التربية أداة الإصلاح والتغيير
بقلم د. مجدي الهلالي
أمة الإسلام تختلف عن بقية الأمم من حيث كونها الأمة المكلفة بتبليغ رسالة الله الأخيرة للناس جميعًا، ومن ثَمَّ الشهادة عليهم ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ [البقرة: 143].
ولا يمكن للأمة أن تقوم بهذه المهمة إلا إذا كانت في عافية وقوة ووحدة، وهذا لا يتم إلا إذا تغيرت من الداخل، وتحرر أبناؤها من قيود العبودية لغير الله، وأصبحت معاني الإسلام هي السمة الغالبة عليهم .
إن أي جهد يُبذل في غير طريق تغيير الأمة من الداخل وعودتها إلى صحتها لن يكون له ثمرة حقيقية في تحسين أحوالها وعودة عزها ومجدها، ألم يقل سبحانه ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
والتغيير المطلوب ليس تغييرًا وقتيًّا أو جزئيًّا، بل ينبغي أن يكون تغييرًا يترك أثرًا إيجابيًّا دائما في المكونات الرئيسية للإنسان .
الأثر الإيجابي الدائم:
من السهل أن يقرأ المرء أو يستمع إلى موعظة فيحدث له تأثرًا وقتيًّا بما سمعه أو قرأه فيقوم بتنفييذ ما دلت عليه، ولكن بعد مدة وجيزة يعود لسابق عهده.. لماذا ؟
لأن التأثر كان لحظيًّا فأثمر سلوكًا وقتيًّا غير دائم ..
فإذا أردنا تغييرًا دائما فلابد من إحداث أثر دائم في ذات الإنسان .
.. إن اكتساب أي مهارة من المهارات لا يتم من خلال ممارستها مرة أو مرتين، بل لابد من تكرار الممارسة والصبر على ذلك حتى يتم اكتسابها، كمن يريد تعلم أحكام تلاوة القرآن فلا يكفي أن يقرأ كتابًا أو يسمع دروسًا نظرية فقط في هذا الأمر، بل لابد مع المعرفة النظرية من التطبيق العملي المتكرر للأحكام التجويدية حتى يتعود المرء على النطق وهكذا حتى يُجيد الترتيل إجادة تامة.
.. نعم، يمكن أن يقرأ كتابًا يتضمن تعريفًا بكل الأحكام في ساعة من الزمن، لكنه لن يمكنه من النطق الصحيح، فلابد من الممارسة العملية إن أراد اكتساب تلك المهارة.. هذه الممارسة قد تأخذ منه بضع شهور وقد تكلفه بذل الجهد والاستمرار في متابعة التطبيق والتمرين.. ولكن ليس هناك طريق غيرها.
ونفس الأمر لو أراد المرء اكتساب مهارة قيادة السيارة، لابد أن يتعرف نظريًّا على أُسسها ثم يقوم بالتطبيق العملي المتدرج والمتواصل حتى يصير – بإذن الله – قادرًا على قيادة السيارة بمفرده ..
من هنا نقول بأن تغيير أي فرد لا يحتاج فقط إلى المعرفة النظرية بما ينبغي تغييره، بل لابد من الممارسة العملية الطويلة والمستمرة لها .
لذلك مهما تكلم الدعاة على المنابر والفضائيات، ومهما كتب الكتَّاب، ومهما وضع المصلحون من توجيهات إصلاحية، وخطط تفصيلية لتغيير الأفراد من الداخل، فإن هذا وحده لن يُحدث التغيير المطلوب، وأقصى ما سيفعله هو التغيير الوقتي غير الدائم .
من هنا ندرك مغزى قول الإمام حسن البنا: « إن الخطب والأقوال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء.. كل ذلك وحده لا يُجدي نفعًا، ولا يُحقق غاية، ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف »
ويستطرد قائلًا: ولكن للدعوات وسائل لابد من الأخذ بها والعمل لها. والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة :
1- الإيمان العميق 2- التكوين الدقيق 3- العمل المتواصل.
من هنا نقول بأنه لابد من ممارسة طويلة للمعاني المراد اكتسابها وإتقانها .
ولو تأملنا في طريقة وكيفية اكتساب مهارة ما، سنجد أنها تتم من خلال الممارسة المتتابعة، وأن هذا الاكتساب يتم بالتدريج، ويتنامى ببطء، وأنه من الضروري أن يكون تحت إشراف شخص ماهر ومتقن لتلك المهارة ..
.. هذه العملية يُطلق عليها: « التربية » باعتبار أن المهارة في البداية تكون منعدمة أو شبه منعدمة عند الفرد الذي يريد اكتسابها، ثم « تربو » وتنمو في داخله ببطء شيئًا فشيئًا – من خلال الممارسة – حتى تصل إلى حد الثبات والرسوخ الذي يمكنه من ممارستها بإتقان في أي وقت ودون معاناة أو تكلف .
فالتربية تقوم بإحداث أثر ثابت في الشيء، يؤدي إلى إحداث تغيير في طبيعته ومكوناته .
معنى ذلك أن: التربية هي أداة التغيير …
فإن أردنا التغيير الحقيقي لأنفسنا والمسلمين فلابد من عمل تربوي عظيم ومتواصل يهدف إلى تحقيق العبودية الحقة لله عز وجل.. ومن ثَمَّ عودة الأمة إلى صحتها وعافيتها .
إن التغيير المنشود للأمة يستلزم تربية أفرادها تربية صحيحة متكاملة، والتربية تحتاج إلى استمرارية ممارسة معاني الإسلام، من خلال وسط تربوي تتم فيه المعايشة والتعاهد وبث الروح وضبط الفهم وتوجيه الجهد واستنهاض الهمم.. هكذا فعل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يبنى الأمة الجديدة.. تأمل قوله تعالى وهو يخاطبه ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..﴾ [الكهف:28].
لقد كان محمد e يقوم على تربية أصحابه وتعاهدهم ودوام توجيههم بما يتنزل عليه من القرآن الكريم، وما يأتيه به جبريل – عليه السلام – من الوحي الإلهي، وذلك في المرحلتين المكية والمدنية.
(المصدر: موقع “الإيمان أولاً”)