مقالات

التدرج في الدعوة الإسلامية وأقسامه

بقلم د. هند بنت مصطفى شريفي

جاء النبي صلى الله عليه وسلم والعرب قد استحكمت فيهم عادات منها ما هو صالح للبقاء لا ضرر منه على تكوين الأمة، ومنها ما هو ضارٌّ يريد الشارع إبعادهم عنه، فاقتضت حكمته أن يتدرج معهم شيئًا فشيئًا، لبيان حكمه، وإكمال دينه)[1]، لأن من أصعب الأمور على نفوس المدعوين: مفارقة ما كانوا عليه من عادات واعتقادات وأفكار، بسرعة وفي مدة قصيرة، فينتقلون نقلة واحدة من واقعهم الذي ألفوه لمدة طويلة، إلى واقع جديد بشكل كامل.

 فمن تيسير الإسلام على الناس أنه راعى سنة التدرج فيما يرفعه عنهم من الباطل رفعا تدريجياً، لتحل محله بالتدريج أيضا صورة الحق في السلوك، مراعاة لما ركب في واقع الطبيعة الفردية والاجتماعية من سنة التشبث بالموروث، ومشقة الانقلاب الفوري من طور في السلوك إلى طور آخر مناقض له.

وما ورد في التشريع الإسلامي من تنجيم في النزول ومن تدرج في بناء الأحكام، يعتبر إرشاداً إلهياً في كيفية تحويل أهل الجاهلية، إلى واقع الحقيقة الإسلامية، ليكون مبدأً عاماً في منهجية الصراع مع الواقع الباطل[2].

 والتدرج ذو شقين: شق يتعلق بالكم، وشق يتعلق بالكيف:

فالأول: يعني أن يعطي الداعيةُ المدعوَّ من العلم المقدارَ الملائمَ له، ولا يكثر عليه ويحمله ما لا يطيق، فينوء به ويضيعه كله.

 والثاني: ما يتعلق بالكيف والنوع، بمعنى أن يبدأ مع المدعو بالجليّ من العلم قبل الخفي، وبالبسيط قبل المركب[3].

 فإذا أراد الداعية أن يقيم مجتمعاً إسلامياً يلتزم أفراده بشريعة الله، فلا يتوهم أن ذلك يتحقق له دفعة واحدة، بل لا بد أولاً من التهيئة النفسية والفكرية للمدعوين، وذلك بتقديم الأهم من الأمور على المهم منها، والتدرج من المألوف الذي اعتادوا إلى الجديد الذي يهدف إلى إيصالهم إليه، ومن كليات الأمور إلى الجزئيات منها، ولا يباشرهم بالإصلاح دفعة واحدة، فإن ذلك يعتبر مصادمة لهم، وتنفيرا عن قبول أوامر الدين ونواهيه[4].

 وعرب الجاهلية – في مجملهم – أصحاب فطرة سليمة، وأخلاق كريمة كالمروءة، والنجدة والجود وصلة الرحم ونصرة المظلوم وإكرام الضيف والشجاعة والغيرة على المحارم.. الخ، وقد كان فيهم بعض بقايا الحنيفية السمحة- وإن حرفت -.

 والإسلام لم يأت لينقض واقع الناس بشكل كامل، يل يتمم ما فيه من المحاسن، ويمحو ما فيه من المساوئ، كما قال صلى الله عليه وسلم:(( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))[5]، وليضع للناس شرعا ومنهاجا إلهيا يسيرون عليه، ويبقى إلى يوم القيامة.

 ومما يدل على ذلك جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه حين سأله فقال:( يا رسول الله، أرأيت أمورا كنت أتحنث[6] -أو أتحنت- بها في الجاهلية من صلة وعتاقة وصدقة، هل لي فيها من أجر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((أسلمت على ما سلف لك من خير))[7].

 وكذلك قوله للسائب رضي الله عنه:((يا سائب، قد كنت تعمل أعمالاً في الجاهلية لا تتقبل منك[8]، وهي اليوم تتقبل منك)) وكان ذا سلف وصلة[9].

 ———————————-

[1] تاريخ التشريع الإسلامي ص 18.

[2] بتصرف، مقال بعنوان: دور الفكر الواقعي في النهضة الإسلامية: د. عبد المجيد نجار ص 202-203، بحث من ضمن فعاليات اللقاء الخامس لمنظمة الندوة العالمية عام 1402هـ.

[3] بتصرف، الرسول والعلم: د. يوسف القرضاوي ص 133.

[4] بتصرف، الدعوة قواعد وأصول ص 179، وانظر خصائص الإسلام ص 170. وانظر أمثلة سابقة ص 338.

[5] سبق تخريجه ص 294.

[6] يقال: فلان يتحنث: أي يفعل فعلا يخرج به من الإثم والحرج، وقوله: أتحنث بها: أي أتقرب بها إلى الله. النهاية في غريب الحديث 1 /449.

[7] صحيح البخاري كتاب البيوع باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه 3 /39.

[8] أذكر للفائدة قول الشيخ بن عثيمين: (إن الله تعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم لقوم يتعبدون، لكنها عبادة باطلة، ما أنزل الله بها من سلطان، ويتصدقون ويفعلون كثيراً من أمور الخير، لكنها لا تنفعهم، لأنهم كفار، ومن شرط التقرب إلى الله، أن يكون المتقرب إلى الله مسلماً، وهؤلاء غير مسلمين) شرح كشف الشبهات ص 27- 28 وانظر ص 29.

[9] المصنف: ابن أبي شيبة 14 /505 ح 18794، وسبق تخريجه ص 358.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى