التطبيع العربي.. رداءة في الخطاب وقصر في النظر!
بقلم ساري عرابي
لا يمكن فهم الصيغة التي اعترض فيها، رئيس مجلس الشورى السعودي عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ، على بند في البيان الختامي، للاتحاد البرلماني العربي المنعقد في عمّان بالأردن، في الرابع من آذار/ مارس الجاري، والذي يدعو (أي ذلك البند) إلى “وقف كافة أشكال التقارب والتطبيع مع المحتل الإسرائيلي”، باعتبار ذلك “واحدة من أهم خطوات دعم الأشقاء الفلسطينيين”، كما قال البيان.
المشكلة، ليست في فهم دوافع ممثل “البرلمان” السعودي، فهي واضحة بلا شك، وإنما في الصيغة التي اعترض بها، إذ تفتقر إلى أي معنى يمكن تعقّله عن ممثل برلماني، فقد رفضَ البندَ باعتباره بندا سياسيّا ليس من اختصاص البرلمانيين العرب. ويمكن القول، والحال هذه، إنّ هذه من المرات القلائل التي يمكن للمرء أن يسمع فيها، أن السياسة ليست من اختصاصات البرلمان، وممن يُفترض أنه برلماني، بيد أنّه محقّ باعتبار انعدام المضمون السياسي، لمجلس الشورى في بلده، إلا أنّ الإشكال في التعبيرات التي صاغ فيها موقفه، وكأنّ الحال في بلده هو الأصل فيما يتعلق بالعمل البرلماني من حيث هو.
هذه من المرات القلائل التي يمكن للمرء أن يسمع فيها، أن السياسة ليست من اختصاصات البرلمان، وممن يُفترض أنه برلماني، بيد أنّه محقّ باعتبار انعدام المضمون السياسي، لمجلس الشورى في بلده
ثمّ وإذا تجاوزنا عن ذلك، فإنّه ومهما كان حال البرلمانات العربية، حتى وهي تخلو من أي بعد تمثيلي حقيقي للجماهير، فإنّه لن يضيرها (أي تلك البرلمانات) أن تعبّر، في محافل ليست ذات أهميّة حقيقية، عن عمق تلك الجماهير، فيما يفترض أنه لا يؤذي صناع السياسة العرب، بيد أنّ الوعي بهذا المفهوم، أي عمق الجماهير، لا يبدو أنّ له أيّ حيّز في ذهن البرلمانيّ الممثل للملكة العربية السعودية.
لعلّ ذلك ينمّ عن تخلّف ما، أولا في فهم السياسة وما يتّصل بها، فممارستها والحديث فيها شأن خاصّ بالطبقة السياسية التي تحتكر البلد، وهذا وإن كان حاصلا في البلاد العربية كلّها بنسبة ما، إلا أنّه يبلغ حدّ الإطباق في المملكة، وفي بلاد خليجية أخرى.
ولا يقلّ عن ذلك تخلّفا اعتبار الجماهير والعدم سواء، فلا قيمة، حينئذ، للموقف العامّ في الأمّة من قضية فلسطين، أو من موضوع التطبيع، بالرغم من أنّ هذا الموضوع يفترض أن يكون من أخصّ مهمّات البرلمانيين العرب باعتبارهم على نحو ما، وإن شكليّا، ممثلين لناس بلادنا، الذين لا شكّ، ومهما اشتغلت آلة تشويه الوعي الجبارة عليهم، لن يكون المحتلّ الإسرائيلي أقرب إليهم من أخيهم الفلسطيني، بل إنّ الأحداث تثبت دائما، أنّ فلسطين نموذج مهيمن في هذه الأمة، لا ينزاح عن عمقها، مهما توارى في الظاهر، فإنّه لا يتوارى إلا إلى العمق.
ذلك ينمّ عن تخلّف ما، أولا في فهم السياسة وما يتّصل بها، فممارستها والحديث فيها شأن خاصّ بالطبقة السياسية التي تحتكر البلد
إذن، فالصيغة التي اختارها الممثل السعودي للاعتراض على بند “الدعوة لوقف التطبيع”، صيغة في غاية التخلف والجهل، ولكنّ هذا على الأرجح ليس مهمّا بالنسبة له، طالما أنّه يبلّغ الموقف الرسمي. ولولا الموقف الرسميّ السعوديّ لما تذرّع ممثله البرلماني بأنّ هذا الموضوع من اختصاص السياسيين، فاختصاص السياسيين يفرض عليه، إذن، السعي لمنع مجرد الدعوة لوقف التطبيع في محفل برلماني غير مؤثّر في سياسات البلدان المنضوية فيه.
هذه الصراحة، وفي محفل من هذا النوع، لا تعني إلا شيئا واحدا، وهو أنّ رهان ولي العهد في السعودية ما يزال قائما على تنفيذ ما تحمّلته المملكة من دور في سياق ما يُدعى “صفقة القرن“، والذي يقوم أساسا على قيادة قاطرة التطبيع بمعزل عن حلّ القضية الفلسطينية من عدمه، وهذا بدوره يعني أنّ وليّ العهد ما يزال يضع كلّ خيوطه في يد ترامب، من بين كلّ النافذين في النخبة الأمريكية الحاكمة ومؤسساتها، ودون التغطي، حتى بمواقف خطابية، كأنّ لا يظهر بالاستفزاز الذي بدا به في اتحاد البرلمانيين العرب!
رهان ولي العهد في السعودية ما يزال قائما على تنفيذ ما تحمّلته المملكة من دور في سياق ما يُدعى “صفقة القرن”، والذي يقوم أساسا على قيادة قاطرة التطبيع بمعزل عن حلّ القضية الفلسطينية
في هذا الخصوص، ينبغي الحديث في نقطتين، الأولى في دلالة التخلّي عن الحصافة والمناورة في سياق الدعاية العامة التي لم تكن، من قبل، لتتنكر لفلسطين وقضيتها بهذا الشكل، وهذه الدلالة لا تشير إلى موقع قوّة، بل إلى قلق واستعجال، وفقر في أوراق القوّة التي يمكن بها المناورة مع الفاعل الأمريكي المؤثّر على البيت السعودي.
والنقطة الثانية، في موقف ذلك الفاعل الأمريكي. فبالرغم من أنّ المؤسسة الأمريكية كلّها معنيّة بالمملكة العربية السعودية بداهة، إلا أنّ الفاعل الذي نقصده بخصوص خيارات وليّ العهد المقتصرة على العلاقة به، هو دونالد ترامب، وهذا الفاعل ليس في أحسن حالاته، فحصاره من نخب المؤسسة الأمريكية الأخرى بلغ درجة حادّة جدّا، ومن قصر النظر الفادح تسليمه الخيوط كلّها، فيسقط بسقوطه كلّ حلفائه.
وبهذا يتبين أن الانخراط المحموم في مشروع التطبيع، لا ينمّ عن حصافة سياسية، حتى في حدود الطموحات السياسية الشخصية، وبمعزل عن كل ما يمكن قوله من قيم ومبادئ متعلقة بالقضية الفلسطينية، فإنّه أيضا لا يبشّر بمستقبل سياسيّ مضمون للذين يُظهرون هذا القدر من الاستعجال والقلق والمبالغة في تنفيذ الدور!
(المصدر: عربي21)