أن نجد بعض القيادات العربية السياسية، والثقافية، والدبلوماسية تهرول نحو التقارب مع الكيان الصهيوني، وتعمد إلى التعامل معه باعتباره دولة قائمة لا تمت لاحتلال فلسطين، أو للاعتداء على الأمة الإسلامية والعربية بأي صلة
فقد شهد الموقف الخليجي، تحولات مريبة تجاه قضية الصراع العربي ــ الإسرائيلي، خصوصًا بعد قمة الرياض 2017م، فاتجهت التصريحات العربية نحو تمييع الموقف من الاحتلال؛ بدءًا بإشارة أحد المسؤولين إلى أحقية الإسرائيليين في العيش بسلام كما الفلسطينيين، ثم تأكيد أحدهم على أن الصراع العربي ــ الإسرائيلي، لا داعي لاستمراره، وصولًا إلى مطالبة أحد الرؤساء الشعب الفلسطيني بقبول التعايش مع الإسرائيلين في سلام.
كما تمثل السفور في التقارب مع “إسرائيل”، في مشاهد استقبال رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، في إحدى العواصم العربية؛ وعزف النشيد الصهيوني في عاصمة أخرى، ورفع علم الاحتلال في إحدى الدول الخليجية، بحجج الفعاليات الرياضية.
وكان الرهان في زمن سابق على الشعوب العربية والإسلامية، التي كانت تنتفض رفضًا لممارسات الاحتلال في فلسطين، إلا أن تلك الصحوة العربية، أصابها شيئ من الوهن، لا سيما في ظل ماعايشته خلال السنوات الماضية من إنهاك ثورات الربيع العربي، فضلًا عن التغييب المتعمد لفكر العداء لإسرائيل في الإعلام العربي، ما أثر على وعي الأجيال الجديدة، بالقضية.
تحديات الواقع
وبالرغم من تأزم الوضع الذي تعايشه الأمة اليوم؛ إلا أن ذلك لايعني الاستسلام للأمر الواقع بحجة العجز عن تغييره؛ فالمعركة لم تقتصر يومًا على حمل البندقية في ساحات الحرب؛ فكل المجالات بحاجة لصوت الصحوة الإسلامية، ونداءات الوطنية التي خفتت تمامًا خلال السنوات السابقة.
بالرغم من تأزم الوضع الذي تعايشه الأمة اليوم؛ إلا أن ذلك لايعني الاستسلام للأمر الواقع بحجة العجز عن تغييره؛ فالمعركة لم تقتصر يومًا على حمل البندقية في ساحات الحرب؛ فكل المجالات بحاجة لصوت الصحوة الإسلامية، ونداءات الوطنية التي خفتت تمامًا خلال السنوات السابقة
فنتلمس اليوم أن واقع الصراع العربي ـ الصهيوني، قد تحول لأداة تراشق سياسي، بين الدول العربية والإسلامية، في المحافل الرسمية، ووسيلة للاتهامات بخيانة الآخرين، في الوقت الذي يقف الجميع فيه ملتزمين بالحدود السياسية والدبلوماسية التي وضعتها الولايات المتحدة الأمريكية خدمة لحلفائها من الصهاينة.
ومن السخف أن يكون الموقف التطبيعي لإحدى الدول العربية، ذريعة لنظيراتها من قوى المنطقة في التواصل مع الكيان الإسرائيلي، وكأن المسألة يومًا لم تكن صراعاً وجودياً تحكمه أبعاد دينية وقومية ووطنية!!
في فلسطين البداية
ولابد من الاعتراف بأن القيادة الفلسطينية، تتحمل المسؤولية الحقيقية لما وصلت إليه قضية القدس، وما يعانيه الشعب الفلسطيني من أزمات اقتصادية وإنسانية ؛ فلم يسجل التاريخ تشكل أي جيش فلسطيني وطني خلف قيادة موحدة، في وجه الاحتلال الجاثم على أراضي فلسطين قرابة قرن من الزمان.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل ازداد سوءًا بصراعات فلسطينية ــ فلسطينية، بين السلطة والمقاومة، وبين التيارات السياسية المختلفة، بالإضافة لخلاف بعض القيادات الفلسطينية مع الأنظمة العربية، ما زاد من هشاشة الجانب الفلسطيني، الذي كان ضعيفًا بعد تفكك الأيادي العربية من حوله.
وتأسيسًا على ما سبق؛ فإن من واجبات الوقت الأكثر إلحاحًا، هي توحيد الصف الفلسطيني، خلف المقاومة، وتقديم القضية على المنصب السياسي، وإزالة اللبس فيما يخص الملفات الشائكة كقضية قطاع غزة، لإعادة اكتساب الصدقية في الجانب الفلسطيني دوليًا.
كما لا يمكن إغفال أهمية دور فلسطيني الشتات، في الحفاظ على بقاء الثقافة الفلسطينية، تراثًا وقضية، في أنحاء العالم، وخصوصًا في الدول العربية.
من واجبات الوقت الأكثر إلحاحًا، هي توحيد الصف الفلسطيني، خلف المقاومة، وتقديم القضية على المنصب السياسي، وإزالة اللبس فيما يخص الملفات الشائكة كقضية قطاع غزة، لإعادة اكتساب الصدقية في الجانب الفلسطيني دوليًا
ثغور الأمة
وإذا ما كانت معركة اليوم ثقافية من الطراز الأول؛ فإن أسلحتها لابد أن تتوافق مع ذلك؛ فالإعلام العربي يعاني خواءًا فكريًا؛ ولا يُقصد بذلك إنتاج البرامج الكلاسيكية السياسية التي لا تثير سوى اهتمام المختصين؛ بل استغلال المسلسلات الدرامية، والأفلام الوثائقية، والمسرح، وصفحات التواصل الاجتماعي، ومجال الإنشاد، في استقطاب أذهان الأجيال الشابة، والتوعية بتاريخ وواقع الأمة.
أما مجال التدوين والكتابة، فقد شهد انتقادات واسعة للأساليب التحريضية والخطابية الكلاسيكية، فيما يخص القضايا القومية، ليتحول بعد ذلك لفقر تام في تناول تلك المسائل، لذلك أصبحنا بحاجة لكتاب بحثيين يؤصلون لواقع الأمة، وفي الوقت ذاته يقدمون توجيهًا متناسبًا مع التطبيق، بريئًا من الاستقطابات والمصالح السياسية .
ولا يمكن إغفال مجال البحث العلمي في تغيير الواقع، فما يلاقيه بعض الطلاب من رفض المواضيع السياسية المتعلقة بالكيان الصهيوني إعلاميًا وسياسيًا، لا يمكن وصفه إلا بـ”العبث”، فكل مستجد على الواقع العربي لابد من التيقظ له بحثيًا في كافة المجالات، وإلا فكيف ستكون المواكبة تهيئًا للمواجهة؟!
وفي النهاية فإن كل ما يجد على ساحة أمتنا اليوم، من مآسي، يزيد من ظلام واقعها، إلا أنه يخلق لها آفاقًا جديدة للمقاومة، وثغورًا أخرى للرباط، لمن أراد لذلك سبيلًا.
(المصدر: موقع بصائر)