“التدحرج الفكري” عندما ينقلب بعض الإسلاميين على أنفسهم!
بقلم علي إبراهيم
“دائمًا أردد (اهدنا الصراط المستقيم) ولذلك لماذا لا أتغير؟ التغيّر هو التعلم الذي يساعد على مواكبة الجديد، على الانتقال من التبعية والتقليد إلى الاستقلال والاجتهاد والاستجابة للفطرة حيث الكون كله يتغير”…
“من الشجاعة أن يفتح الفقيه الأبواب القابلة للفتح بدلًا من أن ينتظر أن يكسرها الآخرون، نعم أتغير، لأنني لو قلت في الأربعين ما كنت أردده في العشرين فهذا يعني ضياع عشرين سنة من عمري سدى”.
هذه الكلمات ما زالت عالقة في ذهني أرددها كلفًا بها، من برنامج “وَسْم” للشيخ الجليل د. سلمان العودة، الذي قدم فيه نموذجًا لخطابٍ إسلامي جادٍ ورصين، تنوعت موضوعاته بتنوع آثار صاحب هذه الكلمات واهتماماته… فالتغير ليس واجبًا فقط، بل هو سيرورة دائمة للجماعات والأفراد.
ومن بوابة التغيير، تتصاخب في مخيلتي أسئلة كثيرة، تطوف حول مفاهيم التغيير وضرورياته وآفاقه، ومنها: كم هو مقدار التغيير الذي يجب علينا أن نتغير فيه وعبره، في رحلة العمر الممتدة؟، وما هي القضايا التي يجب أن نتغير فيها؟، أو تتغير نظرتنا وانطباعاتنا عنها؟، وهل التغير نزعٌ داخليّ أم نتيجة حتمية للتطور والمواكبة والاستزادة معرفيًا وثقافيًا؟، وما هي المواقف من كل ما يحيط بنا من قضايا، التي ترفع شعاراتها وتسوق على أنها تغيرات حتميّة، يجب علينا وعلى مجتمعاتنا المرور بها طواعية أو كرهًا؟… وغير ذلك الكثير من الأسئلة التي تنطلق من هذه اللازمة، سطر فيها أولوا الفهم أطروحات بالغة الأهمية، ويستخدمها غيرهم ليزيغوا بها القلوب، ويفتنوا بها العقول.
وما هذه الأسئلة التي تدور بخلدي، وما حديثي عن الشيخ العودة فرج الله عنه، ولا عن التغيير بما فيه من مقتضيات وشجون، إلا لأقدم صورة من التغيير الواعي، القادر على حمل صاحبه إلى مدارج أخرى من الفكر والسمو النفسي والسلوكي، وينعكس ذلك على مجتمعه وبيئته، ولست هنا للحديث عن هذا الجانب، إذ سآخذ القارئ العزيز إلى جانب آخر مناقضٍ تمامًا، ولكنه متصل بالتغيير، أشرت إليه عرضًا في هذه الأسئلة السابقة، وهو حالة مشاهدة ومتكررة من نكران الذات وجَلدها، ومحاولات فئات بعينها الانسلاخ عن ثوبها الأصيل الرزين، ومعاداة كل إرث قد وصل إليها، بدعوات التغيير والحرية الشخصية وغير ذلك مما تضج به جنبات وسائل التواصل.
وأود هنا أن أسلط الضوء على تشخيص بسيط لآلية تفاعلنا، إذ إن أيَّ تفاعل مع القضايا التي تجري من حولنا، يتصل ضرورة بما لدينا من تصورات مسبقة عنه، واطلاعنا عليه في طبقات متراكمة من المعرفة، تتوزع نفسيًا ومعرفيًا وشرعيًا، ويمكن أن تكون معرفة مباشرة من خلال الاتصال والتماسْ… فتقبلنا لفعل ما ورفضنا لفعلٍ آخر، ليس إلا مواقف ذاتيةٌ بنيت على الثقافة والتربية، وغير ذلك مما تتأثر به النفس البشرية، وتبني أنساقًا مختلفة من التفاعل معها وحولها.
ومع السيولة الكبيرة التي نعاني منها، وتحول التفاعل مع القضايا من خانة التفكير النظري والمواقف الباردة، كما كان يحدث في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، حيث كان الإسلاميون يتفاعلون معها من خلال المناظرة والتأطير الفكري والمواجهة بالفكر والقلم وغيرها..
تحولت مع هذه الألفية المترعة بالمتغيرات إلى أنماط أخرى من التفاعل، ففي هذه السنوات تضخمت القضايا، وتشابكت بشكلٍ كبيرٍ جدًا، وظهرت نماذج جديدة من القضايا الإشكالية، ليست جديدة من حيث الظهور، بل من حيث التفاعلُ وأدواتُه وآلياته، وهي قضايا من الشأن العام والسياسة وصولًا للأوبئة الفكرية والإنسانية والانتكاسات الفطرية المتكررة.
هذه المقدمة الثقيلة، هي بوابتي لألج منها إلى واحد من أكثر الأمراض شناعة، ومن أخطرها أثرًا، وهو مرض لا يفتك جسد فرد بعينه، بل يدب بين جماعات وأطر مترامية الانتشار، وقد اقتبست عنوان المقال من أخٍ فاضل، واصفًا حال هؤلاء بأنهم يتدحرجون فكريًا من حالٍ إلى حال، فالشكر الجزيل له…
ولست بصدد الحديث عن كل تفاعل يصدر عنهم تجاه المتغيرات الكبرى، بل أقصد فقط فئة محددة من الإسلاميين، الذين يحاولون تسويق أنفسهم أنهم حالةٌ مرنة من التفاعل، وحالة سائلة من التقبل، نكران يتأتى من بوابة المتغيرات، وأهمية المواكبة، و”كليشيهات” منسوخة من آراء وطروحات لا تمتد بصلة إلى سياق العمل الدعوي، والطروحات الفكرية التي قامت على مبدأ إيصال الهداية، والعمل الجماعي وغيرها الكثير من أطروحات منظري الحركة الإسلامية.
التدحرج الفكري
إن النكوص الحاصل اليوم في جزءٍ كبيرٍ من الحالة الإسلامية، ليس تخليًا عن الإرث الإسلامي/الحركي فقط، بل هو انقلابٌ ناعم يقوده هؤلاء، وهو تدحرج يحاول أن يصور هذه الفئة على أنها الأكثر اندماجًا في المجتمع، وأن لديهم ديناميّة ليست عند غيرهم، تحاول البروز في الخانة الرمادية من أيّ حدث!
وفي احتكاك كبير مع العديد من هؤلاء، أسجل هذه الملاحظات التي تبرز في أطروحاتهم الفكرية، وهي:
– التضعضع بين الطرح الفكري السياسي والعمل السياسي، ففي الأول يمثلون آمالًا كبيرة، ويطرحون أنفسهم بديلًا نظيف الكف لم يخض في تجارب الفساد أو السرقة وغيرها، ولكنهم في الثانية يقعون في ممارسات وتحالفات تهدم الأولى هدمًا تامًا، وكأن الممارسة السياسية، وحالة الإقصاء لكل من يحمل الفكر السياسي الحركي، ستكون مبررًا لمثل هذه الأخطاء الكارثية، وهو ما يتكرر في أكثر من صعيد وموقع، ومن أمثلته الانخراط في “المعترك السياسي” ضمن منظومة سياسية فاسدة، أو نظام يعادي الشريعة، ومنه عقد تحالفات مع جهات لا تتوانى عن طعن المسلمين وهدم أصول الشريعة، أو من يغرق في الفساد، ضمن سياقات الضرورة والمرونة وفصل السياسة عن الدعوة وغيرها.
– الانشغال عن العمل الدعوي الميداني، وهي سمة لكل متدحرج عاينته وتابعت أطروحاته، وكأن من مقتضيات الظهور المنفتح، الانسلاخ الكامل عن المشهد الدعوي، بكل ما يحتويه من أدبيات وتعلُّم وتهذيب نفس، وإن كان حضورًا لهذه المجالس، أو إعطاءً لها، وهو ما يولّد فراغًا كبيرًا بين الحركات التي يعمل فيها المتدحرجون، وبين طرحهم الخالي من أيّ “دَسَمٍ” دعويّ أو شرعي، أو أيّ زادٍ في هذه المجالات.
– أما أخطر هذه الملاحظات، فهي تلك التي تتعلق بالقضايا الإشكالية، التي تتطلب حذرًا، بل ومعالجة سريعة، ومكمن الخطورة في تفاعلهم مع هذه القضايا، هو التماهي مع الأطروحات العلمانية، أو ما أصبح يُعرف على وسائل التواصل بالمسلم “الكيوت”، وأجد أن هذا التماهي مع أطروحات هؤلاء أو العلمانيين ليست إلا محاولة إرضاء هذه الشرائح –مجددًا-، وتقديم آراء تتستر بالعناوين الفضفاضة الممسوخة، فالشذوذ حرية شخصية، والملحد المتوفى أمره إلى خالقه -ونحن لسنا حراسًا على أبواب جهنم-، وغير ذلك، مما لا يستوجب منه الرأي ابتداءً، ناهيك عن هذه الآراء التي تنسف أبجديات العمل الإسلامي بل ربما الإسلام، الذي يحتكم أولًا وأخيرًا إلى ميزانَيْ القرآن الكريم والسنة النبوية، اللذين استخرج جواهرهما علماءٌ أفذاذٌ ودعاةٌ كبار.
وقد لفتني أحد الفضلاء، إلى أن هذه الحالة تخفي خوفًا من إعلان ثوابت الشريعة، وانسحابًا متزايدًا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو خوف من ردة فعل من يطلبون رضاه وقبوله، أو خوف من أصل هذه الأحكام، وهو أمر لا نقطع به، ولكنني هنا أسجل علامة استفهام كبيرة.
– هذا الخطاب الجالب للدعم و”الإعجاب” على وسائل التواصل، يتطلب بالضرورة التهجم على الإسلاميين، في كل مناسبة ممكنة، وإن كان المتهجم ربيبًا لهم، وناشئًا فيهم، بل قابعًا بين ديارهم، وهنا لست ممن يقول بتجريم النقد، بل ما أتابعه هو نقض لأيّ تصرف وموقف، مع نشر عناوين عامة من دون تقديم أو محاولة تقديم أي تصورٍ كامل منصف، هذه العناوين من قبيل: سيظل الإسلاميون كذا، وليس أغرب من عقل الإسلامي… بل يتعدى هذا الخطاب للتندر على العلماء وأهل الفضل، بمثل هذه التعميمات.
وتظهر ها هنا نقطة أخرى أساسية، أن اللبوس الثقافي المنفتح لا يتطلب مثل هذه التنازلات الكبيرة، أو هذه المواقف الفضفاضة، إذ أعرف فضلاء يقرأون لهيجل وروسّو وديكارت، وتتنوع قراءاتهم حول علوم الاجتماع والسياسة والمذاهب والفرق والاقتصاد، بل بعضهم متخصص في فروع دقيقة من العلوم الرياضية أو الإنسانية، ولا تصدر منهم مثل هذه الهنات العجيبة، والمواقف المتناقضة، وكأني بهم – أي المتدحرجين- يقدمون ذواتهم قرابين في معابد الآخر، يذبحون ما بقي فيهم من تربية لكي يكونوا مندمجين في تلك المجتمعات الأخرى، ومن ثم لا هم جلبوهم إلى الإسلام، بل أضاعوا ما بقي من الإسلام فيهم.
وأختم هذه الأفكار والملاحظات، بأن العامل للإسلام، حركيًا كان أو منفردًا، متقوقعًا أو مندمجًا في مجتمعه وبيئته، ولو كان إنسانًا بسيطًا يتكفف خبز يومه، كل واحدٍ منهم على ثغر من ثغور هذه الحياة التي تتعارك فيها الأفكار والتحزبات، ولست هنا إنْ أضأتُ على جانبٍ من التغيّر السلبي لدى فئة صغيرة من الإسلاميين، أعفي الفئات الأخرى من مسحة قمعية، أو تقوقع، أو مشاكل أخرى، ولكني أيضًا، أقدّر لهم بما لديهم من إمكاناتٍ وقدرات، أن حافظوا على حالة التدين في الكثير من المجتمعات والبيئات، فقد كادت أن تندثر لولا جهود الغيارى منهم.
اللهم اعصمنا عن الزلل، وارزقنا العمل، وأبعدنا عن السفسطة والجدل.
(المصدر: موقع بصائر)