التطبيع الإسرائيلي – الخليجي: الركض وراء السراب
بقلم د. محسن محمد صالح (مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات)
الأنظمة العربية التي ظنت أن حبل نجاتها بيد الإسرائيليين والأمريكان كانت خاطئة؛ إذ إن جوهر المشروع الصهيوني مبني أساساً على بقاء البيئة العربية الإسلامية ضعيفة مفككة متخلفة، لأن الحالة النهضوية الحقيقية في الأمة تعني بالنسبة له خطراً وجودياً.
لعل مزيجاً من الشعور بالنشوة وغرور الانتصار قد رافق نتنياهو وهو يقضي ثماني ساعات متواصلة في ضيافة سلطان عمان قابوس بن سعيد (مساء الخميس 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2018 حتى صباح اليوم التالي) قضيا جزءاً منها في حوار ثنائي خاص، وجزءاً آخر بحضور مساعديهما، بينما كان لديهما وقت لشطر ثالث للاستماع للموسيقى. كانت هذه أول زيارة رسمية لرئيس وزراء إسرائيلي لعُمان؛ وكانت ثمرة لأربعة أشهر من الجهود المتواصلة لرئيس المخابرات الإسرائيلية يوسي كوهين، الذي رافق نتنياهو في زيارته.
ربما ضحك نتنياهو في سرِّه وهو يسمع التصريحات الرسمية بأن الزيارة “تناولت سبل دفع عملية السلام في الشرق الأوسط”، فقد قَتل جنوده في يوم الجمعة نفسه الذي عاد فيه من عُمان خمسة فلسطينيين وجرحوا 250 آخرين على حدود قطاع غزة، المنكوب بالحصار الإسرائيلي الخانق منذ أكثر من أحد عشر عاماً، فيما يمكن أن يُعدَّ أكبر سجن في العالم. ولماذا لا يضحك وهو يتابع سياسة إسرائيلية ممنهجة على مدى 25 عاماً من اتفاق أوسلو، قامت بقتل مسار التسوية، وأسقطت عملياً حلَّ الدولتين، وحولت السلطة الفلسطينية إلى كيان يخدم الاحتلال، وأنشأت واقعاً تهويدياً جديداً في القدس وباقي الضفة الغربية، وملأتها بالمستوطنين اليهود والمستعمرات.
في يوم الجمعة نفسه، وصلت وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف إلى أبو ظبي، لتنضم إلى فريق الجودو الإسرائيلي المشارك في بطولة “الجراند سلام”؛ دون أن تنسى أنها كانت الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، وأنها كانت وما تزال في اليمين المتطرف الذي صوَّت لإسكات الأذان في فلسطين المحتلة. ولم تتمكن ريغيف من حبس دموع فرحها عندما عُزف النشيد الوطني الإسرائيلي “الهاتكفاه” في قلب العاصمة العربية (أبو ظبي) احتفاء بفوز لاعب إسرائيلي بالذهبية يوم الأحد 28/10/2018. ولم يكن أحد ممن شارك في الحفل معنياً بـ”حفلة الشواء“ الصهيونية، التي حدثت في اليوم نفسه لثلاثة أطفال فلسطينيين من أبناء خان يونس، استشهدوا على يد الطيران الحربي لجيش الاحتلال الإسرائيلي. أما ريغيف فتابعت الاستمتاع بالحفاوة الإماراتية بزيارة مسجد الشيخ زايد، بينما يقوم رفاقها الصهاينة كل يوم وكل لحظة بتدنيس المسجد الأقصى.
ولم تكن الدوحة بعيدة عن المشهد قبل ذلك وبعده، فقد شارك فريق إسرائيلي في بطولة دولية للجمباز في الفترة من25 تشرين الأول/ أكتوبر إلى 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، وعُزف نشيده ”الوطني” فيها.
ربما لم يسترعِ انتباه الساسة الخليجيين، وهم يستضيفون بطولات تدعم “الروح الرياضية” وتؤكد أن الرياضة مدخلاً “للتسامح” و “السلام”، أن ثلاثين رياضياً فلسطينياً قد قتلتهم قوات الاحتلال في الأشهر السبعة الماضية منذ بدء مسيرات العودة في قطاع غزة. فالفلسطيني في نظر الصهاينة لا يستحق أن تكون لديه “روح” فضلاً عن أن يكون “رياضية”.
تطبيع قديم متجدد
لم تكن هذه الموجة التطبيعية الخليجية مفاجئة بحد ذاتها، وإن كانت لافتة في تزامنها وتعددها ونوعيتها. فالإسرائيليون يُرجعون علاقاتهم بعُمان إلى سنة 1979. وحسب يوسي ميلمان محلل الشؤون الاستراتيجية في جريدة معاريف، فإن جميع رؤساء الموساد منذ ذلك الوقت زاروا السلطنة. وظهرت العلاقات الإسرائيلية العُمانية إلى العلن سنة 1994 (بعد توقيع اتفاق أوسلو)، وأنشأ الطرفان مكاتب لرعاية المصالح التجارية بينهما. غير أن عُمان جمدت علاقاتها بـ”إسرائيل” إثر اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000.
وسبق لمسؤولين إسرائيليين أن زاروا الإمارات تحت أغطية مختلفة، كما التقى سفيرا الإمارات والبحرين في آذار/ مارس 2018 في مطعم كافي ميلانو في واشنطن بنتنياهو على مائدة العشاء في جلسة “ودية”، حسبما نشرت الواشنطن بوست والأسوشيتد برس. وشارك فريقان إماراتي وبحريني في مسابقة دولية للدراجات تنطلق من القدس المحتلة (4/5/2018)، بينما كان الصهاينة يحتفلون بسبعينية إنشاء كيانهم، وبنقل السفارة الأمريكية إلى القدس؛ في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون يستذكرون سبعينية نكبتهم. وحتى بعد أن عادت ريغيف من أبو ظبي، كان وزير الاتصالات الإسرائيلي أيوب قرا يزور دبي ويلقي كلمة في مؤتمر دولي للاتصالات السلكية واللاسلكية يوم 29/10/2018.
البحرين مضت على خطى التطبيع، ففي 9/12/2017 حيث زار وفد بحريني من 24 شخصية محسوبة على النظام دولة الاحتلال؛ وأعلن وزير الاتصالات الإسرائيلي أنه التقى في 3/2/2018 مبارك آل خليفة (من العائلة الحاكمة في البحرين) في تل أبيب. وتحدث أيوب قرا نفسه أن السعودية والبحرين والإمارات تدفع بالعلاقات إلى الأمام وبشكل علني، وأن هناك زيارات متكررة من مسؤولين من هذه البلدان.
من جهة أخرى، سجل مراقبون نحو 15 لقاءً تطبيعياً بين مسؤولين سعوديين أو محسوبين على المؤسسة الرسمية السعودية مع الجانب الإسرائيلي خلال السنوات الأربع الماضية، شارك فيها بشكل أساسي تركي الفيصل وأنور عشقي. وتحدثت وسائل إعلامية إسرائيلية عن زيارة شخصيات سعودية كبيرة لتل أبيب وعقد لقاءات معها، كما تحدث محمد بن سلمان عن “حق إسرائيل في الوجود”، وعن المصالح المشتركة مع السعودية…؛ كما سعى إعلاميون سعوديون طوال الأشهر الماضية إلى تهيئة المناخ لعلاقة سياسية رسمية محتملة مع ”إسرائيل”.
وربما فسر ذلك انزعاج نتنياهو وخوفه من تعثر التطبيع، عندما تدخل لدى الأمريكان لصالح محمد بن سلمان (فيما يتعلق بمقتل خاشقجي) حسب جريدة الواشنطن بوست.
وبالطبع، فقد كان في الدوحة مكتب لرعاية المصالح الإسرائيلية منذ 1996، جرى إغلاقه بعد اندلاع انتفاضة الأقصى سنة 2000، غير أن التواصل لم يتوقف ولو على شكل متقطع، وبدرجات متفاوتة.
الركض وراء السراب
لسنا بصدد رصد كل حوادث وأخبار التطبيع، ولكننا نود التوقف عند عدد من النقاط المهمة:
أولاً: نحن أمام موجة تطبيع جديدة سبقتها موجات، كان من أبرزها معاهدة كامب ديفيد وتطبيع العلاقات المصرية الإسرائيلية منذ 1978، واتفاق أوسلو ومتعلقاته مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية منذ سنة 1993، واتفاق وادي عربة مع الأردن منذ 1994، وموجة الانفتاح العربي على دولة الاحتلال الإسرائيلي 1996–2000 التي شملت عدداً من الدول العربية مثل المغرب وموريتانيا وقطر وعُمان وتونس. غير أنه مع تصاعد المقاومة الفلسطينية وتصاعد العدوان الإسرائيلي، وتصاعد التفاعل الشعبي العربي والإسلامي مع قضية فلسطين كانت تنكسر موجات التطبيع، وينكفئ دعاتها إلى ”أوكارهم”. ثم ما يلبثون أن يعودوا بموجة جديدة كلما لاحت حالة استضعاف أو تشرذم فلسطيني وعربي. حدث ذلك في الانتفاضة الأولى (1987)، والانتفاضة الثانية (2000)، وفي الحروب ضد غزة (2007-2008، 2012، 2014)، وفي بيئة ”الربيع العربي” (2011-2013).
والآن وحسب “حملة المقاطعة–فلسطين” فإن ثمة 15 نظاماً عربياً يقيمون علاقة بشكل أو بآخر مع الكيان الإسرائيلي.
ثانياً: إن كافة موجات التطبيع أخذت الشكل الفوقي الرسمي، وفشلت في أخذ الشكل الشعبي وظلت شعوب المنطقة على أصالتها، وعلى تمسكها بالقدس وفلسطين ودعم المقاومة؛ وكلما عبرت هذه الشعوب عن رأيها الحرّ، كلما أعادت الصراع إلى مربعه الأول، وظلّ الكيان الصهيوني كياناً سرطانياً غريباً في المنطقة. ولا أعتقد أن أي نظام عربي يقيم علاقة مع دولة الاحتلال يجرؤ على عمل استفتاء شعبي حر تجاه التطبيع.
ثالثاً: تعكس عملية التطبيع الإشكالية البنيوية في النظام الرسمي العربي؛ فهي لا تعبر فقط عن عجز الأنظمة في التعبير عن تطلعات أمتها وجماهيرها؛ وإنما عن إشكالية ربط مصالحها واستقرارها بقوى خارجية (الولايات المتحدة تحديداً)، وقابليتها للضغط والتعامل بإيجابية بدرجات متفاوتة مع المتطلبات الأميركية والغربية. كما تعكس شعورها بالعجز عن القيام بواجبها الحقيقي تجاه فلسطين وشعبها، أو على الأقل مواجهة التمدد الصهيوني في المنطقة.
رابعاً: تعكس عملية التطبيع إشكالية فقدان البوصلة لدى المنظومة العربية، وإشكالية تحديد الأولويات والمخاطر والاستحقاقات المترتبة عليها. فإثر الموجة المضادة لحالة “الربيع العربي” منذ 2013؛ انشغلت المنطقة بالصراعات الداخلية، وتصاعدت التوترات العرقية والطائفية. وأخذت الأنظمة العربية تبحث عن طريقة لبقاء أنظمتها “الديكتاتورية” أو “الشمولية” أو “الوراثية” بعيداً عن استحقاقات التغيير “الديموقراطي” أو التغيير المُعبِّر عن إرادة الجماهير. وبدلاً من التفاهم مع شعوبها، فضلت التعاون مع القوى الخارجية. وأصبحت بعض الأنظمة تجد في دولة الاحتلال الإسرائيلي ”شريكاً” مرغوباً (أو معبراً للرضا الأميركي) سواء في مواجهة قوى التغيير لديها، أو فيما يسمى بـ”التطرف”، أو في مواجهة إيران.
في هذه الأجواء برز ما يعرف بصفقة القرن، والتي كان من أهم تسريباتها إدماج الكيان الإسرائيلي في المنطقة، وتشكيل محور أمني – سياسي – اقتصادي معه. وظهرت أفكار “النيتو” العربي.
خامساً: وبالتالي، أصبحت قضية فلسطين قضية ثانوية في منظومة حسابات هذه الأنظمة، بل أصبحت عبئاً يجب الضغط باتجاه إنهاء ملفاتها أو تجاوزها. أما الطرف الإسرائيلي فوجد ذلك فرصة تاريخية للالتفاف على الجانب الفلسطيني، وإفقاده الظهير العربي، ولفرض الرؤية الصهيونية في تسوية ”الملف الفلسطيني”. وهو ما يقوم به بالتعاون مع إدارة ترامب ضمن صفقة القرن، والتي ظهرت بوادرها في الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي ونقل السفارة الأميركية إليها. وفي الضغط المتواصل هذه الأيام لإغلاق الأونروا وإنهاء ملف اللاجئين الفلسطينيين.
سادساً: وعلى ذلك، فبدل أن تقوم الدول العربية بمواجهة الإجراءات الأميركية والهجمة الصهيونية، على القدس والمقدسات وعلى الأرض والإنسان؛ قامت بفتح عواصمها أو بتسخين خطوطها مع دولة الاحتلال.
سابعاً: لن تطول الموجة التطبيعية الجديدة، وستنحسر قريباً أو في المدى المنظور، وستجد الأنظمة المُطبِّعة أنها “قفزت في الهواء”. وأن المشروع الصهيوني لم ولن يُغيِّر جلده، وأنه استخدمها في إدارة مصالحه؛ وأن الأنظمة العربية التي ظنت أن حبل نجاتها بيد الإسرائيليين والأمريكان كانت خاطئة؛ إذ إن جوهر المشروع الصهيوني وضمانة استمراره مبني أساساً على بقاء البيئة العربية الإسلامية ضعيفة مفككة متخلفة، لأن الحالة النهضوية الحقيقية في الأمة تعني بالنسبة له خطراً وجودياً، حيث لا عزة ولا كرامة ولا وحدة للأمة، دون استعادة قدسها ومقدساتها وأرضها المباركة.
وأخيراً، فإن قضية فلسطين ستظل تتميز بثلاثية أنها: القضية الموحدة للأمة، وأنها القضية الرافعة لمن يرفعها ويرعاها، وأنها القضية الكاشفة الفاضحة لكل من يخذلها أو يتنازل عنها.
(المصدر: مركز الزيتونة للدراسات / تي آر تي عربي)