التصوُّف الإسلامي بين الزهد والمُلك
بقلم عز الدين مصطفى جلولي
أيا كان الأصل الأول الذي انبثقت منه كلمة “التصوف”، فلا مانع من القول إنه ربما يرجع في أصل التسمية إلى أهل الصّفـّة، الذين كانوا على صفاء روحي عال، جعلهم من الصفوة ومن أهل الصف الأول في صدر الإسلام، ولشدة فقرهم وفاقتهم فقد كانوا يلبسون الصوف. وربما تأثر متأخرو المتصوفة بما وفد إلى الثقافة الإسلامية من الحكمة اليونانية.
إن تعاريف أهل التصوف لفنهم تختلف عن تعريف ابن خلدون العالم المنطقي، الذي التزم في تعريفه التالي القوالب المنطقية، فقال عن التصوف: «هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة (…) وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد في ما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة (…) وأصلها كلها الطاعة والإخلاص» (لمقدمة، ج2 ص584 و585).
مضى التصوف الإسلامي في مرحلته الأولى أصيلا طوال القرون الخمسة الأولى، صافي المعين، لا تشوبه شائبة، ولا يعكر صفوه معكر. وقد كان كذلك مع قافلة المتصوفة الأوائل، أمثال إبراهيم بن أدهم (161هـ)، وعبد الله بن المبارك (181هـ)، وبشر الحافي (227هـ)، والحارث المحاسبي (243هـ)، والسّري السقطي (253هـ)، وأبي يزيد البسطامي (261هـ)… وغيرهم كثير ممن أغنى هذا الفنَّ بعلمه وأدبه.
وبقيت الحال على ذلك حتى القرن السادس الهجري، إذ بدأ التحول العامّ نحو طرائق مختلفة في التعبّد، غدت بعد أربابها طرقا في التصوف حملت أسماء منشئيها، فعُرفت بـ «الطرقية» أكثر من أن تُعرف بالعرفان والزهد والتبتل.
ولا يعني هذا الذي نقول بتاتا أن المرحلة الثانية من تاريخ التصوف الإسلامي كانت خلواً من المتصوفة السائرين على هدي النبوة والصالحين، فابن عطاء الله السكندري (709هـ) وعبد الغني النابلسي (1143هـ) عاشا بعد المئة السادسة.
يعدُّ أبو حامد الغزالي (505هـ) معلما فاصلا بين المرحلتين، أتى هاربا من الفلسفة وشكوكها إلى التصوف ويقينه؛ فبعد أن كتب كتابه «تهافت الفلاسفة» الذي شنّع فيه على الفلاسفة اليونان والمسلمين، كتب كتابه «المنقذ من الضلال»، معلنا فيه أنه وجد ضالته التي طالما نشدَها، ألا وهي اليقين الإيماني الراسخ الذي افتقده في الفلسفة ومناهجها.
التصوف الإسلامي في مرحلته الثانية، مرحلة الإغراق في الشكليات والابتعاد رويدا رويدا عن صفاء الاتصال بالله والفناء في عبوديته سبحانه، انتحى منحى أكثر برودا وجمودا، وانشغل المتصوفة بتأطير أنفسهم وأتباعهم ضمن مجموعات أخذت تميزها الواضح داخل المجتمعات الإسلامية. وغدا المربِّي المتصوفُ شيخَ طريقة لها أدبياتها وطقوسها المستمدة من تعاليم هذا الشيخ الرئيس، كما غدا المتربّي، الذي كان يتتلمذ بحرية واختيار، مريدا، له مع شيخه «رابطة» الطاعة والولاء؛ فبذلك يعتبر المريد منتسِبا للجماعة الصوفية له ما لها وعليه ما عليها. جماعة تنتظم فيها قيادة وقاعدة، قيادة لها شرف الإدارة وحق الطاعة والولاء، بل الاعتقاد بصلاحها وعصمتها، قولا وفعلا. تتولى تسيير مؤسسات تربوية نادرا ما تعنى بغير تحفيظ القرآن الكريم، إضافة إلى توليها عقد حلقات الذكر ومجالس المداواة بالرقي والتمائم. ولما لها من سلطان على نفوس العوام فهي تتولى شأنا اجتماعيا آخر هو إصلاح ذات البين وفكّ الخصومات بين الناس.
سماتٌ عامة تلفيها في معظم بقاع الدنيا أينما رحلت وحللت، وإن لم يكن خافيا على الدارسين ما آلت إليه طباع المتصوفة المتأخرين من جشع وطمع، يذكره المريدون بينهم سرا ولا يكادون يبيحون به علنا إلا لماما. وهي، أي الطرقية المتأخرة، أقلُّ صفاءً مما كانت عليه في أول عهدها. ولا نغمط حق القلة القليلة في العصور المتأخرة، فهي ذات خصال رفيعة وتتمتع بأصالة من نفح العصور المتألقة، كما أن الأكثرية الكاثرة اليوم لا تخلو من جوانب إيجابية يقرها الدين والخلق القويم.
لم يكن التحول الكبير الذي حدث في حياة التصوف الإسلامي بغتة، بل كان العالم الإسلامي في تلك القرون يعيش تحولات كبرى في السياسة والفكر، كان على رأسها سقوط بغداد على أيدي التتار عام 656هـ، ودخول الثقافة الإسلامية عامة مرحلة الكمون والخمول، لا تزال آثارها باقية إلى الآن. وما كان التصوف الإسلامي ليشذّ عن هذه الحالة العامّة التي أصيب بها العالم الإسلامي في صميم حيويته وحراكه؛ فكان نتاج ذلك أن تسربت إلى التصوف الإسلامي شوائب من الوثنية الجاهلية كالمكاء والتصدية، التي عرفها العرب قبل الإسلام في تطوافهم حول الكعبة. كما بالغ بعض محترفي الطرقية في تقديس القبور والأضرحة على طريقة أهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، إلى درجة أن بعض هذه الطرق المنتشرة في غرب الجزائر تطلب من المريد الراغب في الانضمام إلى الركب أن يطوف سبعا بقبر «الوليّ» الذي تتخذه الطريقة إمامها، اختبارا منها لصدقية هذا الراغب.
إنك قلما تجد علاقة علنية وطيدة بين الطرقية والسلطات القائمة في البلدان الإسلامية، وما نجده واضحا هو عزوف أرباب هذه الطرق عن معاقرة السياسة ومزاحمة السياسيين، فانشغالاتهم التفصيلية لا تلتقي مع اهتمامات الإدارات العامة. ولكن عزوفها ذلك يعدّ أكبر خدمة تقدمها الطرقية للساسة، الذين وجدوا فيه مرتعا خصبا للراحة والاستجمام. إننا لا نستطيع أن نفسر هذا الزهد في السياسة ببراءة، لأنك إن لم تكن شريكا في الإدارة العامة بحضورك فأنت شريكٌ فيها بغيابك، لذلك وجد محترفو السياسة في الطرقية شريكا صامتا قاسموه الكعكة بصمت. ولا عجب أن ترى بين هؤلاء وأولائك مودَّة وقربا، بل إن أكثر الساسة في الدول التي تنشط فيها الطرقية منضوون في إحدى هذه الطرق غالبا ما تكون الطريقة الأكثر قوة وانتشارا في البلاد، أملا في الحصول على الدعم والمباركة. هذا ما هو حاصلٌ في السينغال، التي تتقرب فيها السلطة الزمنية من السلطة الروحية قبيل الانتخابات ثم سرعان ما توليها الدبر بعيدها. وقد رضي الطرقية فيها بنصيبهم من ولاء بعض الشعب ما دام ذلك لا يضرُّ بشركائهم الآخرين، ولو كان على حساب الدين الذي لا تؤمن بتطبيقه النخبةُ الحاكمة.
وقع ذلك أيضا في تحالف صريح بين كثير من هذه الطرق وبين المستعمِر الفرنسي أثناء احتلاله شمال إفريقيا، تجلى ذلك في سعي هذه الطرق إلى تخدير شعوب المنطقة كيما تظل خاضعة للهيمنة الأجنبية، بحجة أن الاستعمار الفرنسي قدرٌ مقدور لا مجال لدفعه أو ردّه. ومقابل هذه الدعاية الرخيصة تتلقى هذه الطرق دريهمات قليلة ودعما لوجستيا لتعزيز مكانتها في المجتمع.
واللافت حقا أن نجد اهتماما غير مسبوق بالتراث الصوفي قديمه وحديثه من قبل دوائر أكاديمية واستخباراتية غربية، ولا عجب أن نرى هؤلاء يغدقون على الطلاب والأساتذة الباحثين العطاء كيما يعمِّقوا أبحاثهم في هذه المعرفة التي تسيطر على عقول كثير من العرب والمسلمين؛ لذلك تراهم يحومون في دمشق على الأضرحة والمقامات، ويزورون جامع ابن عربي ويحضرون حلق الطرقية وحضْراتهم. وتفسير ذلك الاهتمام غير صعب على من عرف حاجة الإنسان الغربي إلى الغذاء الروحي، الذي يجده من صدَق منهم الطلبَ في حلق الذكر والدعاء، وبين خلان الصفاء هنا وهناك. ولكن طرفا آخر يروم حاجة في نفسه لعله يقضيها، تمتّ إلى طبائع الاستعمار الأولى، التي تريد أن تشغل الناس عما يعرِّفهم بواقعهم ويوقظهم من تخلفهم الذي إن طلقوه، عادوا سيرتهم الأولى في سيادة العالم والمشاركة في قيادته.
لا يعني هذا التوصيف لمآل المتصوفة بتاتا أن جميع الطرق على هذه الشاكلة، بل إن لبعضها الفضل في صون ثقافة المجتمع الدينية من الهجمة التي رامت سلخ الشعوب من هويتها. وقد كان للبعض الآخر منها فضلُ الذود عن حياض الأمة ضد الغزاة المحتلين، كما كان ديدن السيدة «لالا أنسومر» في الجزائر، والشيخ «بامبا» إبان القرن الماضي في السينغال، الذي دعا إلى مقاومة الفرنسيين من دون غيره من أرباب الطرقية.
تلك هي سيرة التصوف الإسلامي في خطوطه العامة منذ النشأة وحتى المآل. وقد كنت خلال هذه الرحلة كمن ينشد ضالة ولا يلقاها، ضالة الشمولية في مناحي التدين والوسطية فيه، ضالة غابت جزئيا عن التصوف في العهد القديم، ويكاد وجودها يذوى كليا في العصر الحديث.
(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)