التدين في الزمن الصعب
بقلم عبد الرحمن عبدالله الجميعان
ماذا يريد الله تعالى من البشر؟ وما هي الطريقة التي ينفذون بها مراده سبحانه؟ لربما تكون هذه أسئلة ذات دلالات مهمة في حياتنا المعاصرة، بل في حياة البشر، خاصة إذا علمنا أن التدين فطرة فطر عليها الخلق، ((فطرة الله التي فطر النا س عليها)) يقول الله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، فتلك الغاية من الخلق، عبادة الله وحده سبحانه لا شريك له، ف (العبادة) المطلوب الأول من البشر في كل الأزمنة والأمكنة.
وتبقى الطريقة التي نتعبد الله بها سبحانه، وما من شك أنها الطريقة التي جاء بها الأنبياء عليهم السلام، حيث جاءوا للناس كافة، ضعيفهم وقويهم، جاهلهم وعالمهم، حاكمهم ومحكومهم، لذا كان من الضروري أن الدين، والانفعال به هو التدين، يأتي ليناسب هذه الأصناف جميعا، فلا يمكن أن يكون رحمة، وللناس كافة، فيأتي لفئة دون أخرى، فذلك يناقض المبدأ المشروع للرحمة والعبادة، والله تعالى قد أبان ما أراد فقال: (واتقوا الله ما استطعتم)، قال الطبري (احذروا الله أيها المؤمنون وخافوا عقابه، وتجنبوا عذابه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، والعمل بما يقرّب إليه ما أطقتم وبلَغه وسعكم.)، أي يحاول المرء جاهدا أن يتقي الله ويخشاه ويطيعه.
وليس معنى ذلك، أن تكون حياة المرء كلها عبادة وتنسكا، فذلك لا يطيقه أحد، فقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن هذا السلوك الرهباني، حيث قال ص (ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فَأْتُوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافُهم على أنبيائهم))، (متفق عليه)، واستنبط الإمام النووي من شرحه لهذا الحديث أنه (من قواعد الإسلام المهمة ، ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ، ويدخل فيه ما لا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها ، فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي ، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن ، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعل الممكن ، وإذا وجبت إزالة منكرات أو فطرة جماعة ممن تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك ، وأمكنه البعض فعل الممكن ، وإذا وجد ما يستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن ؛ وأشباه هذا غير منحصرة ، وهي مشهورة في كتب الفقه ، والمقصود التنبيه على أصل ذلك ، وهذا الحديث موافق لقول الله تعالى : (فاتقوا الله ما استطعتم )، وأما قوله تعالى : (اتقوا الله حق تقاته)، فقوله تعالى : (فاتقوا الله ما استطعتم)، قالوا : وحق تقاته هو امتثال أمره واجتناب نهيه ، ولم يأمر سبحانه وتعالى إلا بالمستطاع)، شرح صحيح مسلم- كتاب الحج -باب فرض الحج مرة في العمر٩/١٠٢.
إن مجموع الآيات والأحاديث تدل على الأمر بأن يعود المسلم نفسه على إتيان عمل الخير وسع الطاقة والجهد، لا فوق الطاقة ولا زيادة الجهد فوق القدرة، ولا يترك الخير، أيا كان، بحجة أنه عاص، أو أنه يرتكب المعاصي والكبائر، فهذا مدخل الشيطان الكبير على بني آدم، وما أراه هو ما ضبطه الإمام ابن تيمية بوضعه القاعدة الكلية في هذا الباب: م الفتاوي ٢٠/٨٥ (في أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه وأن جنس ترك المأمور به أعظم من جنس فعل المنهي عنه وأن مثوبة بني آدم على أداء الواجبات أعظم من مثوبتهم على ترك المحرمات وأن عقوبتهم على ترك الواجبات أعظم من عقوبتهم على فعل المحرمات.)، والمقصود أن يكثر المسلم من الطاعات حتى وإن أخطأ أو ارتكب الكبائر، وأن يحاول جاهدا ترك المنهي عنه، بل حتى لو لم يترك المعاصي، لا تترك نفسه تسول له ترك الطاعات.
ومعلوم حديث الثلاثة الذين جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم ورأوا عبادته صلى الله عليه وسلم قليلة بالنسبة لما عهدوه من أنفسهم، وحسبوا أن الزهد، وترك الدنيا، تجليات الخشية والتقوى، وهي وإن كانت كذلك لا شك، ولكن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم، يدل عليها أشد دلالة، ولهذا بين لهم النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه الأشد خشىية والأتقى بل والأعلم بما يصلح للنفوس وما يفسدها، فأرشدهم إلى وجه التدين الصحيح، وهو سلوكه صلوات الله وسلامه عليه، (وهو دليلٌ على أنَّ المشروع هو الاقتصاد في العبادات دون الانْهِماك والإضرار بالنَّفس، وهجر المألوفات كلِّها، وأنَّ هذه الْمِلَّة المُحمَّدية مَبْنيَّة شريعتُها على الاقتصاد والتسهيل والتيسير وعدم التعسير؛ ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ -البقرة: ١٨٥-وأراد – صلَّى الله عليه وسلَّم – بقوله: ((فمن رغب عن سنتي))؛ عن طريقتي )) (سبُل السَّلام للصَّنعاني (4/ 427).
وهنا أمور لا بد من ذكرها ليتبين المقصود:
١- الناس متفاوتون في تدينهم وذلك يظهر من سلوكهم، حتى جيل الصحابة ومن بعدهم، فلم يكونوا على درجة واحدة، بل هم متفاضلون متباينون، ولكنهم كلهم يشكلون صورة من صور عبادة الله تعالى.
٢- هناك تدين للخاصة، وهم العلماء الربانيون، ومن في مستواهم من زهاد وعباد وعارفون، كمن يصلي كذا ركعة في يوم أو ليلة، أو يصوم الدهر، أو يقرأ من القرآن ما يفوق الوصف، وغير ذلك من أمور ذكر بعضها السلف على وجه الإطلاق، ثم يأتي صنف من بعدهم أقل منهم عبادة وزهدا، ولكنهم قد يكونون أكثر خشية وتقوى، وهكذا أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا..) فاطر ٣٢، قال السعدي رحمه الله تفسيرا للآية: ولهذا، لما كانت هذه الأمة أكمل الأمم عقولا وأحسنهم أفكارا، وأرقهم قلوبا، وأزكاهم أنفسا، اصطفاهم الله تعالى، واصطفى لهم دين الإسلام، وأورثهم الكتاب المهيمن على سائر الكتب، ولهذا قال: -ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا -وهم هذه الأمة،- َمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ- بالمعاصي، التي هي دون الكفر. -وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ- مقتصر على ما يجب عليه، تارك للمحرم. -وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ- أي: سارع فيها واجتهد، فسبق غيره، وهو المؤدي للفرائض، المكثر من النوافل، التارك للمحرم والمكروه.
فكلهم اصطفاه اللّه تعالى، لوراثة هذا الكتاب، وإن تفاوتت مراتبهم، وتميزت أحوالهم، فلكل منهم قسط من وراثته، حتى الظالم لنفسه، فإن ما معه من أصل الإيمان، وعلوم الإيمان، وأعمال الإيمان، من وراثة الكتاب، لأن المراد بوراثة الكتاب، وراثة علمه وعمله، ودراسة ألفاظه، واستخراج معانيه.
٣- كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بمختلف مشاربهم، وإن بدت عند بعضهم بدع أو آثام أو موبقات، كبرت أو صغرت، هم في الجنة، مالم يدخلوا في الشرك عامدين، وذلك كله من رحمة الله تعالى لهذه الأمة، هذا كله يجرنا إلى القضية الأساسية في هذا المقال، وهي التدين في هذا الزمن الصعب الذي قال عنه النبي القابض على دينه كالقابض على الجمر، ومن يستطيع مسك الجمر؟
التدين سلوك وانفعال من الفهم للنصوص، ولهذا لا يزال في الناس متشدد ووسط ومتساهل، حتى في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فمثلا في مسألة الفتوى كان يوصف ابن عمر رضي الله عنهما بالتشدد، بينما يوصف ابن عباس بالتساهل ولكنه تشدد منضبط وتساهل منضبط، فليست المسألة بدون قواعد ولا أصول، فابن عباس في تساهله كأنه يريد من الناس الالتزام بالدين، وعدم التفلت منه ولهذا ييسر لهم الأمور حتى لا ينفروا، وهذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكرنا آنفا، وفتاواه صلى الله عليه وسلم كانت من هذا القبيل، كما في الحج (افعل ولا حرج)، وكما في تعنيفه لمعاذ في إطالة الصلاة، (أفتان أنت يا معاذ)، وكان يخفف في صلاته صلى الله عليه وسلم، ولكنه لنفسه كان يطيل فيقرأ البقرة وآل عمران والطوال، فهنا موازنة مهمة جدا، وهي ما يريده المرء لنفسه أو يوجبه عليها، فذلك أمر له مادام لا يبتدع ولا يترك الدنيا، أما للناس فالتساهل وإيجاد أفضل الأمور وأيسرها على الناس، قال العز بن عبدالسلام رحمه الله القواعد الكبرى ١/٣٧٠
في الشرع رخص وتسهيلات، وعزائم وتشديدات، فإذا تعارض دليلان يقتضي أحدهما الترخيص، والآخر التعسير والتشديد، فقد اختلف أصحاب الشافعي فيه…) ثم اختار الشيخ التيسير والترخيص لأنه أرفق وأهون، اعتمادا على آية التيسير (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وانظر الآداب الشرعية لا بن مفلح ٢/٩٨.
(المصدر: مدونات الجزيرة)