مقالاتمقالات مختارة

التصور السياسي للعدل والإحسان المغربية.. الشق التنزيلي

التصور السياسي للعدل والإحسان المغربية.. الشق التنزيلي

بقلم عمر أمكاسو

تعدّ جماعة العدل والإحسان، واحدة من كبريات الحركات الإسلامية في المغرب، وعلى الرغم من أن لها قيادات معروفين ومواقع رسمية على الإنترنت، فإن السلطات المغربية لا تزال تعدّها جماعة محظورة، وهو تصنيف ترفضه الجماعة، وتقول إنها حصلت على ترخيص رسمي في الثمانينيات.

بعيدا عن الإشكال القانوني والسياسي، تفتح “عربي21” ملف المقومات الفكرية والسياسية لجماعة العدل والإحسان، بقلم واحد من قياداتها، وهو الدكتور عمر أمكاسو، وهو بالإضافة لصفته باحثا في التاريخ، فهو مسؤول مكتب الإعلام وعضو مجلس الإرشاد في الجماعة.

تقديم عام:

بعد محاولة بسط أهم محددات التصور السياسي لـ “جماعة العدل والإحسان” ومرتكزاته وضوابطه في الحلقتين 8 و9 من هذه السلسلة، نتطرق في هذه الحلقة العاشرة بحول الله للشق التنزيلي من هذا التصور، متوكلين على المولى الكريم.

خصصت “جماعة العدل والإحسان” لهذا الموضوع مساحة شاسعة من اهتمامها الميداني والبرنامجي، وممارستها العملية، باعتباره مطلبا أساسيا في عصر أصبحت فيه قضية السلطة وتداولها وقسمة الأرزاق وإنتاجها، وتمويل عملية التنمية وتنظيمها، تحديا قويا في وجه الأمة عامة، وفي وجه الحركة الإسلامية خاصة بعدما سارت بها أقدار الحكيم العليم نحو مواقع القرار في خضم الربيع العربي.

ويمكننا اعتبار “اللاءات الثلاث” التي اشتهرت بها الجماعة منذ انطلاقتها، الأرضيةَ العامة لتنزيل مشروعها السياسي، وهي: 1 ـ لا للعنف، 2_لا للسرية، 3ـ لا للتبعية للخارج.

1 ـ لا للعنف:

عدّت الجماعةُ الأسلوبَ السلمي المدخلَ الأساسَ لتنزيل مشروعها، ورفضت العنفَ آلية لممارسة الدعوة، منطلِقة في ذلك من اعتبارات شرعية تأصيلية ومن تجارب التيارات التي تبنت العنف. ويمثل هذا المنهج في أدبيات الجماعة مبدأ أساسيا في أسلوب الدعوة والتغيير، لا مجرد مناورة سياسية أو خطة دفاعية، بحيث استطاعت أن تتحلى بالمرونة والصبر رغم ضراوة العنفِ الممارَس عليها من السلطة الحاكمة.

إن أسلوب اللّاعنف، قد أعطى للجماعة بُعدا سلميا وأكسبها قدرة عالية على التواصل مع الشعب، وجعلها تؤكد لاجدوائيةَ ممارسةِ العنف في انتزاع الحقوق في زمن الفتنة التي يعيشها المسلمون، التي تقتضي مرونة في الدعوة وأسلوبا بعيدا عن العنف اللفظي والفعلي.

وقد أسهم هذا الأسلوبُ التربويُّ السلمي الذي انتهجته الجماعة، إلى حد كبير، في إزالة التشويش الذي تمارسه الآلة الدعائية المخزنية (الحكومية) وبعض الأقلام المأجورة ضدها. فرغم محاولات استدراجها إلى العنف من خلال الاعتقالات والاقتحامات والاختطافات وإلصاق التهم المفبركة لها، لاتزال صامدة وصابرة، تقدم شهادات حية على أسلوب دعوتها السلمية بعيدا عن الفظاظة والخشونة.

2 ـ لا للسرية:

فقد حرصت الجماعة كما أسلفنا في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة على التأسيس القانوني، وتبنت هذا المبدأ تتويجا لتأملات لواقع ومآلات التيارات التي مارست العمل السري سواء في المغرب أم في المشرق، فالسرية التي فرضـتها الأنظمة المستبدة على أصحاب المشاريع الإصلاحية، أجبرتهم على عزل أفكارهم عن الشعب، وألزمتهم الدخول في مسالك اتسمت بالعنف والحدة، الشيء الذي أعطى لهذه الأنظمة فرصة لضرب البنية الداخلية لهذه التنظيمات السرية. لذلك؛ اختارت الجماعة أن تبسط مشروعها بوضوح تام أمام الشعب وأمام السلطة، وتحملت في سبيل هذا المبدأ كل أنواع الإذاية والحصار والقمع.

3 ـ لا للتبعية للخارج:

هذا المنهج يعطي بدوره للجماعة قدرة على الاعتماد ـ بعد الله تعالى ـ على إمكاناتها الذاتية، ويقطع في الوقت نفسه الطريق على أولئك الذين يتصيدون الفرص للتشويش على عملها، حيث إن تهمة الارتباط بالخارج لدى هذا التيار أو ذاك، أصبحت مبررا جاهزا للدولة التسلطية ولأقلامها للطعن في استقلاليته، ومن ثم تشويه أصالته ووطنيته. وأكدت الجماعة ضرورة الرهان على الإمكانات الذاتية المتاحة، وقطع أي ارتباط تنظيمي بالجهات الأجنبية، حتى لا تستثمرها السلطات وتستغلها الجهات المانحة، ورقة ضغط على الجماعة.

تود الدولة التسلطية أن توظف تهمة العمالة للخارج، ذريعة لتصفية وجود الجماعة، وتتفنن في تصيد شواهد هنا أوهناك، لعلها تظفر بما يشم منه أي ارتباط خارجي للجماعة لتستغله ضدها، وتلصق بها تهمة الخيانة الجاهزة. وعلى حد تعبير د.عبد الواحد متوكل رئيس الدائرة السياسية للجماعة في حوار له مع موقع الجماعة (https://www.aljamaa.net/ar/164748/ قضايا-ومواقف-من-حوار-رئيس-الدائرة-السي/)، فلا بد من “صون القرار الوطني من التدخل الأجنبي”.

بيد أن الحرص على الاستقلالية عن كل تبعية للخارج، سواء كان دولة أو تنظيما حركيا أو أممية عالمية، لا يعني عدم انتظام الجماعة في هيئات إسلامية وقومية ودولية لمناصرة القضايا العادلة الإسلامية والإنسانية.

وعموما، وفرت هذه اللاءات الثلاث لجماعة العدل والإحسان بفضل الله تعالى مرتكزا مهما لتجذير خطابها، وسط الشعب وتبليغ دعوتها بخطوات حثيثة، رغم شدة الحصار الممارس عليها.

من جهة ثانية، تميز الجماعة بين الشأن الخاص والشأن العام أو بين الدعوة والدولة، ولا تدعو إلى الفصل التام أو الدمج التام. ومنطلق هذا التمييز عندها هو الاختلاف البَيِّن بين هذين الحقلين لغة وخطابا وأساليب ووسائل. ولذلك، تبنت تجربة تنظيم مختلف عن التقسيم الكلاسيكي بين الدعوي والسياسي، وأسست لها جهازا يتصدى للشأن العام سمته بالدائرة السياسية التي سبق لنا التطرق إليها في حلقة سابقة.
وتحذر الجماعة من انغماس الحركة الإسلامية في المعترك السياسي ونسيان وظيفتها التربوية والدعوية. لذلك؛ لا تفتأ تؤكد أن “السياسة بعض شأننا” و”الدعوة مهنتنا” و”التربية أولا ووسطا وآخرا، وقبل وفي أثناء وبعد”. وتركز على أن التجديد عملية مندمجة لا ينفصل فيها الشأن الفردي عن الشأن الجماعي، باعتبارهما واجهتين متكاملتين، ومشروعين لا ينفصلان: خلاص فردي وجماعي، “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ” (الرعد:11). لذلك فشعار “العدل والإحسان” دَيْدنُ الجماعة في محاضن التربية، وبُشراها للناس في ميدان الدعوة، وعنوانها في شارع السياسة.

ويمكننا رصد الشق التنزيلي من التصور السياسي للجماعة من خلال ما يلي:

أولا ـ الموقف من النظام “المخزني” ومدخل البناء المنشود
ثانيا ـ الموقف من الديمقراطية ومن المشاركة السياسية
ثالثا ـ الموقف من التنظيمات الإسلامية والسياسية
رابعا ـ الموقف من الغرب ومن الحداثة

أولا ـ الموقف من النظام “المخزني” ومدخل البناء المنشود:

تنطلق جماعة العدل والإحسان في بناء هذا الموقف من عدة أصول قرآنية وحديثية، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه سيدنا أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: “لَتُنتَقَضَنَّ عُرى الإسلامِ عُروة عُروة، فكُلَّما انتَقَضَت عُروةٌ تَشَبَّث النَّاسُ بالتي تليها، فأَوَّلُهنَّ نَقضا الحُكمُ، وآخِرُهنَّ الصَّلاةُ.” فقد انتقضت عروة الحكم في وقت مبكر من خلافة راشدة شورية إلى ملك عضوض وراثي، ثم ملك جبري ديكتاتوري، ونبأنا المعصوم صلى الله عليه وسلم عن المراحل التي ستمر بها الأمة بعد هذا النقض في الحديث الصحيح، الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: “كنا جلوسا في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديثَ رسول الله في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوةُ فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”.

لذلك، فإعادة بناء عرى الإسلام لا بد أن يستحضر مركزية عروة الحكم باعتبارها مدخلا مهما للتغيير المنشود، وتلح الجماعة أن يُختار الحاكم ويُحاسب بطريقة شورية، التي هي صفة إيمانية قبل أن تكون آلية لتدبير الحكم كما جاء في سورة الشورى في قوله تعالى: “وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (الشورى 38)، وفي الوقت نفسه، هي آلية لتثبيت سيادة الشعب ومراقبة الحاكم. فـ”نظام الحكم الإسلامي لا ينفصل مبدأ وعملا عن باقي فروض الدين. الحكم الإسلامي عروة الدين ومستمسكه وجامعه ” (عبد السلام ياسين، الشورى والديمقراطية، ص238 ـ 239).

وتعتمد الجماعةُ مفهومَين مركزيين للتعبير عن هذا الموقف، هما “المحجة اللاحبة” و”الخط السياسي الواضح”، ذلك أن “… أول سؤال يطرح على المؤمن المتحري في تصرفاته هو: هل يجوز القيام على حكام الجور؟ قال الله تعالى:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (النساء 59) نقف عند قوله “منكم”. أَمِنَّا دمى الإلحاد في أفغانستان؟ (يقصدُ الحكامَ الشيوعيين الذين تسلطوا على أفغانستان في ذلك الوقت) أَمِنَّا من سفك دماء المؤمنين في مصر ومن يسفكها في كل بلاد المسلمين؟ أَمِنَّا أمثال من عذب المؤمنات الطاهرات القانتات مما لم يعذبه به أحد في تاريـخ البشر؟ أَمِنَّا من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف؟ ويطول التساؤل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد وابن ماجة والطبراني، وهو حديث صحيح، عن ابن مسعود: “سيلي أمورَكم رجالٌ يُطفئون السنةَ ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها”. قلت: “يا رسول الله؛ إن أدركتهم كيف أفعل. قال: “تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله” (ياسين، المنهاج النبوي، ص 23 ـ 24).

فكلمة “منكم” الواردة في الآية أعلاه “تبعيضية، تدل على أن ولي الأمر لا بد أن يكون جزءا بل عضوا من جسم الأمة يألم لما تألم. “منكم” نَبْعِيَّة، فليس منا من لم ينبع من بيننا، نكون نحن اخترناه وبايعناه واشترطنا عليه. “منكم” شورية، فليس منا من يستبد علينا ويتجر في مصيرنا”. (المنهاج النبوي ص 90،91).

لذلك، فمعارضة جماعة العدل والإحسان للنظام الحاكم معارضة عميقة، تستمد جذورها من أصل متين من أصول الدين، معارضة من عصى الله ورسوله وجعل من الكفارِ أولياء له من دون المؤمنين فضيَّع البلادَ والعبادَ، فـ “لن نكون إلا معارضة من المعارضات تنتقد الحكم وتطعن في كفاءته إن لم نتعرض لأصول الحكم الجائر، باعتباره خرقا في الدين وانتحالا تزويريا لقداسة الدين قبل كل شيء” (ياسين، العدل، الإسلاميون والحكم، ص104).

عموما، تدعو جماعة العدل والإحسان إلى إقامة نظام سياسي على قاعدة الإسلام، تشكل الشورى والعدل ركيزتَيْه، والإحسانُ روحَه، والمشاركةُ العامةُ والتعدديةُ السياسيةُ وسلطةُ المؤسسات وسيادةُ القانون الضامنَ لاستمراره وحيويته، والحواُر والاحتكامُ إلى الشعب وسيلةَ ترجيح الخيارات فيه.

ومن الإشكالات الأساسية المطروحة في مداخل التغيير، سؤالُ تدبير المرحلة الانتقالية الفاصلة بين التغيير والبناء، لذلك تُولي لها الجماعة أهمية قصوى، وتقترح تدبيرَها بنَفَس توافُقي، من خلال حكومة انتقالية يكون دورها الأساس وقفَ نزيف الفساد، والإعدادَ لانتخابات نزيهة ومتكافئة وجذابة للمشاركة الشعبية، لتفرز هيئات ذات تمثيلية شعبية وتتمتع باختصاصات حقيقية، وتتوفر على إمكانيات وتشتغل في بيئة ملائمة.

وتتمسك الجماعة بالمدخل الجماعي التوافقي للتغيير، حيث اقترحت ميثاقا جامعا حلّا لبناء دولة جديدة على أسس مخالفة للدولة المخزنية، التي يحتكر فيها المخزنُ السلطةَ والدينَ والثروةَ والإعلامَ والأمنَ وكلَّ وسائل التأثير.

ولإنجاح مقترح “الميثاق”، تؤكد شرط أن يكون أصيلا نابعا من هُوية الأمة، وهي الإسلام، فهو الكلمة ُالسواء الجامعة بين شعب مسلم في أرض إسلامية.

وتقترح صياغة هذا “الميثاق” بتوافق بين مختلف مكونات المجتمع ذات المصلحة في التغيير، عبر حوار وطني مفتوح على كل المواضيع، وعلى كل المكونات بدون إقصاء، وبدون مصادرة لسيادة الشعب الذي يجب أن يكون الحوارُ على مرأى ومسمع منه، على أن يشكل هذا الميثاق إعلانَ مبادئ “فوق دستورية”، يحدد المعالمَ الكبرى والمبادئَ العامة للمجتمع ويحدد الضماناتِ اللازمةَ والعاصمةَ من الانقلاب عليه. وعلى أساسه يُصاغ دستور ديمقراطي شكلا من خلال هيأة تأسيسية سيادية منتخبة، ومنهجية من خلال مقاربة تشاركية، ومضمونا من خلال احترام المعايير المتعارف عليها في الدساتير الديمقراطية التي أمَّنَت انتقال الدول إلى نادي الدول الديمقراطية.

ويلخص د. عبد الواحد متوكل هذا الموقف في حوار له مع موقع الجماعة (https://www.aljamaa.net/ar/164610/مشروع-الإمام-ومسار-العدل-والإحسان-ومو/) بطرح خارطة طريق للنقاش والإغناء، تأخذ في الاعتبار ثلاثَ ضروراتِ مهمة وهي:

ـ ضرورةُ صَوْنِ القرار الوطني من التدخل الأجنبي.
ـ ضرورةُ استيعاب الخلفيات الفكرية كافة داخل البلد.
ـ ضرورةُ العمل المشترك والتلاقي على أرضية مشتركة تركز على الأولويات والمتفق عليه.

وبناء على هذه المحصنات تقترح الجماعة، يضيف د. متوكل “خطواتِ عملية لإحداث التغيير المطلوب وهي:

ـ حوار وطني يفضي إلى ميثاق جامع.
ـ جمعية تأسيسية لوضع دستور ديمقراطي يعبر عن إرادة المغاربة.
ـ انتخابات حرة ونزيهة.
ـ مرحلة انتقالية وحكومة وحدة وطنية، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات لضمان الاستقرار اللازم لحساسية المرحلة.”

ثانيا ـ الموقف من الديمقراطية ومن المشاركة السياسية:

تعتبر جماعةُ العدل والإحسان الآلياتِ التي أرستْها التجاربُ الديمقراطيةُ من تعددية حزبية، واحترام حقوق الإنسان، وانتخابات نزيهة، وتداول على السلطة، وسيادة الشعب، مزايا مهمة للديمقراطية يلزم أن تستفيد منها الشورى، التي لم تُتح لها فرصةُ التطور منذ قرون بحكم تجربتها القصيرة، دون أن يُنظر إليها على أنها الكمال، لأنها قابلة للتطوير والتجويد الدائمين.

ورغم أن الجماعة من أوائل الحركات الإسلامية التي رفضت أسلوبَ العمل السري، على الأقل في المغرب، وفضلت الاشتغالَ في إطار القانون، ورغم دعوة الإمام المبكرة لتأسيس حزب سياسي إسلامي منذ 1980، ورغم أن الجماعة ليس لها موقف معارض للمشاركة السياسية من حيث المبدأ، فإنها لم تشارك في أي انتخابات سياسية بسبب تقويمها لهذه المشاركة، التي تتسم بعدم نزاهتها، ولأن الهيئاتِ التي تنبثق عنها غيرُ ذات تمثيلية، ولا تتمتع بصلاحيات حقيقية، ولا تتوفر على الإمكانيات اللازمة لتدبير الشأن العام، ولأن الحاكم الفعلي يستبد بكل السلط ولا يخضع للاختيار الشعبي ولا للمساءلة، فضلا أن النظام الحاكم يرفض السماح للجماعة بهذه المشاركة، إلا أن تخرج من جلدها وتعترف به، وتنخرط في لعبته بلا شروط وبلا حدود.

فمن حيث المبدأ، تشكل الانتخاباتُ محطة دورية لتقييم عمل الحاكمين وفرصة لاختيار النخب الحاكمة وآلية للتداول على السلطة. لكنها في المغرب تشوبها عدة اختلالات ليس فقط فيما يتعلق بإطارها القانوني والتنظيمي، ولكن أيضا، وأساسا، فيما يتعلق بوظيفتها المتمثلة في تزيين صورة الاستبداد وإطالة عمره. لذلك تعبر الجماعة عن موقفها الرافض لهذه الانتخابات الصورية، وما فتئت تدعو الشعب المغربي والهيئات السياسية والمدنية إلى مقاطعتها، لعدة اعتبارات دستورية وسياسية وقانونية

(انظر تفاصيل هذه الاعتبارات في بيان مقاطعة انتخابات 2011 في هذا الرابط https://www.aljamaa.net/ar/113891/وثيقة-جماعة-العدل-والإحسان-تدعو-إلى-مق/).

وبالمقابل، طورت الجماعة وسائل وأساليب ميدانية وتواصلية، دعوية وسياسية ونقابية واجتماعية وإعلامية، للعمل السياسي خارج المؤسسات الرسمية، جعلتها حركة معارضة مهمة في المغرب من حيث العدد والانتشار والتأثير والقدرة على التعبئة والضغط. وبذلك أسست لخط سياسي بين خطي المهادنة الرخوة والمواجهة العنيفة، هو خط “المغالبة المدنية أو الأهلية ” كما يسميها الإعلامي الفلسطيني المشهور ياسر زعاترة، من أجل بلوغ التغيير الذي تنشده من خلال توظيف كل الوسائل السلمية الممكنة والمتاحة والمشروعة. هذا الخيار يرتكز على نأي الجماعة بنفسها عن أية “مشاركة” سياسية شكلية تسهم في تغطية وجه الاستبداد المخزني.

وهذا الخط السياسي الثالث بعيد عن الرفض والمقاطعة السلبية، بما تعنيه من عزلة وهامشية وجنوح نحو العنف والتشدد، وبعيد عن المشاركة الرخوة التي تجعل من المشاركة الانتخابية هدفا وليس وسيلة، وتميز بين المشاركة السياسية والانتخابية، وخيارها هو المشاركة السياسية الميدانية داخل المجتمع، بما هو ضغط وتأثير في صناعة القرار السياسي، من خارج المؤسسات الرسمية للدولة، وميزتُه الأساس هي الرهان على الميدان، عوض المؤسسات محدودة السقف والتأثير، وعلى الاحتجاج الميداني عوض الانتخابات، وعلى الإعلام البديل عوض الإعلام المدجن والمحتكر من طرف السلطة، الذي هو أقرب للدعاية منه إلى الإعلام.

وقد شكل الحراك المغربي في 2011 مناسبة لاختبار صواب هذا الخط السياسي ومصداقيته، إذ كان هذا الحراك فرصة لقياس أثر الضغط الشعبي، بعيدا عن المؤسسات الرسمية المدجنة، وهو ما قاد إلى إقرار مجموعة من المكاسب لم تستطع إنجازها الحكومات والبرلمانات السابقة، مثل تعديل الدستور وانتخابات مبكرة. وقد كان للجماعة مساهمة معتبرة في ذلك الضغط بفضل خيارها السياسي.

مع ذلك، انتقدت الجماعة ذلك الدستور المعدل، واعتبرته “خارج سياق انتظارات وتوقعات الجماهير التي خرجت إلى الشارع مُطالبةً بإسقاط الفساد والاستبداد، وفصلِ الثروة عن السلطة، وتحريرِ الإعلام، وربطِ السلطة بالمسؤولية والمحاسبة، وفصلِ السلط وتوازنها، وإلغاءِ الاحتكار، ومحاسبةِ المفسدين، ووضعِ حدّ للإفلات من العقاب، ووقفِ التدخل في الحياة السياسية وصناعةِ الخرائط الانتخابية، والمطالبةِ بحياد الإدارة. وبذلك، فهو دستور خارج السياق العام الذي تعيشه البلاد، ولم يخرج هذا المشروع عن صنف الدساتير الممنوحة شكلا، وغيرِ الديمقراطية مضمونا، والمفروضةِ بأساليب الإكراه والمساومة والتضييق على أصحاب الرأي الآخر. ولم يمس بنيةَ الدولة المخزنية، ولا جوهَر المَلَكِية التنفيذية التَحكُّمية، ولا الإدارة البيروقراطية الخادمة للمشروع المخزني.”

(انظر نص البيان الذي أصدرته الجماعة حول هذا الدستور تحت عنوان: “دستور 2011، وفاء وعصرنة لروح الاستبداد” في هذا الرابط  https://www.aljamaa.net/ar/45420/الدائرة-السياسية-للعدل-والإحسان-مشرو/.)

لذلك؛ حذرت الجماعة مبكرا من التفاف المخزن على ثمار هذا الحراك، وأن الكثير من المكاسب بدون ضمانات، وحمَّلت كلَّ من تحالف مع المخزن، في حينه، المسؤوليةَ عما يترتب عن الانخراط في لعبة انتخابية وحكومية بدون ضمانات؛ لأن المخزن غيرُ جاد في تغيير طابعه الاستبدادي والفاسد. وها نحن بعد عقد من الزمن نجني حصيلة هذا الالتفاف.

ثالثا ـ الموقف من التنظيمات الإسلامية والسياسية:

على مستوى التحالفات والعلاقة مع باقي الفرقاء، تحرص الجماعة على تقوية علاقاتها مع باقي المكونات الإسلامية وتعدّها عمقها الاستراتيجي، وتشترك معها في محطات كثيرة وخاصة التضامن مع قضايا الأمة، وما فتئت تدعو إلى تأسيس رابطة إسلامية تنتظم فيه هذه المكونات، رغم تباين مواقفها السياسية.

وفي الوقت نفسه، تمكنت الجماعة من ردم الهوة بين حساسيات سياسية مختلفة فكريا وإيديولوجيا وسياسيا، من خلال حرصها على التمييز بين الاختلاف السياسي، والعقائدي/الديني ووضع كل نوع في سياقه الحقيقي. وهو ما اتضح من خلال عمل أعضاء الجماعة في النقابات المهنية وهيئات المجتمع المدني والتنسيقيات، التي تضم وطنيين وقوميين وليبراليين وإسلاميين ويساريين. ومُنطلق الجماعة في هذا أن نجاحَ التغيير يلزمه أن يكونَ جماعيا؛ لأن ثقل الميراث الاستبدادي يستحيل أن يتصدى له طرف واحد مهما بلغت قوته وحجمه.

وظلت الجماعة بحكم عمقها الإحساني في منأى عن الفكر التكفيري والعمل المتطرف، وعاملَ جمع لشتات عدد من الفضلاء؛ لأن منطلقها دائما أن قوةَ الحكام المستبدين ليست ذاتية، ولكنها تكمن في تشتت المعارضين، ولذلك بادرت كل مؤسساتها إلى الدعوة إلى تأسيس جبهة غايتها جمع الجهود ونظمها في كتلة قوية لتغيير ميزان القوى لصالح المجتمع والتغيير. (من هذه الدعوات نداء الدائرة السياسية المعروف بـ”جميعا من أجل الخلاص” و”حلف الإخاء”، ودعوة القطاع النقابي لجبهة نقابية).

وبخصوص البعد الاقتصادي والتنموي توليه الجماعة أولوية قصوى وتسميه عمرانا أخويا يجمع بين عمارة الأرض والمسجد مندمجين، أي عمارة الأرض بروح مسجدية. ولذلك لا يتصور نجاح تنموي اقتصادي بمنأى عن لازمته السياسية التي هي الديمقراطية، ولازمته الأخلاقية التي تتمثل في احترام قيم المجتمع، ولازمته الاجتماعية التي هي العدالة والكرامة، مع احترام شرط الاستقلالية وتجنب التبعية، وجعل الإنسان محور هذا العمران.

رابعا ـ الموقف من الغرب ومن الحداثة:

عالج الإمام ياسين رحمه الله هذه القضية الشائكة التي شغلت وتشغل الحركةَ الإسلامية، وحاول رصدها ومعالجتها في كتاب ” الإسلام والحداثة” (يمكن تصفح الكتاب وتحميله من هذا الرابط ( https://siraj.net/ar/read?id=15)، وذلك بإعطائها ما تستحقه من تحليل بعيدا عن “الانفعال الفكري” وبتحرر من القيود الموروثة، وحاول تجاوز الحسابات الضيقة لدى الطرفين الإسلامي والغربي؛ فبدأ بنقد الحضارة الغربية نقدا هادئا، وقدم تفسيرا واضحا للعلاقة المتوترة بين الحضارتين، وبحث عن معيقات التواصل، ليستخلص سبل التعاون بينهما وآلياته. وتوصل رحمه الله إلى خلاصة مهمة، ألا وهي أن الحضارتين الغربية والإسلامية متكاملتان، ويحتاج بعضهما للآخر للعيش بسلام في هذا الكوكب الذي يجمعنا: الحضارة الإسلامية بما لديها من شريعة جامعة، وزاد إيماني روحي، سيكون في المستقبل القريب، إن شاء الله، ملاذا وقبلة للإنسان الغربي الذي يعيش العبث في هذه الحياة الدنيا، والحضارة الغربية بما حققته من تقدم حضاري هائل، سيساعد بلا شك الإنسانية على العيش برغد وهناء وتقاسم خيرات الأرض بعدل وسوية.

 

ومن هنا تتبنى الجماعة، شعار “أسلمة الحداثة”، الذي حدد له الإمام رحمه الله في هذا الكتاب غايتين أساسيتين ودعامتين متكاملتين للتواصل مع الغرب وأهله:

الأولى ـ انتشالُ الإنسان الغربي من وحَل الشك والحيرة والعبثية التي يعيشها، التي تنتهي به إلى الشقاء والبؤس في أحسن الأحوال، أو إلى الانتحار في أسوئها، والإحصائيات في هذا المجال ناطقة ومعبرة؛ فالإنسان الغربي يمتلك مفاتيح السعادة الدنيوية، لكنه يعاني الفراغَ الروحي.

الثانية ـ بسطُ أهداف الإسلام ومقاصده الكلية في الاعتناء بالإنسان تكريما وتحريرا وهداية، ذلك أن الإنسانية تعاني اليومَ من مشكلات وويلات لا تنتهي، جرَّاء بُعِدها عن الله سبحانه وتعالى وشريعته، ومن تجلياتها اضطرابُ المجتمع الإنساني أمام ما كسبت يداه، ومنها التعامل مع جائحة كورونا، والأزمة المالية العالمية، وهذا ما يؤكد أن الإسلام قادر على الإسهام في إيجاد حلول ناجعة لمستقبل الإنسانية جمعاء.

على سبيل الختم

لم تدخر الجماعة جهدا في التعريف بهذه المواقف وعرضها للنقاش العام، من خلال المتاح والممكن من منابر إعلامية ذات اهتمامات مختلفة، تعرضت وتتعرض لعدة مضايقات (انظر فيديو حول ذلك https://www.youtube.com/watch?v=yIMnEEx7HG0) مثل:

ـ مجلة “الجماعة”، صدر منها 16 عددا، قبل توقيفها سنة 1985.
ـ جريدة “الصبح” صدر منها عدد واحد سنة 1983 ووئدت في مهدها.
ـ جريدة “الخطاب” صدر منها هي الأخرى عدد واحد في السنة نفسها (1983)، ووئدت في مهدها.
ـ موقع www.aljamaareview.com، وهو أول موقع إلكتروني للجماعة، أطلق منذ 1993.
ـ موقع الإمام عبد السلام ياسين:  www.yassine.net  بنسختيه العربية والإنجليزية، وقد انطلق في نسخته الأولى سنة 1999
ـ جريدة “رسالة الفتوة” لسان شباب العدل والإحسان. تم إيقافها سنة 2000 بعد صدور 45 عددا. (صدر 3 منها بالطباعة الاستنساخية)
ـ جريدة “العدل والإحسان” صدر منها عددان فقط سنة 2000، ووئدت في مهدها.
ـ موقع:  www.aljamaa.net، وهو الموقع الرسمي للجماعة، أطلق سنة 2000، ولم يسلم هو الآخر من الحجب عدة مرات.
ـ موقع:  www.mouminate.net، وهو موقع نساء العدل والإحسان، أطلق سنة 2000،
ـ قناة بصائر www.yassine.tv أطلقت سنة 2013.  وهي متخصصة في عرض المواد السمعية والبصرية للإمام رحمه الله.
ـ موقع موسوعة مؤلفات الإمام، صدرت النسخة الإلكترونية الأولى منها باسم مشكاة على موقع الإمام سنة 2007، ثم خصص لها موقع مستقل هو:  www.siraj.net   في بداية 2013.
ـ قناة الشاهد الإلكترونية: www.chahed.tv ، وهي القناة الرسمية للجماعة، أطلقت سنة 2013

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى