التخادم بين العلمانيين وأصحاب التدين المغشوش!
بقلم أ. د. فؤاد البنا
رغم التباعد الفكري بين العلمانيين، بمختلف تياراتهم اليسارية والقومية والليبرالية، وبين بعض المحسوبين على التيار السلفي والتيار الصوفي، فإن التقارب المصلحي بين الطرفين يتضح بصورة متزايدة في كافة الفتن التي تتعرض لها شعوب المنطقة، وفي المقدمة منها الابتلاءات التي تتعرض لها الحركات الإسلامية، والتي تدفع ضريبة وسطيتها الفكرية من قبل متطرفي الحجود والجمود، سواء في محطات التحضير للمؤامرات عليها أو في تبرير ما يقع عليها من ظلم.
وأحدث مثال لهذا الأمر هو ما حدث ويحدث لحركة النهضة الإسلامية في تونس، فقد حاولت أن تمارس دورا إصلاحيا داخل المجتمع الذي تنتمي إليه بحكمة أشاد بها العقلاء، ومارست دورا سياسيا بأقصى درجات الحذر والمرونة، وقدمت الكثير من التنازلات في حقوقها بالمقياس الشرعي والديمقراطي، وقدمت الحرية على الشريعة، وآثرت الحكمة على الحق، وكل ذلك من أجل إرساء الحريات و إنجاح التجربة الديمقراطية.
ورغم ذلك كله فإن طرفي الجحود والجمود قد دفعتهما الكراهية، المنبعثة عن الاختلافات الفكرية وضيق الأفق، وعن التحريض الخارجي المقترن بالتمويل المالي الضخم، دفعتهما لشيطنة حركة النهضة والتحريض السافر على ضرب قياداتها واستئصال مشروعيتها القانونية وتجفيف منابعها الفكرية والمالية.
ويحكي واقع الحال بأن التوافق بين طرفي الجحود والجمود، قد وصل إلى حد التخادم بينهما، سواء في مرحلة التحريض أو في مرحلة التبرير للانقلاب الذي قام به الرئيس قيس سعيد، حتى اعتبره الطرفان انقلابا مشروعا ومفرحا لهما، حيث تجندت مجاميع ضخمة من أفرادهما لتبرير جريمة الانقلاب أمام من يعنيهم الأمر، رغم اختلاف مبررات الطرفين إلى حد التناقض، فالجاحدون يتهمون النهضة بالجمود والتشدد بل وصل الأمر ببعضهم إلى حد الاتهام بالإرهاب أو بالتحالف مع جماعات إرهابية، أما الجامدون فيتهمون النهضة بالتميع والتحلل والتفلت والمروق من الدين، وبتقديم التنازلات التي وصلت إلى حد التفريط بالثوابت، ومن ثم فإن المؤامرة التي تستهدف إقصاءها من الساحة التونسية إنما هي عقاب إلهي لتفريطها بدينها!
ويستغرب المرء من وجود مجاميع عريضة تردد اتهامات الطرفين للنهضة كأنها حقائق ثابتة، رغم تناقضها الواضح لمن كان له نصيب من عقل، فقد جعل الجاحدون المبالغة في التدين سببا لمشكلة النهضة، وجعل الجامدون الانفلات من الدين سببا للعقوبة، وتشتد الغرابة أكثر من ضعف إعلام الحركة في فضح هذا التناقض الذي يدل على مؤامرة واضحة، بجانب عشرات القرائن الأخرى، ولا سيما أن كل طرف يتجه بخطابه إلى شريحة مختلفة من المجتمع التونسي، وفي المحصلة النهائية فإن الطرفين يتكاملان ويتخادمان بصورة عملية وإن لم توجد اتفاقات موقعة وتفاهمات معلنة!
ويزداد التقارب بين الطرفين في الميدان في مسألة الحديث عن استخدام النهضة للدين كأداة للوصول إلى السلطة وحيازة الدنيا، وفي مسألة الاتهام بالفساد وبالمسؤولية عن كل الإخفاقات والتراجعات التي يعاني منها المجتمع التونسي، رغم أن النهضة لا تمتلك إلا نصيبا بسيطا من السلطة!
ومما يؤكد أن الأمر وصل إلى حد التخادم بين أهل الجحود والجمود، تكرر الأمر ذاته في مصر وليبيا واليمن وسوريا، وإن اختلفت الأسماء والتفاصيل، مع وقوف ذات الأطراف الدولية والإقليمية خلف موجة التحريض والتمويل والتخطيط.