مقالاتمقالات مختارة

التصرف السياسي في الإسلام (1) | بين الثبات والتغير

التصرف السياسي في الإسلام (1) | بين الثبات والتغير

بقلم أ. مرزوق خنشالي

في ظلّ انكماش أهل العلم في من يتصدون للشريعة من أهلها ومن يأتيها من أبوابها عن دراية وعلم بأسسها، وبصيرة وإدراك وتمييز بين متطلبات العصر ومستجداته، حتى يحسن بذلك الجمع بين الأصالة والتجديد وبين الاتباعية والإبداع.
طبع تفكير المسلمين اليوم خلط كبير بين الثابت والمتغير والدائم والمتطور في الدين، وتشوش عليهم بسبب ذلك فهم بعض القواعد الفقهية، من مثل تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وإعمال مبدأ المصلحة ومقاصد الشريعة. فنشأ بينهم:
من تجاوز النص واتبع هواه بغير علم مدعيا التجديد في كل شيء غير آبه بثوابت الأمة، وقابلهم من جمد على كلّ موروث ومنقول، دون نقد ولا تمحيص.
في حين أن كثيرًا من قضايا العصر تحتاج إلى دقةٍ في الفهم وضبطٍ لأحكام الاجتهاد، وسلوك سبيل الوسطية بين تفريط أولئك وإفراط هؤلاء، ذلك أنّ دين الإسلام، وبالتالي التصرف السياسي في الإسلام قائم على نوعين أساسين من الأحكام، يجب أخذهما بعين الاعتبار في الدراسة والتعامل مع تشريعاته، إيجادًا وتجديدًا وتطويرًا:
الأول: أحكام ثابتة
أحكام يجب الإيمان بها ولا يسوغ الاختلاف فيها؛ وهو الجزء القار الذي لا يعتريه تبديل ولا تغيير مهما تبدلت الظروف التي يطبق فيها الحكم الإسلامي، ومهما تغيرت البيئات زمانًا ومكانًا، وهو كل ما نصت عليه الشريعة الإسلامية ـكتابًا وسنةً ـ بشكل قطعي في الثبوت قطعي في الدلالة.. نزل به القرآن الكريم أو تواترت به السنة النبوية الشريفة أو أجمعت عليه الأمة؛ فليس من حق فرد أو جماعة، ولا من حق حاكم أو محكوم، أن يتصرف فيه بإلغاء أو تعطيل أو حتى تغيير شيء منه؛ وهو لا يخضع لبحث الباحثين واجتهاد المجتهدين لأنه يشكل ثوابت الدين وأسسه القارة الثابتة عن الشارع الحكيم بطريق يقيني لا يحتمل الشك، الواضحة في معانيها ليس فيها شيء من الغموض، التي غالبًا ما تكون عبارة عن كليات ومبادئ وقواعد عامة تشكل ملامح النظام الإسلامي المتميز، لها منهجيتها، وصدقيتها ومحورية دورها التنظيري؛ فهي التي تشكل أصول النظرة الكلية للظاهرة السياسية، والقواعد العامة لممارستها، ومقاييس رؤيتها الأساسية… إلخ، ولعل ذلك ما أشار إليه العلامة الشاطبي في قوله: ‘’كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق حسبما بين الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضًا، فذلك الحكم الكلي باق إلى أن يرث الله الأرض وما عليها’’.
وهو جزء لا يشكل من مجموع الأحكام الواردة في الموضوع إلاَّ نسبة ضئيلة بمقياس الأحجام قياسا على التراث السياسي الاجتهادي؛ لكنه من زاوية الأهمية يعد نقطة الثبات المحورية التي تحدد العملية المنهجية المتكاملة.
والثاني: أحكام متغيرة
أحكام اجتهادية نظرية مرتبطة بالمصالح التي تختلف باختلاف ظروفها وأحوالها، أو ترجع إلى الفهم والاستنباط والتحليل، والتفسير والأساليب التي تختلف باختلاف العقول والأفهام، أو ترد بطريق ظني لا يرقى إلى درجة العلم واليقين فهو لا يتجاوز مرتبة الظن والرجحان؛ فهذا الجزء يعترضه التغيير والتطوير والتحوير تأثرًا بالظروف الطارئة والبيئات المختلفة والأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية…. وهذا الجزء الاجتهادي الأكبر حجما، يرد عليه الصواب والخطأ في جوانبه الاجتهادية التي تشهد تعدداً وتنوعاً، يفترض أن يكون محكوماً بالأوامر المنزلة.
وأكثر أحكام الشريعة جاء بصيغة مجملة ليدور الحكم فيها مع المصلحة وجودا وعدما، يقول الأستاذ مصطفى الزرقا: «ولهذا الإجمال في نصوص القرآن مزية هامة بالنسبة إلى أحكام المعاملات المدنية والنظم السياسية والاجتماعية، فإنّه يساعد على فهم تلك النّصوص المجملة، وتطبيقها بصورة مختلفة يحتملها اللفظ، فيكون باتساعه قابلاً لمجاراة المصالح الزمنية، وتنزيل حكمه على مقتضياتها ممّا لا يخرج عن أسس الشريعة ومقاصدها، وذلك كما ورد في القرآن الكريم النّص على الشورى السياسية دون تعيين شكل خاص بها، فكانت شاملة لكل نظام حكومي يجتنب فيه الاستبداد ويتحقق فيه تشاور واحترام صحيح لرأي أولي الأمر والعلم في الأمة، ومن هنا ندرك ما في التشريع الإسلامي من مرونة في التطبيق تجعله صالحا لكل زمان ومكان..»

(المصدر: صحيفة البصائر الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى